المواطنون الآخرون
عرف لبنان، عبر تاريخه الطويل، موجات من الهجرات والنزوح واللجوء إليه. كان لبنان جاذبا للشعوب التي تريد تغيير أوطانها، لأنها لم تعد تطيق العيش فيه. أو لأن الحروب، كانت عليهم، من القسوة، بمكان. أو لأن حملات الإضطهاد كانت تطالهم بعنفها، ثم تعصف المجازر عصفها، فيهروبون، إلى ما كان يعرف لبنان به، بأنه بوطن الإضطهاد واللجوء، والهاربين من جحيم الموت الزؤام.
قصدت لبنان، مجموعات عظيمة، من شعوب البحر المتوسط. وقصدته أيضا، مجموعات عظيمة من بلاد الأناضول. ناهيك عن المجموعات الكبيرة، بأعدادها الغفيرة، من القبائل العربية، التي كانت تنزل في شبه الجزيرة الفراتية، المتصلة ببوادي اليمن ونجد والحجاز، وذلك قبل حملات الفتوح بأزمان وأزمان.
كانت موانئ السفن، في جميع المدن اللبنانية، تقل الأعداد الغفيرة، من بلاد مصر، والمغرب. ومن القارة الأوروبية. ومن الجزر العظيمة المنتشرة في البحر المتوسط، ومن شواطئ البحر الأحمر، وسائر البحار في العالم القديم.
كانت جبال حوران في الجنوب الشرقي، كما جبال طوروس، مدفع الناس إلى لبنان، للعمل فيه، وللإستيطان.
وكانت جميع حملات التبشير الدينية تستطلع في لبنان نجاح دورها بين الناس، فيرفدها بالأساتذة والمعلمين، ويجعلها أكثر نقاوة، وأكثر صلادة، وأكثر قوة، في تنظيم الطقوس، وفي تعزيز النفوس، وفي رص الصفوف.
ومثلما كانت سهول وجبال لبنان قبلة الطيور المهاجرة من البحر والبر، فقد كان أيضا، قبلة الجيوش الجرارة وموطنها أيضا، من البحر والبر.
كان أباطرة العالم، أول ما يقصدون لبنان. ثم لا يلبثوا أن يرحلوا عنه، ولو بعد قرون.
لبنان كان “تركة” هذة الدول والأمبراطوريات القديمة كلها. لبنان كان “تركة” هذة الدعوات التبشيرية، وهذة الإرساليات، وهذة البعثات وهذي المغازي بجميع طوابعها الدينية.
وملما كان لبنان “تركة” الأساطيل الصليبية، فقد كان بالمماثل، “تركة” الجيوش الجرارة، التي قدمت إليه، من روما ومن بيزنطية ومن قلب الجزيرة العربية، ومن وادي النيل ومن بلاد مابين النهرين.
لبنان كان “تركة” الفرنسيين والإنكليز والالمان والعثمانيين، والأميركان.
لبنان، كان “تركة” الثقافات القديمة والحديثة كلها. لبنان كان “إرث” الدعوات التبشيرية كلها. لبنان كان “هيكل” الأمم القديمة والحديثة كلها. لبنان كان “موطن” الحضارات كلها.
في أول المئوية الأخيرة من عمر لبنان، إندفعت شعوب البلقان واليونان والأرمن إليه، بسبب حروب البلقان. وأستوطنوه، ونزلوا فيه، لا ضيوفا، بل مواطنين.
وفي منتصف المئوية أيضا، هجر إليه الفلسطينيون. تآمر العالم كله عليهم، وأمر عددا عظيما منهم، بحزم حقائبهم والتوجه إلى لبنان. وتابعتهم فرق الموت الإسرائيلية، حتى وصولهم، إلى الجنوب والشمال والبقاع والجبل. وحتى نزولهم في جميع ضواحي المدن.
ومنذ أواخر القرن العشرين، وأوائل القرن الحادي والعشرين، أمت لبنان الجماعات الغفيرة، من السوريين. نزلوا مدنه وقراه، وسهوله وجباله. وكانت أعدادهم الغالبة، كما أعداد الفلسطينيين، تجعل اللبنانيين، يوسعون لهم، في السكن وفي العمل والإنتشار، وفي الإنتقال، وفي العيش بحرية تامة، لا ضيوفا في النزل اللبناني، وإنما كمواطنين آخرين.
كان من أدب المواطنين اللبنانيين، الذين هم “تركة” و”إرث” الشعوب القديمة، أن يكونوا على مستوى من الرقي والثقافة والحضارة والمدنية، بحيث لا ينظرون، إلى الفلسطينيين، ولا إلى السوريين، إلا ك”مواطنين آخرين”.
ليست الحالات الشاذة، التي تعرضت فيها مخيمات النزوح السوري للأذى، ولا تلك الممارسات المؤلمة التي نالت من بعضهم، إلا بوقيعة مؤذية لكلا المواطنين اللبنانين، والنازحين السوريين، بإعتبارهم “مواطنين آخرين”، يعملون مثل المواطنين اللبنانيين، على النهوض بلبنان.
هكذا ينظر اللبنانيون إلى جيل النزوح السوري، كما نظر سابقا، إلى جيل اللجوء الفلسطيني، لا بإعتبارهم ضيوفا على لبنان، بل بإعتبارهم “مواطنين آخرين”، حتى تتسنى لهم فرص العودة الشرعية إلى بلادهم، برعاية أممية.
“المواطنون الآخرون”، إذا، هم كذلك، بنظر المواطنين اللبنانيين، حتى يعودون!