سترة حكومة الحص
قبل عودتي من طرابلس، أردت أن أفتح أرشيف ثيابي، في خزانة الملابس. أنظر بشوق وحنين إلى السترات و القمصان المتراصة، أتأملها قليلا، أراجع فيها صفحات الحنين للسنوات القديمة، مثلما نحن إلى الدفاتر والكتب القديمة.
وجدتني أخطف منها، من حيث لا يراني أحد، سترة كنت قد إشتريتها عن التل بطرابلس، من محل محمد العرداتي. وكان قد أفرد واجهة خاصة للبضاعة الأوروبية، من ثياب وأحذية.
أذكر أني كنت خارجا من جلسة مع الأصدقاء في مقهى الأندلس، بين الثامنة والعاشرة صباحا. فصادف مروري أمام محل العرداتي للألبسة الرجالية. فتلقاني صاحب المحل بصدره، وبوجهه البشوش. وأخذني بذراعي إلى داخل محله. عرض علي سترة لماركة أوروبية مشهورة. وقال لي: إنه إختارها لي، لأنه يحسن إستنساب الجسوم لبضاعته. وأن هذة السترة التي يريني إياه، تليق بي كما أليق أنا بها. وأنه إنتخبني من بين سائر زبائنه، لأنه لا يريد “شرشحة” هذة السترة عند غير.
كانت السترة بلونها الأخضر الفاتح، فضلة بضاعته. وكان لونها الأخضر، هو الذي لم يجعلها نافقة عنده.، كما أعتقد.
أغراني صديقي، وهو تاجر شاطر، وقد تعودت على تزيينه لبضاعته، بأسعارها المخفضة، وتنزيلاتها المغرية.
كان الزمان، مثل هذة الأيام: الدولار محلقا بثلاثة آلاف ليرة. والتجارة في كساد. والزبائن ينظرون إلى الواجهات، ولا يقدمون.
تعلق صاحبي بي. وأنا متعود عليه، لقربه من المقهى التي أرتادها صباح كل يوم. وكنا: هو وأنا نتسابق لتبادل التحيات الصباحية. وكنت إلى ذلك، أدخل إلى محله، بين الفينة والفينة، لسؤاله عن أسعار الثياب المعروضة في الواجهة، وعن نصيبي من التخفيض. وكان يعرف بمماكستي له. وكان أدرى بي. كثيرا ما أخرج بلا شراء، ولا أحرج.
هذة المرة، جذبني من ساعدي، وفرد لي سترة خضراء من نسيج المانيا. ومن صناعتها، فأحسست للتو أنني أمام “الكتاب الأخضر”، الذي كان يهدى ولا يشرى. وكان كذلك، يؤخذ حياء، بلا رغبة. فلا مماكسة ولا شراء، ولا ما يحزنون.
قلت في نفسي: “وجدتها”. فسوف تبقى هذة السترة في حلة جديدة، ما دمت حيا.
سترة خضراء لم يقبل أحد من أهل البيت بها. ولا قبلوا حتى، أن أقيسها. ولا أن أرتديها. لا في صالة البيت. ولا في مناسبة. ولا في عيد. وحين إرتديتها عنوة، صرخت صغرى الثلاث وقالت بلثغتها المحببة: صرت بابا مثل “الببغاء”.
منذ أيام،حملت هذة السترة البلقاء، “بين أمتعتي، لما إرتحلت عن الفيحاء مغتربا”. في آخر زيارة لها.
وعندما وصلت إلى البيت ببيروت، أخفيتها بين أغراضي، وحشرتها بين ملابسي، بحيث أراها، ولا يراها أحد غيري. لعلمي أنها مرفوضة من الجميع.
منذ يومين كان الليل باردا، في شارع الحمرا. قلت في نفسي، والناس هنا قلما تقيم إعتبارا للون الأخضر أو سائر الألوان الفاقعة، الصفراء والحمراء: لماذا لا أخرج بها الى المقهى في الحمرا، وقد إصفرت الشمس، ومالت إلى الغروب.
ووجدتني أضعها على كتفي. ووجدتني أنزل بها “دبدبة” في المصعد دون أن يراني أحد من الأهل أو من الجيران.
وعندما فتحت باب المصعد وهممت بالخروج، قابلني على حين غرة، أحد الجيران الجدد، وجها لوجه. ما كنت تحدثت معه، كما أذكر، إلا لمرة أو مرتين في السابق. قال لي سريعا وبلا تردد: “سلام، شو في شي مهرجان اليوم”.
أجبت صاحبي الجديد: لا.. لا مهرجان ولا أي حاجة. وتابعت الإفاضة عما يعتمل في قلبي قائلا له: هذة السترة مرصوفة في خزانتي، منذ “أيام حكومة الحص”. أردت أن “أحييها”. ومشيت. قلت ذلك إمعانا في القدامة. ومضيت.
إنتبهت لقولي، بعدما كنت تجاوزت مدخل البناية، وصرت في طريقي إلى المقهى في الحمرا.
راجعت قولي. ما دخل “حكومة الحص” بهذة السترة القديمة الفاقعة المهجورة. لماذا أجبته هذا الجواب الذي ربما لايفهمه.
وجدت في الجملة، نوعا مما يسمى “اللابسوس”. وله دلالة نفسية حتما.
صار عموم الناس اليوم، يلهجون ب”الحكومة”. صار تشكيل الحكومة مسيطرا على عقول الناس. صار الناس يتتبعون نشرات الأخبار على الشاشات، وفي عناوين الصحف. يريدون إلتماسا لخبر عن تأليف الحكومة. أو عن الإعتذار عن تأليف الحكومة.
صارت السنوات تمضي، على إيقاع التكليف والتشكيل والتأليف. صارت العثرات، تدفع إلى التأجيل. وصار لنا أن نعيش يوميا، في صورة تمديد التأجيل للإعتذار عن التأليف.
صار اللبنانيون يعيشون يومهم، على وقع تشكيل الحكومة. صاروا يراجعون تاريخ تشكيل الحكومات. صاروا يربطون أزماتهم، بأزمنة تشكيل الحكومات. لا بأزماتها فقط.
حقبات التاريخ اللبناني، كلها، إنما هي من عهود الحكومات. تحول اللبنانيون لتأريخ ما يقع لهم كما لوطنهم، بتاريخ الحكومات.
عرفت أخيرا ، لماذا قلت لجاري، أن سترتي من عهد “حكومة الحص”، حينما كانت تشرح الجارة لجارتها، إن إبنها البكر، ولد في زمن حكومة عمر كرامي. ايام حرق الدواليب. من رأس الناقورة حتى العريضة السورية. وأن الآخر ولد في عهد حكومة الحريري الأولى. حين أصبح الدولار بالف وخمسماية ليرة. بعد أن كان بثلاثة آلاف. وأن فستان إبنتها، كانت قد إشترته، في زمن حكومة سعد الحريري اليتيمة، بعد التسوية مع الرئيس ميشال عون.
تشكيل الحكومة في لبنان، صار يؤرخ للأزمنة. صار يؤرخ للعقوبات الأميركية. صار يؤرخ للعقوبات الأوروبية.
سمعت مؤخرا، أن الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي، “جوزيب بوريل”، قد أبلغ القيادات اللبنانية جميعا، بضرورة تشكيل الحكومة. “بوريل أطلق إنذار الفرصة الأخيرة: الحكومة أو العقوبات”.( الشرق الأوسط، ص 6، العدد15545/ 20/6/2021).
أذكر حقا، ما وقع لي في عهد حكومة الحص الثالثة، أني دسست السترة الخضراء في خزانة ملابسي. وأني دسست مصادفة معها، الكتاب الأخضر في مكتبتي، بعد عودتي من الجماهرية الليبية الإشتراكية العظمى. كلاهما ما لبست، ولا قرأت. وحينما هممت بإرتداء سترتي بعد عام ثلاثين، ما تذكرت وما ذكرت لجاري عنها، إلا أني إبتعتها في “عهد حكومة الحص”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية