أعمدة التشهير
قام لبنان، طيلة مرحلة نهوضه، على أسس وعلى أعمدة. بنى أساسه على الصخر. العلم والعمل. كانت مدينة جبيل مدرسة الأبجدية. وكانت مدينة بيروت، مدرسة الحقوق. قبل أن تكون هناك أبجدية في الإقليم. وقبل أن تنشأ كلية للحقوق، في المنطقة كلها.
كانت مرافئ لبنان، في ممالكه كلها، منائر عالية في جميع المواسم. وفي الليل وفي النهار. كانت أضواؤها قبلة السفن. وكانت أحواضها مراكز عظيمة لبناء الأساطيل التي تعبر من المتوسط، إلى سائر المحيطات، حتى تبلغ الشواطئ الأميركية، قبل كولومبس بقرون وقرون.
كانت دروب الجبل لقوافل القز والبز والحرير. حتى السند والهند، وحتى بلاد الأناضول وأوروبا. وكان البحر المتوسط، بحيرة عظيمة، لمراكب وسفن وأساطيل فينيقيا التجارية العظيمة.
بنى لبنان حضارته على أسس متينة: العلم والعمل. فما إدخر شعبه جهدا في بناء الحياة العلمية، ولا توانى شعبه، عن الخوض في جميع حقول العمل. فكان بذلك قبلة طلاب العلم. كما كان قبلة التجار والصناع، لجودة صناعاته ونفاسة تجاراته، ولتبحر شيوخه وشبابه، في جميع شؤون وشجون الحياة. فأورث بذلك الأجيال، الدفاتر والمنابر والهياكل، فصاروا أساتذة العالم، في الطباعة وفي الزراعة. وفي الطب، وفي الهندسة، وفي علم البحار، وفي علم الفلك وفي علم الحساب والنجوم.
على أساس من ذلك، بنى لبنان ثقافة أجياله، جيلا بعد جيل، حتى كان عصر النهضة، فحمل إليه المدارس والمعاهد والإرساليات، والمطابع والمستشفيات والمختبرات وجعله قبلة الأنظار في الإقليم.
على هذة الأسس العلمية العظيمة، وبمثل هذة الجهود الجبارة في حقول التجارة والصناعة والزراعة، بنى لبنان نهوضه إذا. فإنبنت فيه أسس نهضته، التي برزت فيه، وصارت له أعمدة عظيمة. فطارت شهرته في جميع الآفاق.
صارت شعوب العالم ودوله، تتحدث عن أعمدة هياكل بعلبك، وعن معبد جوبتير، وعن المسرح والمذبح، وعن السوق التجارية ومخازن وإهراءات الحبوب لروما و للعالم. وعن القوافل التجارية، التي تتحصحص وتحج، عند كل صباح، إلى مشارق الأرض ومغاربها.
صارت شعوب العالم كله، تتحدث عن أعمدة جبيل. وعن أعمدة عنجر. وعن أعمدة صور.
صارت شعوب العالم تتحدث عن أعمدة الحكمة في بيروت. وعن أعمدة العلم وقبابه، وتكاياه وخزائنه ومكتباته في طرابلس، مدينة العلم والعلماء.
صار الناس يتحدثون عن رجاله في العصور القديمة، كما في عصر النهضة والعصر الحديث، حملة المشاعل العلمية والطبية والفكرية والدينية والقانونية والتشريعة. صارت بيروت بالنسبة لهم مدينة الشرائع، لرجالها ولأعمدة الحكمة والقانون والهندسة والتشريع والتعليم فيها.
لبنان، صار اليوم ساحة للصراع الإقليمي. صار ساحة للإرهاب الدولي. صار ساحة للإرهاب المتطفل على الإسلام والمسلمين. صار ساحة للإرهاب الإسرائيلي.
تحول لبنان عنوة، من بلد الإشعاع والنور. إلى بلد الظلمة والديجور. صار مقصدا للصوص العالم. صار مقصد قراصنة العالم. صار ساحة إقليمية وعربية وإسلامية، لتصفية الحسابات الدولية.
تحول لبنان إلى “مغارة علي بابا والأربعين حرامي”. صار بلدا منهوبا، مشلعا. صار بلدا مخترقا سائبا. صار مطمعا للعدو والشقيق والصديق.
لبنان بلد نهبت خزاناته المالية في ليل. لم يرحمه مقيم، ولا عابر سبيل. بلت الطوائف يدها فيه. وبل الزعماء والقادة والسياسيون وتجار الهيكل يدهم فيه. وصار بلدا مريضا، تجرى عليه التجارب السياسية والإقتصادية والإجتماعية ويحتسبون حياته يوما بيوم وشهرا بشهر. وينتظرونه متى يموت.
صار لبنان اليوم، يحتاج إلى أعواد المشانق، يعلق عليها المفسدون، والمبتزون، واللصوص والسارقون.
صار لبنان يحتاج إلى “أعمدة التشهير”، حتى يرتدع فيه الغاوون عن غيهم، وحتى يثوب الزعماء إلى رشدهم، وحتى يرتدع تجار الهيكل وباعة الأسماك، وباعة الأوطان، عن بيع لبنان.
لم يكن الأمر مضحكا قديما. بل كان متبعا. فقد كان الخادم أو الغلام، أو الجارية، أو أي شخص، يسرق “زوجا من السراويل”، عليه أن يجلس مثبتا إلى عمود التشهير، يوم الجمعة، مع زوج من السراويل مربوط حول عنقه. وكانت الجارية أو المرأة التي تضرب مولاها، أو زوجها، يجبرها المحتسب على الوقوف، في ساحة الجامع، أو في الساحة العامة في السوق، وقد شد فمها بكمامة، لا بسبب كورونا، وإنما بسبب إساءتها. وكانت إساءتها، تكتب على جبهتها. وكان اللص والسارق والزاني، يشدون على ظهر حمار، بالمقلوب إلى عمود التشهير.
فهل نعود إلى “عمود التشهير” القديم، حتى يرتدع المجرمون، وتتعالى أعمدة الحكمة، و تتعالى معها أعمدة بعلبك وتتحرر، في سماء الوطن!