(قصيدة النّثر الأدونيسية: حداثة اتّصال أم انفصال)
(Dr. Hamlaoui Wafiya د. وافية حملاوي )
أستاذة محاضرة بجامعة العربي بن مهيدي-أم البواقي – الجزائر
تخصّص: “البلاغة العربية وشعرية الخطاب”
رابط الندوة الفكرية الثالثة
يسرني بالبداية التوجه بالشكر إلى المنتدى العربي الاوروبي للسينما والمسرح والذي بنظم هذا الملتقى الأول لقصيدة النثر العربية ويخصص أيضا ندوات نقدية وفكرية وارحب بالزملاء والزميلات معنا في هذه الندوة الثالثة ضمن هذا البرنامج الثري واسمحوا لي بتقديم هذه الورقة المعنونة
قصيدة النثر الادونيسية : حداثة اتصال أم انفصال.
لقد كانت ديمومة التّغيرات التي طرأت على الساحة العربية في القرن العشرين، وما أفرزته من تلك التّبعات الفكرية و النّفسية والاجتماعية وتحوّلاتها المعقّدة، دافعا إلى أن تسعى الشّعرية العربية قُدما من أجل تحقيق حداثتها بعيدا عن القيود التّقليدية الثّابتة وعلى أساس التّحول في مفهوم الشعر بين حركة و أخرى، ظهر مفهوم جديد للشّعر. يجد فيه الشاعر الحرّية في التّعبير عن خلجات نفسه و فكره، وقد عُرف هذا المفهوم عام 1957، عندما أصدر “يوسف الخال” مجلة مخصّصة للشعر عرفت باسم “مجلة شعر”.
تُعد “مجلة شعر” اللّبنانية الرّائدة في مجال الدّراسات النّظرية، فلم تكتب ولو مقالة واحدة تعرّف بالشّعر الحر، فهذه المجلة لم تنطلق منذ تأسيسها من رؤية محددة لما يجب أن يكون عليه الشّكل الشّعري، بل إنها لم تنطلق من مفهوم جاهز للشّعر، و إنما توصلت إلى اكتشاف الأنماط الشعرية بفعل ” التجريب”؛ بحيث كانت محاولاتها جاهدة لكتابة قصيدة متملّصة من جميع قوانين الخطاب الشعري، سواء أكانت هذه القوانين تقليدية أم جديدة، فالمهم دائما هو التمرد على كلّ شكل من شأنه أن يحدّ من حرّية الشّاعر.
وما كان لهذه المجلة أن تفعل ذلك دون أن تمهّد لدعوتها تلك، بتفسير العوامل الموضوعية، التي تجعل منها نتيجة من نتائج التطوّر الطّبيعي الذي عرفته القصيدة العربية الحديثة.
ويمكن حصر تلك العوامل في عدة عوامل منها: (حسن مخافي، قصيدة الرّؤيا، ص143،144)
1- إنّ ثبات الشعر العربي في قالب واحد ، ولمدّة طويلة جعله في كثير من الأحيان يكرر نفسه باستمرار، و أمام عالم متغير يفرض أشكالا تعبيرية أكثر مرونة وملائمة، فإن الشّعر العربي، وانطلاقا من نزعة تجريبية واضحة، راح يبحث عن شكل شعري يستوعبه، فوجد في “قصيدة النثر” مبتغاه، نظرا لما تتميز به من خصائص تتيح له حرية التحرك.
2- تحرّر اللّغة العربية من الصّرامة التي كانت تميّزها قبل ظهور القصيدة الحديثة، ومن هنا يمكن اعتبار “قصيدة النثر” من ردود الفعل ضدّ القواعد الصّارمة النّهائية التي اتّسم بها الشّعر العربي القديم.
3- ترجمة الشّعر العربي، والجدير بالملاحظة أنّ “مجلّة شعر” قد أخذت على عاتقها نقل كمّ هائل من الشّعر الفرنسي و الإنجليزي معا إلى العربية، وكان النوع الذي ينتمي إلى قصيدة النثر يمثّل حصّة الأسد فيما نقلته.
يعدّ "أدونيس" أحد أهمّ كتّاب القصيدة ومنظّريها، فقد تنوّعت تجاربه الشّعرية في هذا المجال، وقدّم قصائد نثرية مهمّة ومتميّزة، حتّى إنّ مصطلح "قصيدة النّثر" ظهر فيما يبدو أوّلا في مقالة له نشرها عام 1960 في "مجلّة شعر"، وهذا المصطلح مستقى من كتاب الكاتبة الفرنسية "سوزان برنار" وعنوانه (قصيدة النّثر من بودلير إلى أيّامنا)، وصدرت طبعته الأولى عام 1959، واعترف أدونيس نفسه باعتماده في إطلاق هذا المصطلح على كتاب "سوزان برنار". (مرشد الزبيدي، اتجاهات نقد الشعر العربي، ص111)
ومن أهمّ المقالات التّي نشرها أدونيس، وكان لها الدّور الفاعل في رفد حركة قصيدة النّثر وتحفيز الشّعراء والكتّاب للكتابة عنها، مقالة (محاولة في تعريف الشّعر الحديث)، والتّي أعيد نشرها أكثر من مرّة وكانت تحتوي على مجموعة من الأبعاد التّي تبدو جديدة أمام المتلقّين، لكونها تطرح مفهومات جديدة عن ماهية الشّعر، ولكونها وضعت تفريقا واضحا بين الشّعر القديم والشّعر الحديث، ومقالته الأخرى (في قصيدة النّثر) التّي عدّها أدونيس نفسُه طرحا جديدا على السّاحة الأدبية عامة، والشّعرية خاصة. (سامر فاضل عبد الكاظم الأسدي، مفاهيم حداثة الشّعر العربي في القرن العشرين، ص 304، 303).
لقد قام أدونيس بقراءة النّصوص التّراثية وخاصة نصوص التصوّف، حيث وجد فيها تجسيدا حيويا لمعنى الشّعرية المتجاوزة للنّمط الشّعري السّائد والتّقليدي، إضافة إلى تأثّره بالشّعر الغربي، خصوصا الرّمزي والسوريالي، فإفادته منهما جعلته يتحرّك إلى ما وراء الواقع والخيال بشكل لافت في نتاجه الشّعري خاصة، فهاهو يقول: (إنّني كنت بتأثير من الصّوفية العربية الإسلامية وقراءة "ريلكه" و "نوفاليس" أهمل الأشياء التّي تدخل في مجرى الحياة اليومية المباشرة) (أدونيس: هاأنت أيّها الوقت، ص74)، فالنصّ القرآني والنصّ الصّوفي يمكن أن يكونا تبريرا جيّدا ومقبولا عند أدونيس للعبور نحو قصيدة النّثر الغربية.
عندما وقع أدونيس على نصّ "النّفري" أصيب بالدّهشة لما فيه من أبعاد تتوافق ومنحاه التحوّلي والحداثي، نصّ لم يتوقّع وجود مثله في التّراث، نصّ يتّضح فيه البعد الشّعري تماما، كما تفكّر فيه وتسعى نحوه الشّعرية الغربية الحداثية المحطّمة لفكرة الأجناس الأدبية المنفصلة والمتمايزة بخصائصها، ولهذا يحتفي أدونيس بنصوص المتصوّفة، فها نحن نجده يقول في كتابه "الشّعرية العربية" (هكذا يبدو نصّ "النّفري" قطيعة كاملة مع الموروث في مختلف أشكاله وتجلّياته، وبهذه القطيعة يجدّد الطّاقة الإبداعية العربية، ويجدّد اللّغة الشّعرية في آن (...) إنّه يكتب التّاريخ برؤيا القلب ونشوة اللّغة، يرفع الكتابة الشّعرية إلى مستوى لم تعرفه قبله، في أبهى وأغرب ما تتيحه اللّغة. وللمرّة الأولى نرى فيه قلق الإنسان وتعطّشَه وتساؤلَه أمواجا تتصادم جزرا و مدا، في حركة من الغياب والحضور في أبدية من النّور.(أدونيس، الشّعرية العربية، ص66)
وتجربة النّفري الصّوفية دليل على حداثته في القدم كما يرى أدونيس، ولهذا حاول أن يجد لقصيدة النّثر امتدادا تاريخيا عميقا في القدم. ففي التّراث العربي الصّوفي يجد الشّاعر العربي (أنّ الشّعر لا ينحصر في الوزن، وأنّ طرق التّعبير في هذه الكتابات، وطرق استخدام اللغة، هي جوهريا شعرية، وإن كانت موزونة).(أدونيس، سياسة الشّعر، ص76)
إنّ هذه الكتابة –الصّوفية- تقع في خلاف مع التّجربة الشّعرية العربية القديمة، والتّي تتميّز إجمالا بالخيطية، بينما تميل الشّعرية المعاصرة إلى جعل القصيدة عمودية وشبكية، فليست التّجربة الصّوفية مجرّد تجربة جديدة في النّظر، وإنّما هي أيضا تجربة جديدة في الكتابة أنتجت جنسا ثالثا (سفيان زدادقة، الحقيقة والسّراب، ص417)، (إنّها نظرة أُفصح عنها بالشّعر، وزنا ونثرا، أو بلغة شعرية إبداعية وسعت حدود الشّعر، مضيفة إلى أشكاله الوزنية أشكالا أخرى نثرية، نجد فيها ما يشبه الشّكل الذّي اصطلح على تسميته في النّقد الشّعري الحديث بقصيدة النّثر.(أدونيس، الصّوفية والسوريالية، ص22)
كان أدونيس وهو يقرأ الماضي من بين أوائل الشعراء العرب الذين حاولوا البحث عن أوجه التّشابه بين الصوفية والحداثة، ليصلوا إلى أنّ الحداثي يشترك مع الصوفي في عشقه للحرية، يرغب دائما في التحرّر من كلّ قيد ليصل في الأخير إلى درجة الفناء و العشق مع المطلق.
رأى “أدونيس” في فكرة التصوف ما لم يره في غيرها، فهي بالنّسبة له معين قوي على دعم مشروعه الكبير: مشروع نقد سلطة التّقليد و الرّجعية، وإذا كانت الصوفية على مستواها التاريخي ثروة فإن تحققها في النص الشّعري العربي الحديث يمده ( بمنطلقات إبداعية متحررة تجعله يتصف بالحداثة، كما تؤكد على تجذره في التراث، فالعبارة الصوفية في النص الشّعري تجعله متّصفا بحداثة ذات جذور، أو حداثة التواصل لا الانقطاع).
لقد أبدع ابن عربي في مجال الكتابة الصوفية في جميع الأنواع المتداولة في الإبداع الأدبي وعلى رأسها الشعر، وقد خص هذا النوع بديوانين هما:
الديوان الأكبر “المعارف الإلهية و اللطائف الروحية” وديوان “ترجمان الأشواق”، فنجد ابن عربي في فتوحاته متحدثا باسم كُتّاب المتصوفة، يقول:
(فإن تأليفنا هذا وغيره، لا يجري مجرى التّواليف، ولا نجري نحن فيه مجرى المؤلفين، فإنّ كلّ مؤلف إنما هو تحت اختياره، وإن كان مجبورا في اختياره، أو تحت العلم الذي يبثه خاصة، فيلقي ما يشاء ويمسك ما يشاء، أو يلقي ما يعطيه العلم وتحكم عليه المسألة التي هو بصدرها حتى تبرز حقيقتها. ونحن في تواليفنا لسنا كذلك، إنما هي قلوب عاكفة على باب الحضرة الإلهية، مراقبة لما ينفتح له الباب فقيرة خالية من كل علم، لو سُئلت في ذلك المقام عن شيء، ما سمعت لفقدها إحساسها. فمهما برز لها من وراء ذلك الستر بادرت لامتثاله، على حسب ما يَحد لها في الأمر ، فقد تلقي الشيء إلى ما ليس من جنسه في العادة والنظر والفكر. وما يعطيه العلم الظاهر و المناسبة الظاهرة للعلماء لمناسبة خفية، لا يشعر بها إلا أهل الكشف، بل ثَمَّ ما هو أغرب عندنا إنه يلقي إلى ذي القلب أشياء يؤمن بإيصالها وهو لا يعلمها في ذلك الوقت لحكمة إلهية غابت عن الخلق). ( الفتوحات المكية، ابن عربي، تح: عثمان يحيي، ص 13).
انطلاقا من هذه المقولة بنى أدونيس تصوره عن الكتابة الصوفية والتي يرى فيها روحا مشابهة لقصيدة النثر إلى حد كبير، فالصوفية قد تجاوزوا الأطر المسيّجة للكتابة في الثقافة العربية الإسلامية التقليدية على مستوى الموضوعات وبنائها الفني، إذ تجاوزوا بنية اللّغة الشّعرية المتوارثة على صعيد المعجم، وبالتالي كان لهم جهازهم الاصطلاحي الخاص ورموزهم التي تدل على عالمهم، حيث جعلوا من الكتابة فعلا من أفعال الذات أو الجسد.
لقد تجاوزوا اجترارية وتقليدية اللّغة، حيث صيّروها إلى ألفاظ شفافة مضيئة متجردة من دلالاتها التقليدية لتكتسي بأخرى، أي إنها لغة مهمتها اكتشاف بكارة المعاني، كما أنها أضافت- أي الكتابة الصوفية- إلى الشّعر أشكالا وزنية أخرى نثرية، نجد فيها ما يشبه “قصيدة النثر”.
وبالتالي فأدونيس قد أعاد قراءة الصوفية الإسلامية قراءة جديدة، يخرجها من كونها مجرّد مدوّنة عقدية إلى كونها كتابة جديدة همّشها التّراث الرّسمي، لقد رأى فيها كتابة عربية تراثية معتقة بنار الحداثة، تحاول مدّ جسور خفية بين المرئي واللامرئي، كما تحاول اكتناه المجهول وعناق المطلق، يقول: ( ليست التجربة الصوفية في إطار اللغة العربية مجرد تجربة في النظر، وإنما هي أيضا، وربما قبل ذلك تجربة في الكتابة، وهي في ذلك على صعيد الكتابة، حركة إبداعية وسعت حدود الشعر، مضيفة إلى أشكاله الوزنية أشكالا أخرى نثرية نجد فيها ما يشبه الشكل الذي اصطلح على تسميته في النقد الشعري الحديث بــ”قصيدة النثر”).
هنا تحديدا تكمن أهمية الحركة الصوفية بحسب أدونيس، ذلك أنها مثّلت مناهضة لتراث الّتقاليد المؤسساتي، حيث كانت قراءة جديدة للأصول وتأكيدا على السير نحو”التجريب” حيث اللانهائية واللاقيدية في ساحة الإبداع والفكر، إنها ببساطة تجاوزت تراث القوانين التي تقيم تراث الأسرار.
لم يعد الشّاعر اليوم ينطلق من همّ واقعي أو اجتماعي أو رسالة سياسية أو هدف إصلاحي، كما لم يعد مشغولا بأن يكون واضحا أو مقروءا أو مفهوما، تقوقع على ذاته واتّجه صوب عالمه الدّاخلي الذّي صار وحده منبع الإبداع، الإبداع على غير مثال سابق.
هذا النّزوع هو ما يجعل قصيدة النّثر العربية الجديدة شديدة الشّبه بقصيدة النّثر السّوريالية، وذلك كون هذه القصيدة نفسها تتمثّل الإرث الذّي انتهى إليها من بودلير و رامبو و لوتريامون و مالارميه، بعد أن مهّدوا لها بصياغة مفهوم جديد للشّعر أساسه الرّؤيا ونشدان المجهول والمطلق.
تطمح قصيدة النّثر إلى تشكيل إيقاع خاصّ بها، بالاستعاضة عن النّظام التّقليدي، وذلك بانسجام داخلي لا يفتأ يتجدّد ولا يخضع إلّا لحركة الرّؤيا وانتّجربة الشّخصيتين، كما أنّها تطمح إلى إتاحة كلّ الحرية للفكر والخيال.(سامر فاضل عبد الكاظم الاسدي، مفاهيم حداثة الشعر الغربي، ص348)
فالبنية الايقاعية التي تقوم عليها قصيدة النثر (بنية ذاتية خاصة تلغي ما يمكن من شكلية موسيقية خارجية، وتقوم على موسيقى داخلية تنبع من الحدس بالتجربة الشعرية، تجربة أحالت الّتفجير محل التسلسل، والرؤيا محل التفسير)،(مرشد الزبيدي، اتجاهات نقد الشعر العربي، ص113) بمعنى أنّها تطمح للاستغناء عن بحور الخليل “بانسجام داخلي” لا يفتأ يتجدّد ولا يخضع إلّا لحركة الرّؤيا والتّجربة الشّخصيتين، فالوزن والقافية هما القيدان الرّئيسان اللذّان وضعا الشّعر تحت طاولة الخضوع، ولابدّ من تجاوزهما. ويرى أدونيس أنّ قوانين الخليل العروضية فرضت على القصيدة التزامات كيفية تقتل دفق الخلق، أو تعيقها أو تقسّرها، فهي تجبر الشّاعر أحيانا على التّضحية بأعمق حدوسه الشّعرية في سبيل مواضعات وزنية كعدد التّفعيلات أو القافية (في قصيدة النثر، أدونيس، ص76)
في حوار لأدونيس مع هاني الخيّر، والذّي جاء في كتاب هذا الأخير “أدونيس شاعر الدّهشة وكثافة الكلمة”، سُئل أدونيس ( إلى أيّ مدى نجحت القصيدة النّثرية في تعويض القارئ العربي عن قناعاته بالقصيدة التّقليدية التّي رسخت في وجدانه لقرون طويلة؟ فأجاب بقوله: “لايمكن في المرحلة التّاريخية المنظورة، أن تعوّض قصيدة النّثر عن قصيدة الوزن، وليس مطلوبا من قصيدة النّثر أن تعوّض عن قصيدة الوزن، فقصيدة الوزن باقية ولها حضورها ولن تموت، وكل ما ينبغي ملاحظته في هذا الصّدد هو أنّ هناك إمكانية لدى العربي في أن يعبّر شعريا بقصيدة النّثر، وليست المسألة مسألة تطوّر أو إمكانية الاستغناء عن الوزن أو البحور الخليلية، لقد أصبح أمام الشّاعر العربي خيار وإمكانية جديدة، إذ لم يرد أن يعبّر بالوزن، يستطيع أن يعبّر بالنّثر، وأعتقد أنّ هذا لا يضير النّثر العربي واللّغة العربية. ولو كان الخليل نفسه موجودا لما ثار هذه الثّورة التّي ثارها بعضهم باسمه اليوم. وكأنّ قصيدة النّثر هي الخراب الذّي سيهدّم اللّغة العربية والتّراث الشّعري العربي، ولا أدري كيف ينسى هؤلاء النقّاد الجبال الهائلة والمحيطات الضّخمة الهاجمة على العرب وثقافتهم، من كلّ صوب، بينما هم يتمسّكون بالتصدّي لمسألة بسيطة جدّا كقصيدة النّثر. إنّني أستغرب حقيقة مستوى تفكير واهتمام هؤلاء النقّاد).
لقد كانت مقولة أدونيس هذه فعلا رأيا توفيقيا منصفا في حقّ كلّ من هاتين القصيدتين، قصيدتان تعيشان وتتعايشان معا، وفي الوقت نفسه لا تلغي إحداهما الأخرى، كما لا يمكن للنّقد أن يُخضع قصيدة النّثر لضوابطه، لأنها قصيدة متمرّدة منفلتة من كل قيد، فالشعراء في ظلّها هم وحدهم النقاد لفنّهم وإبداعهم، كما أنّهم مختلفون في أفكارهم، وإمكاناتهم الشّعرية متباينة تباينا ملحوظا، كما أنّ أساليبهم في الكتابة قد تعدّدت إلى الدّرجة التّي اكتسبت فيها قصيدة كلّ واحد منهم صفات خاصّة لا تنتهي إلّا إلى الشّاعر نفسه، إذ يمكن القول إن محمد الماغوط يكتب قصيدة نثر ماغوطية، و أدونيس يكتب قصيدة نثر أدونيسية و بدر السّويطي يكتب قصيدة نثر سويطية، وهكذا… وبالتّالي فالحركة النّقدية لابدّ لها أن تكون خير رفيق ومُعين لهذا الجنس الأدبي الفريد من نوعه، وهذا كلّه إثراء للسّاحتين الأدبية والفكرية على حدّ سواء.
الكاتبة جميلة جدا