تونس / ميزان الزمان / اتّحاد الكتّاب التونسيين / الجمعة 18 جوان ( حزيران ) 2021
..
ضيفة نادي الشعر الشاعرة والفنانة التشكيلية سليمى السرايري بدعوة من رئيسه الأستاذ عبد العزيز الحاجي، حلّت الشاعرة والفنانة التشكيلية سليمى السرايري ضيفة على الاتحاد وذلك للإحتفاء بديوانها الشعري الجديد : “حين اشتهانا الغرق ” ..
حضر هذه الأمسية جمهور الشعر والأدب من أصدقاء الشاعرة الذين غصّتْ بهم قاعة الندوات “محمد العروسي المطوي” بمقر اتّحاد الكتاب التونسيين لدرجة البعض ظلّ واقفا طيلة الجلسة.
قراءة الناقد بوراوي بعرون لديوان الشاعرة سليمى السرايري :
وفي المناسبة القى الناقد والشاعر الاستاذ بوراوي بعرون كلمة قدم فيها الشاعرة سليمى السرايري وقدم قراءة نقدية ودراسة أكاديمية وتفصيلية لديوانها ” حين اشتهانا الغرق ” , وهنا النص الكامل لكلمته :
تجلّيّات لذّة الكتابة ومتعة التّلقّي بين الفجوات والفراغات في ” حين اشتهانا الغرق ” للشّاعرة سليمى السّرايري
(بقلم الناقد التونسي بوراوي بعرون)
-×-×-×
تصدير: ” إنّ بارت، في كتابه ” لذّة النّصّ ” le plaisir du texte، يستدرج مفهوم القراءة، إلى لعبة الإغراء، فالقارئ حينما يقرأ عملا ما، ويستشعر في ذلك نوعا من اللذّة، فلأنّ هذا العمل كان قد كتب بتلذّذ. ولبلوغ هذه العتبة من الكتابة، على الكاتب، في نظر رولان بارت، أن يستدعي قارئه، وأن يراوده عن نفسه، عبر جدليّة الخفاء و التّجلّي. يقول بارت بهذا الخصوص: ” لذّة النّصّ هي اللّحظة التي يتّبع فيها جسدي أفكاره الخاصّة، لأنّ للجسد أفكارا ليست كأفكاري” د. محمد الدّيهاجي، مناهج النّقد الأدبي .. ملاحظات و مآخذ ، عالم الفكر، العدد 182، ابريل-يونيو 2020، ص128.
” حين اشتهانا الغرق ” هو العنوان الذي اختارته الشّاعرة سليمى السّرايري لمجموعتها الشّعريّة الجديدة التي صدرت أخيرا عن ” أقورا غرافيك ” سنة 2021، في حجم متوسّط، الطّبعة الأولى في مائة و تسعين صفحة تتضمّن مائة و تسعا و أربعين ومضة تتشكّل في ستّ باقات بالإمكان اعتبار كلّ باقة منها نصّا مكتملا بذاته، وهكذا يجد القارئ نفسه إزاء مفارقة لافتة: نصوص طويلة ذات بنيات مقطعيّة / ومضات، ونصوص قصيرة / ومضات، تكاد كلّ ومضة تستقلّ بذاتها، بل هي كذلك بالفعل. الإشكالية إذن هي: كيف يمكن الجمع بين الإطالة / الإطناب و الإيجاز / الاختصار لتشكيل نصوص شعريّة هي من ناحية ضرب من الوحدة في سياق التّعدّد وهي من ناحية ثانية ضرب من التّعدّد في صيغة المفرد. هل نحن إزاء ضرب من التّجديد؟ أي الخروج عن التّقليد، والتّكرار، والإتيان بالمغاير و المختلف، ثمّ لماذا هذا الإصرار من قبل الشّاعرة على الإصدار بلغتين مختلفتين؟ أليس في ذلك ضرب من المغامرة و التّجريب؟ ترى إلى ايّ حدّ نجحت الشّاعرة في تحقيق مشروعها المتفرّد ” أي مجموعتها ” حين اشتهانا الغرق “؟ للتّفاعل مع هذه التّساؤلات ارتأينا ضرورة اختيار مقاربة تولي جماليّات التّلقّي الاهتمام المطلوب كما أسّس لها كلّ من ” H.R.Jauss / ياوس ” و ” WolfgangIzer / إيزر ” ومن أهمّ مفاهيم هذه الجماليّات حسب هذين المؤسّسين نذكر : ” أفق التّوقّع ، المسافة الجماليّة ، ملء الفجوات / الفراغات،القطب الفنّيّ ( ما يبدعه الكاتب ) والقطب الجماليّ ( ما يتمثّله القارئ / المتلقّي )، القارئ الضّمني ( القارئ الحاضر في ذهن الكاتب / المتوقَّع )،التّأويل، الخ … وارتأينا أن نفعّل في هذه القراءة ما تعلّق بتجلّيّات لذّة الكتابة وجماليّات متعة التّلقّي من خلال ملء الفراغات / الفجوات في نصوص ” حين اشتهانا الغرق، ولتحقيق ذلك اعتمدنا التّمشّي التّالي: أوّلا، نظرنا في جماليّات العنوان وبقيّة العتبات، وتطرّقنا ثانيا إلى جماليّات التّدلال وآفاقه، وخلصنا ثالثا إلى جماليّات التّجديد و التّجريب الفنّيّين، وانتهينا ختاما إلى أهمّ الاستنتاجات.
جماليّات العنوان وبقيّة العتبات
” حين اشتهانا الغرق ” دالّ يحيل على لحظة ما، على زمن محدّد، هو زمن الاشتهاء، اشتهاء الغرق، المثير للدّهشة هو كيف يشتهي الغرق، كيف للغرق أن يشتهيَ؟ نحن هنا إزاء غرق بمعنى آخر، غرق ليس في الماء، بل هو غرق في حال من جنس آخر، لعلّه الغرق في الحبّ، أو الغرق في الحلم، أو لعلّه الغرق في الكتابة وما أدراك ما الكتابة … والكتابة حبّ وهيام والكتابة حلم وتيه والكتابة خلق للعالم من جديد وإعادة تشكيل للموجود وفق رؤية الكاتب وأحلامه و تعلّقه بالأشياء، حبّ لا يتوقّف إلاّ بتوقّف الحياة … عندما نتصفّح المجموعة الشّعريّة ” حين اشتهانا الغرق ” تستوقفنا ” حين ” في ومضات عدّة، ( ستّ وعشرون مرّة ) ويستوقفنا ” الاشتهاء ” ويستوقفنا ” الغرق “. في الومضة الأولى:
” كَانَ يَرْوِي لَهَا تَفَاصِيلَ أَمْوَاجِهَا الثَّائِرَة
بَيْنَمَا هِيَ،
كَانَتْ تَعُدُّ الدَّقَائِقَ لِلْغَرَقِ الْقَادِمِ… “
( حين اشتهانا الغرق / ص34 )
الغرق القادم يسبقه غرق تمَ قبله مرّة أو ربّما مرّات عدّة، الغرق في هذا المقام هو من قبيل الغرق في أحضان الحبيب، أو الغرق في هيام الحبيب، أو ربّما الغرق مع الحبيب في لحظة عشق تتخلّلها أمواج ثائرة، هي لحظة تواصل عاصفة، ذات تفاصيل يرويها الحبيب مثلما يروي البحّار تفاصيل العاصفة التي واجهها في سفرته الأخيرة، الاستعارة دالّة وتشبيه التّواصل السّحريّ بين الحبيبين بركوب العواصف والغرق في المياه الثّائرة تشكيل فنّيّ بديع يجعل من الومضة ” لفتة ” رائعة. تحيل على مغامرات ” أوليس ” في الأوديسة والسّندباد البحريّ في ألف ليلة وليلة كما تحيل لوحة سامي السّاحلي على الصّفحة الأولى من الغلاف على تلك العوالم العجيبة، ” بيضاء الثّلج ” في قصص الأطفال العالميّة و” شهرزاد ” في ألف ليلة و ليلة وهي الأقرب للشّاعرة سليمى السّرايري بما أنّهما تشتركان في الإغواء بالحكاية، شهرزاد ضدّ الموت المتربّص بها كلّ ليلة وبالكتابة، سليمى السّرايري ضدّ العدم المتربّص بالجميع، بحثا عن الخلود بالإبداع في استحضار لقولة ” درويش ” في جداريّته الخالدة ” هزمتك يا موت الفنون جميعها “. العناوين الفرعيّة للباقات الدّاخليّة هي: ” محطّات عاشقة صص34-91، ثمان وخمسون ومضة / وجع الحرف صص94-114، واحد وعشرون ومضة / حقائب سفرصص116-134، تسع عشرة ومضة / أوجاعنا الأخرى صص136-157، اثنان و عشرون ومضة / وجع الرّحيل صص160-169، عشر ومضات / محطّات دافئة صص172-190، تسع عشرة ومضة ” هذه العناوين الدّوالّ تدور في أفلاك دوالّ أخرى هي: ” محطّات، أوجاع، حقائب، رحيل / سفر، عشق، دفء ” وبالإمكان اختزالها في دالّتين جامعتين هما: ” الرّحيل والوجع ” حيث تكون المحطّات سواء كانت عاشقة أم دافئة علامات دالّة على الرّحيل / السّفر، السّفر العادي من مكان إلى مكان، أو السّفر المجازي مثل العشق وهو ضرب من التّرحال في المشاعر والعلاقات وترحال عجيب في الوجود. الومضة المميّزة على قفا الغلاف تقول:
” الْغُرْفَةُ الَّتِي ظَّلَّتْ وَحِيدَةً
عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ،
سَكَنَتْهَا طُيُورً عَاشِقَةٌ “
( حين اشتهانا الغرق / ص85 )
هي ومضة من الباقة الأولى بعنوان ” محطّات عاشقة ” وهي ومضة تتكوّن من ثلاثة أسطر قصيرة وعشر مفردات، في إيجاز لافت، وتكثيف دالّ، ففي مركّب إسناديّ واحد / جملة إسميّة، “الغرفة التي ظلّت وحيدة على سطح البيت “( مسند إليه / مبتدأ ) و ” سكنتها طيور عاشقة “( مسند / خبر )، في جملة واحدة كثّفت الشّاعرة الدّلالة وجعلت الجملة تفيد أنّ الغرفة المهجورة أو الفارغة التي تقع على سطح البيت، لم تبق وحيدة، لقد سكنتها طيور عاشقة. هنا تتقاطع الومضة الشّعريّة مع القصّة القصيرة جدّا. لكأنّنا إزاء حكاية خاطفة، الغرفة بقيت وحيدة، ربّما البيت كذلك هجره أهله، هذه الغرفة تقع على سطح البيت ( الإطار المكاني ) لم تبق على تلك الحال لقد سكنتها طيور، هي ليست خائفة أو مهاجرة، هي طيور عاشقة ( أوصاف و موصوفات )، نحن هنا في حضرة العشق، فهل نحن فعلا إزاء طيور يعشق بعضها بعضا أم تذهب بنا الشّاعرة إلى ما وراء ذلك أو أبعد منه؟ … العنوان الجامع ” حين اشتهانا الغرق ” والعناوين الفرعيّة السّتّة واللّوحة / الرّسم والومضة المميّزة مؤشّرات تثير لدينا التّساؤل عن علاقة هذه العلامات / المفاتيح بالمتن داخل الكتاب / الومضات: ترى هل أنّ الشّاعرة تحتفي داخل ومضاتها بالعشق و الاشتهاء؟ ترى هل أنّها تعتبر في هذه الومضات العشق ترحالا أي سفرا لا يخلو من أوجاع ومتاعب وتراه ضربا من ضروب الغرق؟ هل أنّ الومضاتِ محطّاتٌ فاصلة بين غرق وغرق آخر؟ أم هي جزر تكاد تكون متقايسة الأحجام في أرخبيل أوسع هو النّصّ / الباقة والنّصّ الأوسع / الباقات أي المجموعة كاملة؟ إلى أيّ حدّ نجحت الشّاعرة سليمى السّرايري في إجادة لعبة الإيجاز و التّكثيف ومن ثمّة الإثارة والإدهاش المطلوبين في الكتابة وفق تقنية الومضات؟
في جماليّات التّدلال وآفاقه
الدّالّتان الجامعتان: الرّحيل / السّفر والوجع / العشق، تشدّان إليهما الدّوالّ الأخرى في علاقة بالذّات الشّاعرة التي تتوجّع وتعشق والتي ترحل وتغرق في ملكوت العشق، هي الشّاعرة تحتفي بالعشق على خطى شعراء العربيّة الكبار: عبد الله ابن أبي ربيعة، وبشّار بن برد، وأصحاب الموشّحات، وصولا إلى نزار … وتختلف معهم فتجرّب وتجدّد وتبدع عشقا آخر مختلفا … تقول الشّاعرة في الومضة الخامسة من الباقة الأولى:
لَمْ أَرْسُمْ صُورَتِي عَلَى الْمَوْجِ
حِينَ ضَمَّنَا الْبَحْرُ
كُنْتُ أُحْصِي عَدَدَ الْيَمَامَاتِ الْبَيْضَاءِ
عَلَى فَمِي ..
( حين اشتهانا الغرق / ص38 )
الشّاعرة الرّسَّامَةُ لم ترسم صورتها على الموج، وكيف لها مهما كانت مبدعة أن تجعل من الموج محملا لصورتها، الموج هنا في بحر المجاز هو هو المجاز الذي يجعل من البحر فضاء للغرق المشتهى، أي للانتشاء والسّفر في لحظة العشق الآسرة، التي تمنع الشّاعرة من ممارسة هواية الرّسم وتجعلها قادرة على الإحصاء فقط، إحصاء عدد اليمامات البيضاء أي القبلات، الاستعارة بديعة، القبلات يمامات بيضاء، في الصّورة تشكيل يوظّف رمزيّة اليمام / السّلام و الحبّ والحرّيّة، ورمزيّة اللّون الأبيض / الحبّ و التّفاؤل والنّقاء … وتظهر القبل في إيحاء باد يختلف عن التّصوير القديم في ما جاء في أثر ابن الرّومي مثلا حيث يقول: ” فألثم فاها كي تزول حرارتي / فيشتدّ ما ألقى من الهيمان ” ( أروع ما قيل في جمال المرأة لإميل ناصيف ص98 ) وفيه تصريح بما للقبل من أثر على الحبيب، وكذلك يختلف عن التّصوير الحديث حيث يقول رياض المعلوف: ” أقبّلها وهل قبلي تعدّ / فيرقص ثغرها بفمي ويشدو ” ( المصدر نفسه ص101 ) الصّورة الأخيرة أقرب لما جاء في الومضة أعلاه، إلاّ أنّ الإيحاء في البيت الأخير يكاد يكون منعدما لفائدة التّصريح و المباشرة. وتمضي الشّاعرة في الارتحال في بحار العشق وأمواج الغرق ففي ومضتها السّادسة من الباقة الأولى تقول:
” لَمْ أَكُنْ أَشْتَهِي قُبْلَتَكَ
حِينَ اشْتَعَلْتُ شَوْقًا
كُنْتُ فّقّطْ،
أَمْتَطِي صَهْوَةَ الْاحْتِرَاقِ “
( حين اشتهانا الغرق / ص39 )
تعترف الشّاعرة أنّهَا تشتعل شوقا لملاقاة حبيبها، لكنّها تؤكّد أنّها لم تكن تشتهي قبلته حينئذ وإنّما كانت تمتطي صهوة الاحتراق. الومضة شعلة من نار، هي نار الشّوق وهي امتطاء لصهوة الاحتراق. لم يعد الاشتهاء اشتهاء قبل، مجرّد قبل، بل صار احتراقا. هو انصهار في عشق المحبوب، هو العشق الأعمق، هو الالتحام والغياب والتّيه في سحر الاشتهاء الخالص. ألسنا إزاء الوجع؟ وجع الاحتراق، ألسنا إزاء السّفر؟ امتطاء الصّهوات، ألسنا إزاء الغرق؟ الغرق في النّار هذه المرّة، تشتهي الشّاعرة الغرق في الماء بين الأمواج تارة وتشتهي الغرق في النّار احتراقا تارة أخرى وهي في الحالين إنّما تشتهي ما به يتحقّق الاشتهاء في حضرة الحبيب، الماء والنّار رمزان للذّوبان في العشق وهما رمزان للحياة لكأنّ الشّاعرة تستحضر بهما ما لهما من مكانة في التّراث الثّقافي البشري الفلسفي والدّيني وفي تشابكهما حيث يتبنّى ( هيراقليطس ): ” نظريّة كوسمولوجيّة قائمة على” انسجام الكلّ “، وذلك لتساوي قوّتين متضادّتين: النّار المحرّكة والماء المغذّي، … ” ( مصطفى الكيلاني، التّأويل المحايث و التّأويليّة / ص45 ). وكان ” طاليس ” قد اعتبر أنّ الماء هو أصل الحياة والخلق متّفقا مع أسطورة الخلق البابليّة الواردة في ملحمة ” جلجامش ” في حين ذهب ” أناكسماندر ” إلى أنّ النّار هي الأصل ونجد ديانات عدّة تقدّس النّار وتتخذها آلهة مثل المجوس. ما بين الماء والنّار، بين القبلة والاحتراق تقول الشّاعرة:
” الْقُبْلَةُ،
عُشْبٌ طِبِّيٌّ لِلشِّفَاهِ.
يَصْنَعُ جَرْعَةً لَذِيذَةً
لِلْاِحْتِرَاقِ “
( حين اشتهانا الغرق / ص44 )
في تشبيه بليغ ترى الشّاعرة في القبلة دواء، هو من قبيل العشب الطّبّيّ للشّفاه، هذا العشب يصنع جرعة لذيذة، الدّواء عادة لا يكون لذيذا بل هو عكس ذلك يكون ذا طعم غير مرغوب فيه، تتذوّقه الشّاعرة لذيذا وهي تراه كذلك لأنّه يجعلها في حضرة الاحتراق، اللّذّة المشتهاة. هي التي يفيض مدادها قبلات دافئة لشتاء بارد، هي هي اللّيلة التي منحت الشّاعرة وحبيبها الغرق و الجنون ( حين اشتهانا الغرق / ص50 ).
في جماليّات التّجديد و التّجريب الفنّيّين
كتابة الومضة الشّعريّة ضرب من التّجديد و التّجريب معا، فالعدد الأدنى للأبيات في القصيد العربيّ القديم سبعة، وفي الشّعر الحديث، في نظام الأسطر يقصر النّصّ ويطول حسب ما يقتضيه السّياق، ومع الكتابة الشّعريّة ذات الملامح النّثريّة / قصيدة النّثر عرف الشّعر العربيّ الومضة الشّعريّة مع أدونيس وأنسي الحاج وغيرهما. وحيث تختار سليمى السرايري كتابة الومضة في ” حين اشتهانا الغرق ” وحيث أنّها اختارت تشكيلها في سياق ومضات منتظمة في ما أسميناه بالباقة، فإنّها تكون قد جمعت بين نمطين من الكتابة، النّصّ الطّويل المقطّع إلى نصوص قصيرة / ومضات، والنّصّ القصير جدّا / الومضة التي تستقلّ بذاتها من ناحية وترتبط من ناحية ثانية بومضات أخرى في مدارات اهتمام متقاطعة. ثمّ هي اختارت كتابة نصوصها بالعربيّة مع ترجمة لكلّ نصّ إلى الفرنسيّة فيما سنعود إليه لاحقا. وفي هذا الاختيار تجديد وتجريب لافتين. الباقة الخامسة ” وجع الرّحيل ” صص159-169، يمكن اعتبارها نصّا واحدا يتضمّن عشرة ومضات تتوزّع في فضاء النّصّ الجامع في صورة مقاطع لا تربط بينها الوحدة العضويّة فيما عرفناه في الشّعر العربي الحديث بدءا بالتّجديد الرّومانسي، مرورا بقصيدة التّفعيلة مع الرّوّاد في ما أسموه بالشّعر الحرّ وصولا إلى قصيدة النّثر مع مجلّة شعر. مع القصيدة المتجدّدة عرف الشّعر العربيّ القصيدة المحتفية بجماليّات التّجاور و المجاورة بديلا عن الجماليّات السّابقة، يقول كمال ابو ديب حول هذه الجماليّات المتجدّدة: ” تعبّر جماليّات التّجاور عن نفسها في تجلّيّات متنوّعة متضاربة ومتعدّدة يجمعها أمر ناظم واحد هو التّشكّل في فضاء لا يشكّل بنية متواشجة متكاملة موحّدة ( بفتح الحاء المشدّدة وكسرها ) كما كانت البنية في شعر الحداثة المنصرم … ” ( كمال أبو ديب، شعر اللّحظة الرّاهنة، فصول / خريف 1996 ص14 ). كما يمكن اعتبارها ومضات مستقلّة عن بعضها البعض، حينئذ سنتحدّث عن اللّقطة واللّفتة حيث يقول ابوديب عن الأولى: ” تتضمّن جماليّات المجاورة طبعيّا ما سأسمّيه الآن جماليّات اللّقطة و جماليّات اللّفتة. امّا الأولى، فإنّها تتمثّل في نمط من التّناول الشّعريّ يحلّ العين محلّ الأنا تماما، ويعتبر اللّقطة البصريّة تكوينا جماليّا مكتفيا بذاته في غنى عن الذّات المحلّلة أو المعلّقة أو المنفعلة، أي أنّه يقف نقيضا للتّناول الرّومنسي … ” ( المصدر نفسه أعلاه ص12 ) ويسوق أبو ديب مثالا عن اللّقطة يراه دالاّ النّصّ التّالي: “
قمر ضالّ
الشّاطئ خال
إلاّ من طفلين
يرقبان القمر في حسرة
بعد أن أفلت خيطه
من أيديهما
(محمّد متولّي)
نجد في ” وجع الرّحيل ” من ” حين اشتهانا الغرق ” ومضات من هذا القبيل مثال:
“ الْغَيْمَاتُ الْقَاتِمَةُ،
هِيَ الْوَحِيدَةُ، الَّتِي ظّلَّتْ هُنَاكّ
بَعْدَ ذّهَابِ الْمُشَيَعِينَ …. “
( حين اشتهانا الغرق / ص163 )
تَلْتَقِطُ الشّاعِرة المشهد وكأنّها تصوّر الغيمات مع ذكر خلوّ المكان من المشيّعين الذين ذهبوا تاركين المكان / الفضاء للغيمات القاتمة / السّوداء في إشارة للحزن والمليئة بالماء في إشارة للبكاء / الدّموع. إنّنا إزاء لوحة معبّرة ذات دلالات عدّة. تعتمد الشّاعرة نفس التّمشّي في الباقات الأخرى، نصوص طويلة من ومضات عدّة، وومضات ذات ملامح خاصّة بها تكاد تكون نصوصا قصيرة مستقلّة بذاتها. ففي ” محطّات دافئة ” صص171-190 ( تسع عشرة ومضة ) يحتفي النّصّ الجامع بعرائس الثّلج واللّعب التّشكيليّ من خلال رسوم بالكلام لهذه الكائنات الافتراضيّة، فتظهر الشّاعرة رسّامة بارعة مثلما هي في الواقع المعيش، ففي الومضة الشّعريّة الثّانية من هذه الباقة تقول سليمى السّرايري:
” لَوْ تَوَقَّفْتُ عَنِ الْأَحْلاَمِ يَوْمًا
لَمَا نَحَتُّ عَلَى الثَّلْجِ عَرَائِسَ الْأَمَانِي
وَانْتَظَرْتُ ذَوَبَانِهَا تَحْتَ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ
فِي الصَّبَاحِ. “
( حين اشتهانا الغرق / ص173 )
الشّاعرة تغرق في الأحلام وتنحت على الثّلج عرائس الأماني، أي عرائس الأحلام، وهي إذ تمارس أحلامها تلك فهي تلعب لعبة النّحت / التّشكيل و الذّوبان / الاضمحلال / الغرق … ألسنا إزاء لعبة الحضور / الغياب أو الوجود / العدم؟ ألسنا إزاء ضرب من ضروب اللّعب / التّلهّي؟ وما اللّعب إلاّ احتفاء بالانخراط في العالم بتلقائيّة وعفويّة دون حسابات، ” والتّلهّي يرد على شاكلة لعب خاص لا يفارق بين الذّات اللّاعبة وموضوع اللّعب، بالمفهوم الأنطولوجي للّعب، كالوارد، تقريبا، في ” اللّعب باعتباره رمزا للعالم ” ليوغن فينك، وهو أيضا من قبيل ” اللّعب الجادّ غاداميريّا.( مصطفى الكيلاني، الشّعر اقتداء بالشّعريّ)، وما التّشكيل بالثّلج أو التّشكيل بالرّمال على شاطئ البحر إلاّ ضرب من ضروب التّلهّي والانخراط في ” عبثيّة ” اللّعب من أجل تحقيق الالتحام بالعالم و الانوجاد فيه. في مختلف ومضات هذه الباقة يرد لفظ الثّلج صريحا في مقام صفة / نعت: الصّبيّة الثّلجيّة، تماثيل ثلجيّة، الرّجل الثّلجيّ، التّمثال الثّلجيّ، القصص الثّلجيّة، للتّماثيل الثّلجيّة. أو في مقام المضاف إليه: لرجل الثلج، رجل الثّلج ( أربع مرّات )، عروس الثّلج ( خمس مرّات ) و عرائس الثّلج مرّة واحدة وتمثال الثّلج مرة واحدة وتماثيل الثّلج مرّة واحدة. أو في مقام المجرور:على الثّلج مرّة واحدة. ولم يغب ذكر اللّفظ صراحة إلاّ في ومضة وحيدة تقول فيها الشّاعرة:
” اللَّوْنُ الْأَبْيَضُ فِي شَكْلِ تِمْثَالٍ
عَلَى تِلْكَ الرَّبْوَةِ،
مُثْقَلٌ بِالْفَرَاغَاتِ،
كَانَ يَمْنَحُ لِلْعصَافِيرِ وَ الْغُرَبَاء
أُمْنِيَاتٍ عَاشِقَةً. “
( اشتهانا الغرق / ص184 )
يغيب لفظ الثّلج في هذه الومضة، لكنّه يُعوّض بلون يدلّ عليه هو اللّون الأبيض الذي يتميّز به الثّلج، كما تدلّ عليه عبارة تمثال التي تحيل إلى لعبة النّحت التي تغلب على الألعاب ذات العلاقة بالثّلج وقد وردت هذه العبارة مرّات عدّة في الومضات الأخرى. اللّون الأبيض يمنح … توظّف الشّاعرة في هذا المقام رمزيّة اللّون الأبيض، لون الأمنيات العاشقة، أليس هو لون فستان الزّفاف لدى العروس؟ ويظهر هذا اللّون من على الرّبوة مثقلا بالفراغات، وكأنّ الشّاعرة أرادت ان تقول مثقلا بالجراح، في محاولة لتشخيص الشّكل المنحوت من الثّلج أو بالأحرى ما تبقّى منه، لذلك استخدمت الشّاعرة النّاسخ كان لتفيد أنّه لم يعد يؤدّي تلك الوظيفة لأنّه من الثّلج، والثلج لا يبقى على حاله. في هذه الومضة / اللّقطة التّصويريّة وفي ومضات أخرى مشابهة يقترب التّشكيل الشّعريّ من الهايكو الياباني الذي يظلّ تصويرا خاطفا للحظة طبيعيّة لافتة بعبارات موجزة ومعبّرة تختلط بها وفيها مشاعر الذّات بحالة الموضوع مثال: “
عَلَى غُصْنٍ ذَابِلٍ
يَجْثٌمُ غُرَابٌ وَحِيدٌ
مَسَاءَ الْخَرِيفِ الْآنَ
” باشو “
واختارت الشّاعرة سليمى السّرايري أن يتضمّن مخطوطها ” حين اشتهانا الغرق ” شريكا للكتابة العربيّة للنّصوص حيث سمحت للمترجم ” عمار عموري ” من الجزائر أن يقوم بترجمة مخطوطها من الألف إلى الياء ( de a à z ) إلى الفرنسيّة، وفي ذلك مغامرة وتجريب نادرين. ولقد نجح المترجم حسب تقديرنا في نقل الأثر العربيّ إلى الفرنسيّة، وهو بالتّأكيد يتقن اللّغتين ولم يجد صعوبة في التّرجمة ربّما لأنّ النّصوص قصيرة / ومضات، ثمّ هي ومضات / صور تغيب فيها العناصر الفنّيّة التي تتضرّر من النّقل والتّرجمة مثل الإيقاع الخارجيّ / الأوزان عادة، ممّا دفع البعض إلى اعتبار التّرجمة خيانة للنّصّ الأصليّ” وهو مثل إيطاليّ يقول:” أيّها المترجم، أيّها الخائن !” ولقد سبق للجاحظ أن قال: ” الشّعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النّقل، ومتى حوّل تقطّع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التّعجّب .. ” ( فصول، صيف 1997، عن ترجمتي للشّعر ص288 ) قد ينسحب رأي الجاحظ على الشّعر العربي القديم، المحتفي بالوزن والقافية، ولكنّ الشّعر العربي الحديث / نظام الأسطر عامّة وقصيدة النّثر خاصّة، وشعر الومضة بصفة أخصّ فهو قابل للنّقل والتّرجمة ونصوص هذه المجموعة خير دليل على ذلك. بدءا بالعنوان ” LORSQUE LE NAUFRAGE NOUS DESIRE ” مرورا بالإهداء ” Dédicace ” والتّصدير ” Préface ” وصولا إلى العناوين الدّاخليّة والنّصوص / الومضات، لا يشعر المرء وهو يتنقّل من النّصّ الأصليّ إلى النّصّ الفرنسيّ والعكس صحيح أنّه يذهب من نصّ إلى نصّ غريب عنه، بل لعلّ القارئ وأقصد نفسي في هذا المقام، يبدأ أحيانا بالتّرجمة وينطلق منها للتّحليل وحين يعود إلى النّصّ الأصليّ لا يجد فرقا بين القراءتين. بل يجد القارئ نفسه يخوض لعبة النّقل الممتعة، حيث أبدأ أحيانا بالنّصّ المترجم وأسعى إلى تعريبه دون المرور بالنّصّ الأصليّ ثمّ أقوم بالمقارنة، وأتساءل لماذا ترجم ” عمار عموري ( حين في كلّ الومضات الواردة في مطلعها ب” Quand ” كما ترجمها إلى نفس العبارة عند ورودها في السّطر الثّاني بينما ترجمها في العنوان ب” LORSQUE ” وكذلك في الومضة ص90 عندما وردت في السّطر الثّاني ” حين تقاذفني الانتظار ” ترجمها على النّحو التّالي: ” Lorsque l’attente m’a jeté ça et là ” ونلاحظ هنا تصرّفا في التّرجمة يجعلها غير حرفيّة من خلال إضافة العبارة ” ça et là ” الغير موجودة في النّصّ الأصليّ. كما أنّ المترجم تصرّف في مواضع أخرى قليلة لا تكاد تذكر. ونجح في النّقل الأمين للنّصوص دون خيانة لها أو تعسّف عليها، ساعده على ذلك ما تتميّز به الومضات من إيجاز وتكثيف يجعل الصّورة هي عمق القصيد بل لعلّها هي القصيد ذاته. ففي الومضة التّالية:
« Le poème né avant peu après
Une longue attente
S’est envolé par la fenêtre vers le ciel »
( p. 104 )
دون النّظر في النّصّ الأصليّ نرى أنّ النّصّ المترجم يتضمّن ثلاثة أسطر مثل الهايكو الياباني في أشهر صوره ويشتمل على نفس التّوازن بين الأسطر أو يكاد ( 5-7-5 ) في الهايكو كما يشتمل النّصّ المترجم على العناصر الثّلاثة التي يتكوّن منها الهايكو وهي : المكان الذي يجيب عن سؤال ” أين “، على غصن ذابل في مثال ” باشو ” أعلاه و نافذة الرّوح، السّماء في مثال ” سليمى ” والموضوع الذي يجيب عن سؤال ” ماذا “، يجثم غراب وحيد في نفس المثال الياباني والقصيدة التي ولدت، طارت في نفس مثال ” سليمى ” و الزّمان الذي يجيب عن سؤال ” متى “، مساء الخريف الآن في الهايكو الياباني وقبل قليل بعد طول انتظار في الومضة ص104 من ” حين اشتهانا الغرق “. في التقاط شامل للصّورة، حيث يتوحّد الشّكل والمضمون فلا يمكن قبول التّجزئة بين العناصر وبين اللّحظة وملتقطها. وفي اختلافات طفيفة تتعلّق بكلّ عنصر من العناصر تكاد تتشابه الومضة بالهايكو مع ضمان حرّيّة الابتكار والتّصرّف وهو ما ذهب في أفقه النّقاّد اليابانيّون ذاتهم ومنه عدم ضرورة الإشارة إلى موضوعة الموسم ” الخريف في هايكو ” باشو “. لقد نجحت المغامرة وتمكّنت الشّاعرة من إصدار ومضاتها بلغتين وكأنّها أرادت بذلك إصدار توأم لمتنين شقيقين من بويضة واحدة … وكذا تكون الشّاعرة قد وسّعت جمهور المتلقّين فلم تكتف بالقرّاء بالعربيّة وتنتظر التّرجمات فيما بعد لتوسيع آفاق التلقّي، بل توجّهت مباشرة إلى القرّاء بالفرنسيّة وفتحت بالتّالي آفاق الانتشار قراءة ونقدا.
على سبيل الخاتمة
” حين اشتهانا الغرق ” للشّاعرة سليمى السّرايري مجموعة شعريّة من نصوص مركّبة، هي نصوص طويلة تتشكّل من ومضات تستقلّ كلّ واحدة منها بصفحة خاصّة بها تتقاسمها مع التّرجمة الخاصّة بها بالفرنسيّة. في هذه المجموعة احتفت الشّاعرة بالإيجاز و التّكثيف والتّصوير ولفت النّظر، ونجحت الشّاعرة في ترك الأثر الذي يليق بتجربتها الشّعريّة، كما نجحت في مغامرة التّجريب من خلال إصدار نصوصها في لغتين، العربيّة الأصليّة والفرنسيّة للتّرجمة، فأبدعت سياقا متفرّدا ومنفتحا على جمهور واسع من النّاطقين باللّغتين. بأسلوب طريف ولغة ميسّرة وسلسة وباستخدام تقنية الومضة الخاطفة في زمن يميل فيه المتلقّي للأدب عموما وللشّعر خاصّة للإيجاز على إيقاع ومضات الفيديو الخاطفة نجحت الشّاعرة في الكتابة الشّعريّة المواكبة للحداثة والتّحديث في عصرها بعيدا عن التّقليد الأعمى أو التّحديث الفرجويّ المفرغ من دلالاته. كانت القراءة في هذا الأثر ممتعة وشيّقة ولذيذة على حدّ عبارة بارت وهي لذلك تستدعي المزيد من القراءة والنّقد لإنتاج المزيد من المعرفة بها لإثراء المكتبة الشّعريّة في تونس والبلاد العربيّة والعالم بمثل هذه الكتابات الممتعة ذات الأبعاد الجماليّة المتعدّدة والمتنوّعة.