الفيل والعميان
في القصص الهندي الذي يعود إلى منتصف الألفية الأولى للميلاد، يتداول الهنود ما يقص عن مجموعة من العميان، قالوا إنهم ثلاثة. وقالوا إنهم أربعة. وقالوا إنهم خمسة. وقالوا إنهم ستة.
أخبروا هؤلاء، بأن هناك فيلا ضخما في طريقه إليهم. فإستعجلوا أمرهم وذهبوا إليه للتعرف عليه..
صاروا إليه معا. فأخذ أحدهم يتلمس رجله. وأخذ آخر يتلمس خرطومه. وكان ثالث يرفع نفسه عن الأرض، ليلمس ظهره. بينما كان الخامس يتلمس جنبه الأيمن، والسادس ، بالكاد يلمس رأسه ويمسح بأنامله على عينيه.
وأثناء ذلك، صار هؤلاء العميان لوصفه، وللحديث عما عرفه كل واحد منهم، من الفيل. فتعددت رواياتهم وتشعبت، وتنابذت وتقاطعت. فكان كل منهم يتحدث عما عرفه من الفيل، على طريقته الخاصة. وبناء لما أحسه فيه. فتناثر هذا الفيل الضخم بين أيدي العميان إلى جزئيات، وغادروه دون أن يتفقوا على وصفه. ودون أن يجمعوا أو يجتمعوا على صورة واحدة له.
مضى زمن طويل، وهؤلا العميان يتناقلون عن الفيل الصورة التي وقع كل واحد منهم عليها. فهذا يتحدث عن عشقه لرجل الفيل العملاقة. وذاك يتحدث عن الرأس الضخم. والأخر عن الخرطوم.. أو عن الظهر العالي. ولم يجمعوا على حبه، في صورة متفقة.
تذكرت قصة هؤلاء العميان مع الفيل، وأنا أرى كيف يتنابذ اللبنانيون على لبنان. وعلى قضية لبنان. وعلى تاريخ ومستقبل لبنان، وعلى دوره في الإقليم والعالم. وعلى تحديد هويته، وطريقة صون حدوده والدفاع عنه.
أمضى اللبنانيون دهرهم مثل العميان أمام حقيقة لبنان. كل منهم يريد تصويره على ما تسنى له منه. على ما لامسه وما لمسه منه. وقلما أجمعوا أو إجتمعوا على صورته الجامعة المانعة، كوطن نهائي لهم. وكهوية وطنية نهائية لهم. وكقضية، يدافعون عنها، ويجدون فيها قضية “دونها خرط القتاد”.
أحزاب أعمتها الإنتماءات للسفارات. أعماها الإنتماء لمراكز القرار. أعمتها الحوالات المالية. أعمتها الأجندات الخارجية. أعمتها العصبيات والوصولية. فتسلقت على ظهر لبنان، ترى فيه كل ذلك، ولا ترى لبنان الوطن النهائي. ولا الهوية النهائية. ولا قضيته الوطنية بين الأمم وفي الإقليم.
قيادات عمياء. سلطات عمياء. طوائف ومذاهب عمياء. عشائر وقبائل عمياء. يتحدث الغرباء إلى أهل لبنان عن وطنهم، فيجدون أنفسهم بعد دقائق، أنهم يتحدثون إلى عميان.
هؤلاء العميان الذين يتربعون على مقدرات لبنان منذ مائة عام لا يرون ماصار إليه الشعب على يدهم. ولا ما صارت إليه البلاد في عهدهم.
تأتي إليهم أمم الأرض، تتحدث عن المصير المجهول الذي يحيق بالبلاد، إذا ما ظلوا يسوسون العباد، بالطريقة نفسها. وإذا ماظلوا يسرقون. وإذا ما ظلوا “يصرون ويورون”. وإذا ماظلوا يستقوون على أبناء شعبهم. وإذا ماظلوا ينظرون إلى خارج حدود البلاد.
مجموعات عمياء، تتجاذب الوطن الهزيل، حتى ليكاد يتمزق بين أيديها، مزقا مزقا. مجموعات عمياء تكاد “تقتلع” عيون الوطن الجميل من كثرة اللمس. يأتي إليهم الزائر الغريب، فيشير إلى عوراتهم. فلا يأبهون لحديثه. ينصحهم. فلا يأبهون لنصحه. يصح فيهم حقا، قول المثل: “أريه إسته، ويريني القمر”. عميان، زعماء لبنان. لا يعرفون من الوطن، إلا مايقع منه تحت أيديهم. إلا ما ينهشونه بأشداقهم. إلا ما يضرسون به.
لبنان بالنسبة إليهم، ليس إلا تجارة. ليس إلا صفقة . ليس إلا عقارا. ليس إلا مزرعة لهم ولأبنائهم ولأفراد عائلتهم.
يرون في الحكومة حوكمة الطائفة والعائلة.. وقس على ذلك في الوزارة. وفي الإدارة. وفي أي مركز وضعوا يدهم عليه.
طبقة من العميان، يحكمون اليوم لبنان.
يرون في إنفجار المرفأ مستودعا من “المفرقعات” إنفجر، وأنتهت القضية.. يرون في تلوث الشواطئ، بعض المهملات والتسربات النفطية من باخرة في عرض البحر. يرون في الحرائق الضخمة في الشقق والبنايات والقرى والغابات، طيش وإهمال بلدي وأخوي وأهلي. يرون في كابتغون الرمان، “قلوبا مليانة”. يرون في إثارة النعرات الطائفية وأشكال التعديات والتهديدات، خواطر ورعونات من فتية ومراهقين وصبيان. يرون في عودة المتفجرات إلى أحضان طرابلس، بعد الإستحقاقات والإنتخابات، هلوسات صغار، ومشاغبات فتيان، وحلوم عصافير، لم ينبت بعد، لها ريش.
عميان هؤلاء السادة الحمقى، لا يشعرون لا بدنو أجلهم ولا بدنو أجل لبنان، في ظل الأزمة المحدقة.
وأما أنا فأقول: “الجاهل أعمى، ولو كان بصيرا” . فمتى تزول الغشاوة و الغباوة عن عيون زعماء لبنان! متى يزول الغباء عن عقول “رعناء” لا زعماء لبنان!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية