اجرت الكاتبة والشاعرة دارين حوماني مقابلة مع الشاعر المصري عبد الله السمطي نشر في موقع ” ضفة ثالثة ” , وهنا نص المقابلة :
يجتمع في شخص الأديب المصري عبداللـه السمطي الشاعر مع الناقد، وأجرينا هذا الحوار معه ليحدّثنا عن ذلك الاجتماع، وعن قصيدته المُستقاة من التراث الشعري العربي، التي يسمّيها “القصيدة العمودية السمطية الجديدة”، ويحاول فيها، بموجب ما يقول، تجديد القصيدة الكلاسيكية عبر التخلص من الضرب والعروض وترك الحرية لعدد التفعيلات. كما حدثنا عن بداياته وإنتاجاته الأدبية التي تجاوزت خمسة وثلاثين كتابًا في الشعر الكلاسيكي والحديث وفي الرواية والدراسات الإعلامية وفي النقد وأبرزها “الموسوعة النقدية لقصيدة النثر العربية”، ومؤخرًا صدر ديوانه الشعري “رايات بلا أوسمة” الذي يحتفي فيه بتفعيلاته الجديدة.
طريق الشعر
هو الذي اختارني
(*) قبل أن نبدأ الحديث عن النظرية الجديدة التي تقترحها- “القصيدة العمودية ما بعد الحداثية”- نود أن نتعرّف على عبداللـه السمطي. يبدو لنا مخزونك الشعري والأدبي وكأنه وُلد معك، وتقول إنك تعلّمت العروض قبل أن تقرّر دراسة الأدب العربي، حدّثنا عن بداياتك؟
في الحقيقة، البدايات كانت مكثّفة وصعبة، فأنا لم أختر طريق الشعر ولكنه هو الذي اختارني، فلم أتخيّل نفسي شاعرًا في البداية. كنت أدّخر من مصروفي وعملي مع الوالد لشراء الكتب والسلاسل التي كانت تصدرها دار الهلال أو الصحف المصرية الكبرى، فضلًا عن الكتب المستعملة المنخفضة الأسعار التي تباع في سور الأزبكية وسوق المطرية الأسبوعي الشعبي في حي المطرية الشعبي بالقاهرة الذي نشأتُ به، وكنا قدمنا إليه من صعيد مصر في بدايات السبعينيات. كان همّ القراءة هو همي الأكبر بعد كتابتي لأول هواجس شعرية في المرحلة المتوسطة، وفي المرحلة الثانوية أعددتُ نفسي جيدًا من الوجهة الثقافية، فقرأت تقريبًا كل ما تحويه مكتبة المدرسة من الأسماء الرائدة.
حين سألت معلم اللغة العربية في المدرسة عن “العروض” والأبحر الشعرية قال لي: لا أدري. من هذه المفارقة المبدئية قرّرت البدء في البحث عن العروض، بعد أن أصدرت ديوانًا شعريًا على الآلة الكاتبة ووزّعته على زملائي بالفصل، كانت قصائده كلها مكسورة الوزن ومرتبكة. اشتريتُ ديوان عمر بن أبي ربيعة بالصدفة من سوق الخميس بخمسين قرشًا، وكتابًا للعروض هو: “الكافي في العروض والقوافي” للخطيب التبريزي، وبدأت أحضر الأمسيات الشعرية في القاهرة من عمر (17) عامًا، وبدأت أتّفهم قيمة العروض وقيمة تعلّم الأوزان الشعرية، وبدأت في قراءة كتاب الخطيب التبريزي والتطبيق على شعر عمر بن أبي ربيعة وشوقي وجبران لمدة شهرين كاملين معتكفًا ومتألمًا حتى استطعت أن أكتب قصائد موزونة بشكل جيد، ومع دخولي قسم اللغة العربية بكلية الآداب حدثت النقلة الشعرية، ودخلت في منعطف شعري وأدبي وثقافي جديد واصلت فيه القراءة المكثفة.
وكنت أقرأ ما بين 10-15 ساعة يوميًا في جلّ الكتب التراثية والحديثة والشعرية للسياب والبياتي ونازك الملائكة وصولًا إلى أدونيس وغيرهم، مع قراءة مكتبات كاملة تقريبًا من الأدب اليوناني والترجمات والكتب المؤسسة للثقافة العربية قديمًا وحديثًا، مع الانهماك في الكتابة الشعرية في الصحف والمجلات والمشاركة في الحياة الأدبية وأمسياتها الشعرية بالقاهرة. كانت مرحلة الثمانينيات خصبة جدًا بالنسبة لي. كان المناخ رائعًا من وجهة شعرية وثقافية، وهناك أسماء كثيرة ساعدتني في هذا التوهج الشعري حيث كتبت في العمودي، والتفعيلي والنثري، ولكن كانت الساحة ينقصها المتابعة النقدية، خاصة للجيل الشعري الجديد وقتها، فقرّرت التوجه أيضًا للنقد الأدبي، وكان ظهور المنهج البنيوي والأسلوبي ومناهج النقد الحديثة التي درستها السبيل الأول لممارستي النقدية، وساعدتني قراءاتي الموسّعة في العملية النقدية.
(*) في ديوانك الشعري الأخير “رايات بلا أوسمة” تقول: “من الضروري: القصيدة أن تسير لحتفها كي تولدا/ فلربما نبض الطلول تجدّدا”، فهل تقترح القصيدة السمطية موت القصيدة الكلاسيكية وروحًا تجديدية تعوزها هذه القصيدة، التخفيف من النمطية، التخلص من الضرب والعروض، وترك الحرية لعدد التفعيلات، هل نحن أمام منح هذه القصيدة حريتها؟ حدّثنا عن هذه المقاربة؟
رؤيتي أو مدرستي الجديدة للشعر العمودي هي وليدة تجربة طويلة لأكثر من 35 عامًا بدأت مع القصائد الأولى، منها قصيدة بعنوان: “حضرة العشق” نشرت بمجلة ’إبداع’ في 1987 وبها ملامح تجديدية متميزة. القصيدة العمودية ليست مجرد نظم، وليست مجرد أوزان وقواف ولكنها قصيدة تحمل بوحًا وروحًا شعرية، وتحمل حياة كاملة وهذا ما تعلّمناه من شعرنا العربي في شعر المعلقات وشعر الصعاليك الذي كان يحمل حياة كاملة للشعراء والمناخ الصحراوي الذي أبدعت فيه، بكل حرية ومن دون قيود فنية إلا سلامة اللغة والصورة والبنية والشكل. ومع تطور الشعر العربي وضحت مسألة التنميق التصويري والإبداع المركّز داخل الشكل الموروث. وهو ما انطفأ لقرون مديدة ثم عاد مع البارودي وشوقي والرصافي والجواهري وشعراء المهجر وشعراء المدرسة الرومانسية ثم استمر مع النماذج الشعرية الرائعة حتى اليوم.
القصيدة العمودية لها خواصها ولها جمهورها ولها حضورها الإيقاعي، لكن المشهد اليوم لم يعد يتحمّلها مع وجود منجزات جمالية نوعية لا أقول جبارة في مشهد القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر. القصيدة العمودية بشكلها المتوارث طوال 1500 عام لم تعد تناسب عصرنا على الإطلاق إلا في بعض نماذجها الوضيئة.
تجربة عبدالله البردوني كانت ثرية في أفق القصيدة العمودية، وتجربة بعض الشعراء الجدد فيها بعض التنويع داخل القصيدة، لكنها تجارب لن تضيف كثيرًا لأنها تركّز على المعنى والصورة فقط، ويحاول الكثير من الشعراء أن يطوّروا فيها باستلهام ما يحدث في القصيدة التفعيلية من حيوية وحراك تشعيري جمالي، لكن في التحليل الأخير هم يستخدمون الأساليب نفسها التي تحاصرهم بفعل تاريخية القصيدة وطريقة تعبيرها في البحور الشعرية المختلفة، فبحر الطويل يفرض آلياته والبسيط والكامل والوافر كذلك وغيرها من البحور. هناك تقليدية جلية مهما حدث من محاولة شعراء العمود إخفاءها. وهذا ما جعلني قلقًا وأنا أبحث عن منافذ جديدة لكسر تقليدية هذا الشكل، ولهذا كان من الضروري أن تسير القصيدة إلى حتفها لكي تولد من جديد.
وهذا الهاجس التجديدي بدأ مبكرًا لكنه تم على مستوى تركيبية الجملة الشعرية داخل البيت، وهو ما عملت على تطويره في مراحلي الشعرية المختلفة فلم أتخلّ عن كتابة القصيدة العمودية مع كتابتي للتفعيلية والنثرية وإصداري لعدد من الدواوين الشعرية في ذلك بل ودمجت في بعض القصائد بين الأشكال الثلاثة وأحيانًا بين العمودي والتفعيلي كما في ديواني: “فيديو كليب للزعيم”، وكنت جدّدت عروضيًا في بعض قصائد ديواني الأول: “فضاء المراثي” (1997). أما تجديد القصيدة العمودية فقد جدّد نزار قباني فيها وأعطاها حيويتها على مستوى الصورة الرشيقة البسيطة العميقة وعلى مستوى الأسلوب واللغة والمعجم الشعري. وما أسميته بـ”القصيدة العمودية السمطية الجديدة” هو، برأيي، نقلة في عالم القصيدة العمودية حيث قمت بتغيير كل البحور الشعرية بإضافة عدد من التفعيلات عليها، وتطوير بنيتها الأسلوبية داخل البيت الذي أصبح يتسع لعدد أكبر من الجمل الشعرية، وألغيت ثنائية العروض والضرب مع الإبقاء على قافية حيوية متعددة مكررة أو متغيرة، بحسب ما تفرضه طبيعة القصيدة، وأصبح لدينا اليوم مع صدور ديواني “رايات بلا أوسمة” ما أسميه ببحر الطويل الجديد، وبحر البسيط الجديد، وبحر الكامل الجديد، وبدأ بعض الشعراء يتفهمون هذا التغيير الجديد ولكن القصيدة السمطية الجديدة أو هذه المدرسة الجديدة ما زالت في مرحلة الاستيعاب وأتصور أن أغلب شعراء القصيدة العمودية سيتجهون إلى تمثّلها والكتابة بهذا الشكل الجديد الذي اقترحته، لأن القصيدة العمودية التقليدية أصبحت بعد صدور “رايات بلا أوسمة” جزءًا من الماضي.
(*) إيليا أبو ماضي، بشارة الخوري، نزار قباني وآخرون حاولوا تجديد القصيدة العمودية، ولكن التغيير كان محدودًا لم يمتدّ لأكثر من المضمون، هل هي قناعة بعبقرية القصيدة العربية الكلاسيكية أم عدم جرأة في تغيير هيكلية البيت الشعري؟
هي قصيدة عبقرية بلا شك، لأنها حملت روح عالمنا العربي وحملت روح اللغة العربية لأكثر من 1500 عام بكل تنوعاتها ومضامينها، وهذا الصمود الجمالي هو صمود حضاري مهيب علينا كقراء ومبدعين ونقاد أن نجلّه، فهذه القصيدة، هذا الشعر، هو فن اللغة العربية الأول، قبل الرواية والقصة والمسرح والمقالة النثرية الأدبية، وهذه العبقرية التاريخية أغرت الكثير من الشعراء بتجديدها وتجديد عوالمها، فجدّد فيها شعراء الموشحات وكسروا نمطيتها بتنويع القوافي والبحور، وجدّد فيها شعراء الرومانسية وشعراء المهجر العربي ونوّعوا أيضًا في قوافيها وأبحرها، وكانت تجارب إلياس أبي شبكة وأبي ماضي وجبران وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وبشارة الخوري وسعيد عقل وعبدالله البردوني ونزار قباني تجارب عاصفة ومهمة، ولا تغيب عنا أيضًا تجارب رواد القصيدة التفعيلية الحرة الأولى في مضمار القصيدة العمودية كتجارب أدونيس والسياب وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش وأمل دنقل فهي تجارب مهمة على مستوى البنية والشكل وطريقة الأداء.
وأنا أنحاز هنا بالمناسبة للقصيدة المضمون، مع التشكيل الجمالي الذي لا يقلّل من رسالتها وموضوعها، فالشعر رسالة في التحليل الأخير، ولا يقتصر على إنشاء الصور المغامرة أو السريالية أو العبثية، أو المجانية، وهذا ما قلّل من اهتمام الجمهور بقصيدة النثر التي ركّزت فقط على التشكيل بالصورة، فلا بد من تشكيل بالمعنى. لا أعني هنا العناية بالمضمون بشكل مباشر كقصائد أحمد مطر أو سميح القاسم – مثلًا – ولكن أعني أن العناية به مع تشكيل فني لا يطغى بإبهامه وسرياليته وترميزه على فكرة توصيل الرسالة، لأن القارئ العربي لم يعد يتوغّل في النصوص ليشارفها ويستكشفها فلا وقت لديه حقيقة في عصر التقنية والميديا وعصر انشغال الحواس وغياب التفكير المتأمل. حتى إن نقادنا العرب يعانون من داء الكسل، ومن داء التكرار وقلة المغامرة وقلة الحيلة ومن ثم ندرة الكشف النقدي. بالرغم من أن هناك تجديدات كثيرة في أفق هذه القصيدة من ناحية التصوير وابتكار العوالم الجديدة، إن شاعرًا مثل: نزار قباني لم يُدرس جيدًا حتى اللحظة، وإن شاعرًا مثل أدونيس لم يُقرأ بعمق فيما أنتجه من قصائد عمودية موزونة. لكن كل من جدّدوا لم يلمسوا هيكل البنية العروضية إلا في المدرسة الرومانسية ومن قبلها الموشحات، لكن أحدًا لم يفكر في زيادة تفعيلات البيت وكسر ثنائية العروض والضرب من قبل وإعادة أسلبة البيت الشعري من جديد مثلما فعلتُ في ديواني “رايات بلا أوسمة”، وقد بدأت إرهاصات التجديد والتحديث في هذه القصيدة منذ عام 2001م من خلال عدد من دواويني السابقة.
الشعر مرتبط بروح الإنسان
ولن يموت أبدًا
(*) لماذا فكرت في تجديد القصيدة في الوقت الذي يُحكى فيه عن موت الشعر؟ هل حقًا نحن في زمن موت الشعر؟
في كل مرحلة لا بد للقصيدة العربية أن تتجدّد لتواكب روح الإنسان في التغيير ولتستلهم قضايا العصور وأحداثه. كل عصر له شجونه ووجداناته المتغيرة، وله ذوقه الأدبي والاجتماعي والحضاري. لا بد للشعر وللفنون أن تكون ابنة عصرها، أن تلامس اللحظات الإنسانية الساخنة الحية، ومن دون ذلك ستصبح مجرد تكرار ومجرد تنميط لما قيل من قبل، لأن اللغة وحدها لا تتجدّد، بل الوعي والذهنية والحواس والمخيلة والروح. لكل جيل إنسانه الجديد وإحساسه المغاير، وكذلك الشعر يجب أن يتغير مع تغيّر الأجيال وتعدّدها.
أما عن موت الشعر فهذه مقولة كرّرها الكثير. كلما تطور العلم وتطورت التكنولوجيا يأتي من يقول بموت الشعر، وهذا حدث في أوروبا نهايات القرن التاسع عشر حين طرح البعض مقولة: “موت الشعر” أو قارن بين الشعر والعلم ورأى أن العلم هو الأكثر ضرورة للإنسان. أنا ضد هذه المقولة جذريًا، لسبب وحيد وهو أن كل إنسان شاعر حتى إشعار آخر، في كل إنسان شاعر يحيا ويحس ويرى الأشياء من منظور مختلف، لكن هناك من يُمنح الموهبة ويستطيع أن يكتب ويبوح ويدرّب أخيلته، وهناك من يكتفي بالتأمل أو الصمت، أو التقاط الشعر والشاعرية من مصادر أخرى. الطفل شاعر حين يبعثر الأشياء ويبحث عن دهشتها، والشاب شاعر حين يتغزل في محبوبته بأية جملة، والحبيبة شاعرة حينما تحلم أكثر، والرجل شاعر بقوة حكمته وتجربته.. لذا فالشعر مرتبط بروح الإنسان، بإحساسه، بوعيه، وبخياله، ولن يموت أبدًا. الشعر حالة أبدية للجمال وإذا ذهب كيف يحيا الإنسان من دون هذا الجمال الذي يعبّر عنه الشعر بالقصيدة.
(*) تقول: “تنهض قصيدتي على تحديث الجملة الشعرية لتتخلّى بشكل أو بآخر عن هذه الغنائية والإنشادية المعهودة”، في حين يشترط النقاد الكلاسيكيون توفّر موسيقى للقصيدة لاعتبارها شعرًا، في قصيدتك الجديدة حيث يغيب الضرب والعروض كيف ستحضر الموسيقى؟
أنا أكتب القصيدة العمودية بمنطق الحرية لا بمنطق الشكل مستفيدًا من التجربة الشعرية العربية التفعيلية والنثرية. كسرت حدة النظم والتعبيرات التقليدية أسلوبيًا ولغويًا، وأحاول تفتيح المعجم الشعري وترويضه، فالقارئ يقرأ قصيدتي العمودية وكأنه يقرأ قصيدة ما بعد حداثية بلغتها وأسلوبها وطريقة تركيبها للجمل الشعرية داخل البيت، ويصبح الإيقاع متواريًا في الخلفية الإدراكية للقراءة، مع أنه موجود وفاعل، ووظيفة الإيقاع في القصيدة أنه يعطينا الصيغة والصياغة، بحيث لا يصبح الإبداع الشعري مجانيًا، مجرد رصف كلمات وجمل مجانية دون بوح أو إفضاء. أنا مع التشكيل الشعري لكن في النهاية نحن نكتب بلغة عربية، قوامها: البيان، والتوصيل، والإفضاء، والتعبير، لا نكتب مجرد كلمات مرصوصة لا علاقة لها ببعضها البعض، والقصيدة في التحليل الأخير تحمل معنى ومبنى، وتحمل هواجس الإنسان ورؤاه وتفكيره وتأمله وتخييله وأحلامه، ولهذا لا بد من مضمون في القصيدة، لا بد من معنى وإلا ذهبت كلمات الشاعر هباء، وتناثر موقفه من العالم.
أنا غيّبت العروض الذي يفصل بين الشطر الأول والشطر الثاني، وهذا ما أقصده، والعروض هنا هو آخر تفعيلة بالشطر الأول، والضرب هو آخر تفعيلة بالشطر الثاني وهي: “القافية”. وإلغائي لتفعيلة العروض بهدف وصل البيت كله، فلا قيمة لـ تفعيلة “العروض” اليوم، ولا قيمة لهذا الفصل الذي كان مطلوبًا في المرحلة الشفاهية للقصيدة العمودية التي كانت تتطلّب التوقف لالتقاط الأنفاس ثم إكمال البيت بالشطر الثاني. هنا البيت أصبح وحدة واحدة، وزادت عدد قوافيه بحيث تصل إلى سبع أو ثمان أو تسع أو عشر تفعيلات في البيت الواحد في البحور الصافية، وأضفت تفعيليتن على الطويل، وكرّرت تفعيلات البسيط لتصبح 12 تفعيلة بدلًا من 8 وهذا أعطى مساحة من حرية التعبير، وأصبح يشكل ردًا ضمنيًا على مهاجمي القصيدة العمودية فلا نظم، ولا قيود، ولا لغة معجمية قديمة، ولا أسلوب متوارث.
(*) كيف يمكن أن يتلقى النقاد والشعراء هذا التجديد؟
كأي جديد، يأخذ وقته في التلقي، وأتصور أن “الجديد” إذا كان محكمًا، ومبنيًا بطريقة رائعة، سوف يجذب الجميع نقادًا أو شعراء أو قراء، وقد بدأ هذا الشكل يتسلّل لعدد من الشعراء والشاعرات، وأتصور أنه سيكون الشكل الطاغي للقصيدة العمودية الجديدة في المرحلة المقبلة لأنه شكل يستوعب الشكل التفعيلي وأيضًا النثري في طرق تعبيره وأسلوبه. وأتمنى على النقاد أن يتابعوا هذه الطريقة الشعرية الجديدة فهي تشكّل نقلة نوعية للقصيدة العمودية تحدث لأول مرة في تاريخ الشعري العربي منذ عصر الموشحات الأندلسية.
تقليدية النقد!
(*) تختلف في نقدك الأدبي الذي تمارسه منذ أكثر من عشرين عامًا مع النقاد الكلاسيكيين، وثمة خلافات عديدة، ما أسباب هذه الخلافات؟
خلافاتي تتمثّل في تقليدية النقد وتكراره على الأغلب، وعدم العناية بتعميق الرؤية النقدية خاصة في ما يتعلق بفن الشعر، هل سمعت عن كشوف نقدية جديدة في فن الشعر؟ هل سمعت أن ناقدًا ابتكر رؤية جديدة لمقاربة القصيدة العربية القديمة أو المعاصرة؟ هل سمعت ذات يوم أن ناقدًا عربيًا توصّل إلى مفاهيم مغايرة لما يحدث أو اكتشف مدرسة شعرية أو اتجاهًا شعريًا اليوم؟ للأسف معظم الدراسات النقدية بدءًا من: “فلان الفلاني: حياته وشعره” إلى ظاهرة “الوطن في الشعر والتأمل في الشعر والحنين في الشعر”، معظمها دراسات تقليدية بحتة. نحن كعرب نمتلك فنًا شعريًا من أزهى الفنون الإنسانية، ولنا تجربة مديدة تمتد لأكثر من 15 قرنًا من الزمان مع فن الشعر ومع ذلك الأداء النقدي لمقاربة فننا الأول هزيل، بل إن بعضهم يهرول صوب الذائع والمنتشر فيكتب: “زمن الرواية” وتسونامي الرواية وعصر الرواية، مع أنهم يدركون أنه إذا كان هذا العصر للرواية فالشعر لكل العصور. إن هرولة دور النشر والإعلام للتطبيل لفن دون آخر مسألة سلبية بالتأكيد. ومع احترامي الجليل لعبقرية الرواية إلا أنها فن من السهل أن يكتبه أي أديب، بل إن عددًا كبيًرا كتبه من الفنانين التشكيليين إلى الإعلاميين إلى المثقفين كما أن ربات البيوت يكتبونها في أميركا وتحوز على انتشار. ومن السهل جدًا على الشعراء أن يكتبوا الرواية لكن من المستحيل للروائي أن يكتب قصيدة شعرية معتبرة. نحن نريد من النقاد أن يواكبوا فن الشعر بدراسات نوعية تليق بفن الشعر وتطوراته وتحولاته الفنية والجمالية بمختلف أشكاله.
(*) النقد الجاد تراجع، إذا ما قارناه بمرحلة بداية القرن العشرين حتى منتصفه، وتحوّل إلى نقد صحافي فيه نوع من المجاملة، هل نحتاج إلى نقد النقد؟
أتفق معك في ذلك، فعلى الرغم من وجود الدراسات النقدية الأكاديمية، والدراسات المحكمة، لكن ما يزال النقد في أفق لا يتلاءم والمنتج الإبداعي العربي في مختلف الأنواع الأدبية وعلى رأسها فن الشعر، حتى الرواية والقصة القصيرة والتجارب المسرحية والأدبية المختلفة لا تحوز على دراسات نقدية نوعية بالشكل الكبير، وعلى الرغم من زيادة الكليات المتخصصة بالنقد وزيادة الأكاديميين والرسائل الجامعية، يبدو أن معظمهم مجرد مدّرسي أدب لا نقاد، وهذا ما يبدو من حضورهم وكتابتهم لأنهم يقتصرون على الرسائل التقليدية التي لا تضيف جديدًا ثم يتم توظيفهم بها ويتحوّلون إلى موظفين نمطيين لتدريس المواد الأدبية واستنساخ ما قيل من قبل، حتى إن نصف الرسائل الجامعية في العالم العربي على الأقل مكرّرة ومستنسخة ولا جديد فيها، وانعكس هذا على ظواهر كثيرة في الحياة الثقافية وفي الأمسيات الأدبية بحيث حدث نوع من الجهل المطبق بهويات الشعراء وطرق كتاباتهم ودواوينهم وتكرار أسمائهم من منتدى لمنتدى ومن لقاء إلى لقاء كأنهم وحدهم الموجودون بالساحة.
من هنا لا أعوّل كثيرًا على نقاد اليوم، لكن أود الإشارة إلى مفهوم مغلوط في حياتنا الثقافية وهي نظرنا إلى النقد على أنه النقد الأكاديمي فقط. فالنقد ليس ما تنتجه الأكاديميات – إذا كانت أكاديميات حقيقية- بل هناك نقاد بارعون خارج الأكاديمية من عباس العقاد إلى مارون عبود ومحمود أمين العالم وعشرات الأسماء. ومع انتشار المجلات الثقافية والصحف والإعلام أصبح الإغراء كبيرًا أمام عدد من النقاد والمتابعين، ومع قلة الدراسات المنهجية النقدية الموسعة، بات الطلب على المقالات السريعة أكثر إلحاحًا لتغطية الصفحات اللاهثة، خاصة حكاية السبق النقدي إلى الأعمال التي تصدر بكثافة في فنون الأدب المختلفة. وهذا يفضي إلى سرعة التعليق وكثرة المجاملات والهرولة وهذا يظلم العمل الأدبي ويظلم صاحبه لأنه نقد بلا معايير ولا قيم منهجية ومتسرع ومهرول كما حدث لأعمال كثيرة غير سوية إبداعيًا، وهذا ما يميّع الحركة الأدبية والنقدية التي بالفعل تحتاج لنقد النقد الذي يستغرق وقتًا وأرجو أن يُصرف لقراءة الأعمال الأدبية بشكل نوعي، ويصبح نقد النقد ضمنيًا هنا، و”اللي على راسه بطحة يحسس عليها” كما يقول المثل الشعبي، خاصة من النقاد الذين يفرضون علينا أسماء متوسطة الموهبة ويفرضون على الساحة نوعيات ضعيفة من الأدباء والشعراء. لم يعد النقد يهتم بالمسؤولية النقدية، وهو يحتاج لـ”مرجلة” نقدية لا “هرجلة” وهرولة. النقد يحتاج إلى انقلاب شامل في رؤيته ومفاهيمه ونشاطه المنهجي.
الشعراء الجدد
(*) أنت متابع دائم لوسائل التواصل الاجتماعي التي ينطلق منها يوميًا عدد من الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر. من خلال متابعتك، ونقدك المستمر لكتاباتهم، كيف ترى الحركة الشعرية؟
دخلتُ عالم النقد من أجل الشعراء الجدد ومن أجل الشعر أولًا وأخيرًا، ومن أجل الكتابة عن المهمّشين والمنسيين، ومن أجل تبيان الطرق النقدية الجديدة التي تحتفي بالنص الشعري احتفاء منهجيًا نوعيًا، وقدّمت دراسات كثيرة حتى عن الشعر الصعب التجريبي. كان الهدف هو تحريك الساحة النقدية، وهذا ما فعلته في مصر بدءًا من تسعينيات القرن العشرين، ثم في السعودية حيث كنت أول ناقد عربي يقيم بالسعودية ويكتب بشكل جريء ومغامر من دون مجاملة، ودخلت معارك نقدية وثقافية كثيرة خلال إقامتي وعملي بها في مجال الصحافة، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وهي مهمة جدًا في نشر الأعمال الأدبية بحرية وتحرير الساحة وتحريكها بعيدًا عن “غلظة” المجلات الأدبية وطرق تعاملها وتأجيلها النشر. هناك أسماء كثيرة مهمة أتابعها خاصة في مجال الشعر وفي قصيدة النثر خاصة التي ازدهت بكتابة المرأة لها بشكل غير مسبوق حفزّني لمتابعة أسماء كثيرة والكتابة عنها، حيث كتبت حتى اللحظة عن أكثر من 120 شاعرة عربية في قصيدة النثر، صدر ما كتبته في كتاب بعنوان “حواس الأنوثة” عن دار المؤلف ببيروت 2016، وسيصدر الجزء الثاني في هذا العام، والجزء الثالث في العام المقبل 2022. إن الحركة الشعرية خصبة ومتميزة، وأسهمت مواقع التواصل خاصة الفيسبوك وتويتر في الانتشار الشعري والأدبي وكذلك المجلات والصحف الإلكترونية، بحيث نستطيع القول: إننا أمام نقلة ذهنية جمالية وفكرية عالية ومتطورة، على الرغم من أن المبدع العربي لم يأخذ حريته الكاملة بعد في التعبير بسبب الرقيبين: الخارجي والداخلي. لكن يمكن القول إن هناك إبداعًا شعريًا متدفقًا، خاصة في قصيدة النثر، ويحتاج إلى متابعة نقدية كثيفة وأعمال نقدية خلاقة .