“في ذكرى التوت ..!”
بقلم : الكاتبة غصون عادل زيتون
-×-×-×-×
رفعت يدها المعروقة بماء العمر الذي ولى ..لتعدل من وضع فوطتها …وابتسمت لعينيّ قائلة : هل اعجبتك الفوطة ؟؟…أجبتها ببرود :لا ّ!…لكن أعجبني موضعها !….أزاحت ثوبها الأسود عن حافة الصمت ..و عادت تعدل فوطتها ، قاطعت حركتها قائلة : لماذا هي كبيرة ؟؟؟..نظرت إلى زاوية الفوطة المطرزة و أمسكتها قائلة : لكي تستر مساحة أكبر !….قمت من على الحصيرة و انتعلت سؤالي لأذهب به إلى البستان ….أوقفتني : إلى أين ؟؟… هل مللت من جدتك ؟؟؟!!…تفاجات من ترنيمتها هذه و قلت : لا لا يا جدتي ..لكن مللت من أسئلتي !…..أشارت لي بيدها حتى ظهرت عروقها الزرقاء لامعة …: تعالي ها هنا في حضني ..لأعطيك بعضا من حبي ….. عانقتني بشدة ..وأجلستني على ركبتها فهربت منها رائحة التوت ..فتذكرت قائلة : آه نسيت …لقد وعدت جدي بالأمس …أن أذهب معه إلى حقلنا !…وهاهو قد ذهب قبل الفجر !……..لماذا لم توقيظيني يا جدتي !؟؟؟…بلعت غصة الكلمة و كدت أبكي …لولا أن رفعت جدتي أحد زوايا فوطتها و مسحت لي دموعا وهمية ..و قالت لتسترضيني : جدك لم يذهب لكروم العنب …لقد ذهب لحصاد القمح !!….هيا ..لا أحبك حزينة !…عاجلتها متعجبة :: ولماذا لا تحبيني حزينة ؟؟؟…إذا أنت لا تحبين أمي ؟؟!…أحسست بصعقة ما سرت في أواصل جدتي فظنته بردا .. فقربتني من صدرها الكبير أكثر .. حتى كدت أختنق !!.. من دفئه … فحرارته جعلتني أفرك عيني ناعسة فأجلست رأسي عليه و حلمت ب سنابل القمح ..!
شاهدت في حلمي قلعة من الزهور ..و غابة من الفراشات …كلما قطفت زهرة ..ظهرت مكانها أخرى أجمل ..و كلما اصطدت فراشة …خرجت من شرنقتها فراشة أروع !…وبقيت هكذا في قلعة الزهور و الفراشات هذه حتى أستيقظت على صوت جدي صائحا من بعيد : ههيييي …غاليتي … نور .. لقد أتيت …………
استيقظت كأنني لازلت أحلم ..فوجدت نفسي على الحصيرة وحدي و رائحة الخبز تخترق حواسي …فعلمت بأن جدتي تركتني نائمة و ذهبت لتخبز وحدها !… اقترب مني جدي ببطء الزمن و فتح ذراعيه داعيا إياي لعناق جميل … قمت متأرجحة و ركضت نحوه بنعاس فاعنقني و قبلني على رأسي … ومسح لي شعري بيد خشنة : حبيبتي نور … كيف كان يومك ؟… أحسسته سؤالا ساخرا …. فقطبت حاجبي الشقراوين و قلت : لا شيء !…لماذا لم تأخذني معك إلى حقلنا ؟؟….لقد غضبت منك !… وعقدت يديّ الصغيرتين و عدت لأجالس الحصيرة ..فاقترب جدي مني و قال باسما : آسف !..لكنني خفت عليك من شمس تموز الحارقة …وأنت حفيدتي الجميلة ..فأنا أخشى عليك حتى من القبل !… هنا ضحك جدي من منظري العابس فضحكت على ضحكته لأنها بلا أسنان علوية .. فبدا جدي كمن وضع أساسات بيت بلا أعمدة ! …… ركضت نحوه و حضنته فأزكمت أنفي رائحة عرق القمح ….. فرفعت رأسي عنه قائلة : جدي …متى سنبدأ طقوس النار ؟؟… نظر لي جدي باهتمام : ماذا ؟؟.. طقوس ماذا ؟؟ … ضحكت و أنا أخفي أسناني و كررت : أقصد …سلق القمح يا جدي !…متى ؟؟ …فأنا أحبه باللوز و السكر !…
ضحك جدي ملء شدقيه حتى كاد أن يسقط .. لكنه تمسك بي و قادني قائلا : تعالي هيا …لقد اخترقني سكين الجوع …هيا لنرى هل انتهت جدتك من خبز فطائر البطاطا ؟….هيا …
أمسكت له يده فشعرت بخشونة يده .. لكن مع هذا نظرت إلى عيني جدي الجميلتين رغم ضمورهما … فوجدتهما تلمعان محبة في وجهي … فقبلت له يده بشغف …
زحف الليل علينا مسرعا ..وجاء موعد السفر … فجهزت حقيبتي الصغيرة ..وخرجت إلى فناء البيت ..فوجدت جدتي تبكي بصمت و جدي ينظر إليها مرة ..و إلى شجرة التوت الكبيرة مرة …حتى وقفت أمامهما ..وأنا أحمل حقيبتي ..فركضت نحوي جدتي تبكي بصوت عال فبللت دموعها روحي …و بقيت أنظر إلى جدي …الذي لم ينظر إلي….و لم يقم من كرسيه … فتركت ذراعي جدتي… و اقتربت من جدي وقرفصت عند ركبتيه قائلة : جدي…حبيبي … أنا ذاهبة الآن …فجأة أجهش جدي ببكاء ثوري…و احتضنني بشدة … فبكيت و بكت جدتي … حتى غرقنا في بحر من الدموع …………
” هييييييييييييييييي نور … نوووووووووووووووووور … لقد حان موعد الذهاب إلى العمل .. زميلتك تنتظرك يا ابنتي … هيا ….
فركت عيني … ونظرت حولي…. لم أجد إلا صورة قديمة لجدي و جدتي تحت شجرة التوت !!…