حكومة عذريين
من تقاليد المحكمة العليا، في الولايات المتحدة الأميركية، أنه حين يتم ترشيح أحد القضاة لها، يجب أن تؤخذ موافقة مجلس الشيوخ. وتعقد جلسات إستماع ل”اللجنة القانونية” في مجلس الشيوخ.
كان على مجلس الشيوخ، أن يوكل للجنة القانونية، أمر تدقيق وتمحيص أسماء المرشحين بدقة بالغة.
كانت اللجنة القانونية، تعقد جلسات إستماع للمرشحين لمنصب قاض في المحكمة العليا. وتكون جلسات الإستماع عادة، ذات طبيعة غريبة وبعيدة عن الواقعية. إنها على نحو ما “صراع إعتقادات”.
فمن أجل الفوز بتصويت مجلس الشيوخ، يبلغ المرشح، بأن عليه تطبيق القانون، فيبدي نيته لتطبيقه. وأن عليه أن يكون مخلصا للدستور. فيبدي نيته وتأكيده، للإلتزام بالإخلاص للدستور. وتطلب اللجنة منه، ألا يأتي بقانون جديد. وفوق هذا وذاك، على القاضي المرشح للمحكمة العليا، أن يلتزم أمام اللجنة القانونية وأمام مجلس الشيوخ فيما بعد، بألا يعمل لإعتبارات سياسية. مما يرتب عليه، ضرورة الوفاء بتعهداته. أي بعبارة أخرى، عليه الإخلاص لنظرية في “التشريع الميكانيكي”.
فمجلس الشيوخ في الولايات المتحدة الأميركية، يريد من أعضاء المحكمة العليا، أن لا تكون لهم معتقدات أو إيديولوجيات. وأن يكونوا بعيدين عن الإلتزام بالعمل السياسي، أو بالأحزاب السياسية، أو بالإنتماء العلني أو الخفي، لأية جهة سياسية، أو إجتماعية أو إقتصادية أو بيئية، أو دينية، أو غير ذلك، عاملة في أية ولاية من الولايات المتحدة الأميركية.
يتقدم إذن المرشحون، لمنصب قاضي المحكمة العليا، على أنه من النزهاء العذريين، الذين يرفضون التلوث بأغراض الأحزاب والجمعيات وسائر الجهات المماثلة. وهم، بالإضافة إلى ذلك، يقسمون، ألا يتدخلوا في السياسة، لا من قريب، ولا من بعيد. وكذلك ألا يسمحوا للإعتبارات السياسية، بأن تؤثر عليهم ولا أن تؤثر في أصواتهم.
ويقول الباحثون والدارسون: “من يصدق هذا. حتى أعضاء مجلس الشيوخ أنفسهم، لا يصدقون ذلك، على أية حال.”
لكن أي مرشح، ينحرف، بشهادته، عن هذة الحكاية الخرافية، في النزاهة والعفة والعذرية السائدة، سيواجه حكما المتاعب، إذا ما ظهر عليه، أي إخلال بتعهداته.
ويقول باحثون آخرون، يتمتعون بوجهة نظر واقعية إلى حد ما عن طريقة إصدار المحكمة العليا لقراراتها: إن القضاة لهم تمييز وإجتهاد. وهم يصدرون، قرارات متعلقة، على أساس الإيديولوجيا والقيم، وهذا الوعي، لا يفسد شرعية المحكمة. لأن الناس يعرفون أن المحكمة تصنع سياساتها الخاصة بها، وأنها تبتكر أيضا.
لكن قضاة المحكمة النزهاء والأنقياء و”العذريين” يتصرفون بطريقة منهجية. لأن القضاة ليسوا سياسيين، ولا يتصرفون كالسياسيين. إنهم يصدرون قرارات نابعة من سياستهم، لكن هذة السياسة، لا تعني التدخل في الأمور السياسية.
ويمكن للمراقب المتعقل أن يضيف: إنهم يصنعون سياستهم الخاصة لأن عليهم أن يفعلوا ذلك.
فهم إنما “يفسرون” نصا قديما، مختصرا، فيه الكثير من الفقرات الغامضة. ولهذا، نجد القاضي على الرغم من نزاهته وحياديته وعذريته، يتمتع، بحرية التمييز والإجتهاد، فيما يتعلق بالجوانب الأكثر غموضا وعمومية وشمولية.
مسألة تشكيل حكومة لبنانية، برئاسة الشيخ سعد الحريري، من أصحاب الإختصاص المستقلين، من غير السياسيين، شبيهة إلى حد بعيد، بتعيين قضاة عذريين للمحكمة العليا. لكن السؤال الأهم: من يرشحهم. وأمام أية لجنة يتعهدون، بأنهم عذريون، بلا أي إنتماء سياسي. ولا ينتمون لأية جهة كانت. ولا لأي حزب كان. ولا لأية جمعية كانت.
مثل هذة الشروط، لا تنطبق على المرشحين لمنصب وزير في حكومة حيادية. لأن لبنان الذي أخذ من الطائف، “مجلس الشيوخ”، لم يذهب به إلى حيز التنفيذ.
فخلال الثلاثين سنة الماضية، لم يحسن اللبنانيون، ولا السياسيون منهم على وجه مخصوص، الشروع في مطالبة الحكومات المتعاقبة، بضرورة إستحداث مجلس الشيوخ، بحسب ما ورد في بنود الطائف.
هناك مسائل كثيرة، تتصل حكما بالمبدأ الأساسي، الذي يمكن أن تقوم عليه، حكومة إختصاصيين مستقلين، “عذريين”، من غير السياسيين. وأولى هذة المسائل، تتصل ب”الجهة الموثوقة” في ظل النزاع والإنقسام والتشرذم والتفتت والإنحلال.
فلبنان لم يتحضر بعد لمثل هذا الإستحقاق. فلا مجلس شيوخ ولا لجان محكمة لديه. ولا مجالس أخرى بديلة، يمكن أن تكون محكمة في مثل هذة الحال.
“حكومة عذريين”، في ظل الحروب المتناسلة، وفي ظل الحصارات المؤلمة، وفي ظل الأوضاع القائمة، هذا لعمري، من سابع المستحيلات. وقد يأتي “غودو”، ويولد من جديد، ويبصر النور، في “بلاد العجائب”، ولا تأتي حكومة المستقلين.
ففي البلاد المستباحة. وفي ظل الإباحية المشرعة. وفي ظلال الإستباحة المشرعنة، بعقود وتفاهمات، تحت الطاولة، وفوق الطاولة، لا أمل لنا أن تلد الأزمة الفجور التي نعيشها، “حكومة عذرية نزيهة”. ولا “حكومة عذريين” نزهاء ومستقلين.
فمن هي الجهة المرشحة للوزراء العذريين. ومن هي الجهة الضامنة لعذريتهم الدائمة. ومن هم “إخوان الصفا وخلان الوفا”، الذين سيقسم الوزراء العذريون أمامهم، على أنهم سوف يبقون، على مسافة واحدة من الجميع، كما كان يقول “نظام الإستطلاع” في “زمن الوصاية”.
سبقنا الشاعر خليل حاوي، قتيل الإحتلال الإسرائيلي، إلى فهم التركيبة السياسية للدولة اللبنانية. سبقنا إلى فهم المستحيلات في لبنان، البلد الذي يقوم على فكرة “السوق العمومية”. وعلى الغش والتعامل والتداول، بالمزور والمستور والمغشوش والمزيف، حين قال:
“تولد الفكرة في السوق بغيا
ثم تمضي العمر في لفق البكارة”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية