الثقافة القانونية
كل شيء في لبنان اليوم، متفلت من الضوابط. متفلت من الحدود التي تحده. متفلت من القوانين التي تنظمه.
لم يعد المسؤول فيه، مسؤولا عن أي شيء، إلا عن إنتظار “شهريته”. إلا عن إنتظار راتبه وعائداته. سوى ذلك صار من الأمور “البايخة”. حتى ولو كان السؤال عن سعي ولده في الصف. حتى ولو كان السؤال عن شعر زوجته، عند مصفف الشعر.
لم يعد المسؤول، صغيرا أو كبيرا، هو رجل القانون، كما في كتاب المدنيات الإبتدائي.
لم تعد القوانين أصلا، إلا في الأضابير المكتبية، يعلوها الغبار على الرفوف. نسي الناس، منذ أول العهد شيئا إسمه القانون. صاروا يخرجون من بيوتهم لحاجاتهم، ثم يعودون إليها، بكل تلقائية، وبغريزة الحياة الأولية، في العصر الحجري، دون أن يفقهوا شيئا، عن المواد القانونية التي تنتظم يومهم، في الأماكن والأوقات والحاجات، التي كانت مقصدهم.
لم يعد المواطن اللبناني يسأل عن القانون، وهو يعاني من عسر الحصول على علبة حليب، وعلى قارورة غاز، وعلى تنكة بنزين. صارت حاجات اللبنانيين، عند أعدائهم، بعدما كانت لزمان مضى عند أصدقائهم.
تحول صاحب المتجر، من صديق إلى عدو. تحول صاحب المحطة، من صديق إلى عدو. تحول السمان والصيدلاني وسائق التكسي، والفران وأجيره. والصيرفي وأجيره. وموظف البنك ومديره، من صديق إلى عدو.
دولة تقول لأبنائها: “إهبطوا، بعضكم لبعض عدو”. حكومة تقول لأبنائها: “إهبطوا بعضكم لبعض عدو”. وطن يقول لأبنائه: “إهبطوا بعضكم لبعض عدو”.
وأما العدو العدو، فهو من الشامتين. وأما المرأة وأولادها، فهم من الشاتمين.
حفلات الشتم، وحفلات كيل الشتائم، وحفلات الرقص العاري، للسائقين العموميين، و لأصحاب السيارات الخصوصية، تبدأ منذ الصباح الباكر أمام محطات الوقود، ولا تنتهي، إلا قبيل منتصف الليل بقليل.
فلتان سوق الوقود، إلى جانب فلتان سوق الكهرباء، إلى جانب فلتان سوق الرغيف، إلى جانب فلتان سوق الدواء، إلى جانب فلتان سوق المستشفيات، إلى جانب فلتان سوق البنوك وسوق الصيرفة، وسوق المولات والمخازن، جعلت الناس تتعرى من أخلاقها، تتعرى من ناموسها، تتعرى من ثيابها.
ما هذا الجنون الذي حل في البلاد والعباد. ما هذا المجون الذي حل على أهل السلطة من الحكام، الذين باعوا نفوسهم للشيطان.
كيف أخلى اللبنانيون مقاعدهم في الصفوف الأمامية لحماية القانون، وللثقافة القانونية، وأخلوا بالعقود والمواثيق. وأخلوا بالعهود، وأضروا بالبلاد وبأدوارهم في حفظ البلاد، وكأن زلزالا ضرب الناس جميعا، ورماهم في الأرض.
ما هذة الطبقة الحاكمة، التي تخلت عن جميع الشرائع، “وأشربت في نفوسها العجل”، فقبعت “سنين مئين”، على الدست، حتى جعلت شعبها، في أسوأ أيامه، وفي أسوأ أحلامه، يذوق مر العيش، يتذوق المرارة، من “كعب الدست”.
دخل حكام لبنان، عصر الجهالة والأمية، عندما تخلوا عن الكتاب. عندما تخلوا عن الميزان. عندما تخلوا عن الثقافة المجتمعية. عندما تخلوا عن الثقافة القانونية.
كان لبنان، سويسرا الشرق. فإذا هو بين ليلة وضحاها، “حارة كل مين إيدو إلو”.
خرجت البارحة بالسيارة، لركنها في المغسل. فإذا بها تتوقف فجأة على الطريق السريع في محلة الأوزاعي.
أفادني الميكنسيان، أن مضخة البنزين معطلة بسبب سوء البنزين. وأن البنزين مقدار كيلة في قعرها.
في اليوم التالي، أوكلت ناطور البناية، أن يلتمس لي موعد التعبئة، في المحطة المجاورة.
حضرت في الخامسة فجرا، وركنت السيارة أمام باب المحطة دون أن يراني أحد. ثم عدت بعد ساعتين، في السابعة، فإذا صفوف السيارات، قد سدت جميع الطرقات. وإذا الرجال قد صاروا إلى التشابك والتلاسن على أفضلية التعبئة، وعلى أفضلية المرور، بإتجاه المحطة. “صارت الشوارع غابة”.
أما ” الفصيلة و المخفر “، فلا يدرون. ولا يتدخلون. وأما الدولة كلها، فهي غائبة عن ثقافة القانون، وعن الثقافة القانونية لحسن الأخذ بالقانون. لحسن تطبيق القانون.