نزعة الشكاوى
تنتاب اللبنانيين في هذة الأيام نزعة لا تصدق من الشكاوى.
فقد إنتهى الحجر المنزلي. وإنتهت معه التعبئة العامة. وأخذ الناس طريقهم من جديد، للتحرر من قيود الجائحة التي حملت إلى بلدان العالم أجمع “فيروس كورونا المستجد”.
إستعاد الناس إذن نشاطاتهم في أعمالهم. وإنصبت عليهم حاجات الحياة والعيش، وما يتصل بذلك من إستحقاقات المعاش اليومي والشهري والسنوي، بكل الأعباء المادية القاسية المترتبة عليه.
صار اللبنانيون يشكون كل يوم، من حجز أموالهم في البنوك والمصارف. فهم لا يستطيعون إخراجها، لا بالتفاهم، ولا بالحيلة، فلجأوا بعد تضجر طويل للشكاوى، مما حل بهم. وما ألحقه بهم ذلك، من أذى مادي ومعنوي ونفسي، على الصعد كافة.
بات المودعون في لبنان، يقطعون أوقاتهم أمام البنوك ومكاتب المحامين وقاعات المحاكم. باتت ودائعهم المصرفية شغلهم الشاغل. صارت نزعة الشكاوى، هاجسا يوميا من هواجسهم، وقد سدت السبل في وجوههم، وصاروا لا يجدون ما ينفقون.
شرائح أخرى من المجتمع، أخذتها نزعة الشكاوى، وصارت تقض مضاجعها. وصارت تعكر عليها صفو العيش والإطمئنان والطمأنية. وفي طليعتها، الطبقة الوسطى، التي إنهار دخلها لإنهيار العملة الوطنية. وإنهارت معها الرواتب. وتدنت قيمة الحد الأدنى للأجور، بحيث صار لا يفي بشراء الخبز للعائلة، ولا يسد حاجاتها اليومية.
نزعة الشكاوى، طالت أيضا عموم الناس في لبنان. فقد صاروا يعانون من فترات التقنين الطويلة. مما زاد عليهم فاتورة الإشتراك. أو أضر بمطابخهم وبأدويتهم، وبجميع ما تتطلبه سلامة الغذاء والدواء، من الصون والحفظ ضمن شروط من التهوئة والتبريد.
زادت نزعة “الشكاية والشكاوى” في لبنان هذة الأيام، من فقدان مادة البنزين خصوصا، وسائر أنواع المحروقات عموما.
فتوقفت المحطات عن عملها. وزادت صفوف السيارات أمام خراطيم التعبئة. وشهدت أبوابها إزدحامات خانقة. وتأثرت بذلك حركة النقل في البلاد، وتعطل الناس عن الإلتحاق بأعمالهم. ودبت الفوضى ، حتى بلغت أعتى ذراها. وزادت أجرة النقل أضعافا مضاعفة.
أما فقدان الأدوية من المستودعات، ومن الصيدليات، وفقدان لوازم المستشفيات، لمما زاد الطين بلا. وأخذت أبوابها تشهد إزدحامات، ما حصلت لها في السابق، إلا في أيام الأزمات والإضرابات والكوارث العامة والحروب.
ومنذ تدهور العملة الوطنية، وإرتفاع سعر العملات الأجنبية، أخذت المواد الغذائية، وسائر البضائع والحاجات واللوازم التي يحتاجها الناس يوميا، تختفي من الأسواق. وأما المعروض منها، فزادت أسعاره، أضعافا مضاعفة.
وبادر أهل الحكم للتعويض على الناس، بدعم بعض السلع الأساسية. تلك التي تلبي حاجاتهم إلى الغذاء والدواء. فسطت عليها “مافيات التهريب” وكذلك أصحاب المستودعات من التجار والمستوردين الكبار. وجيروا الدعم لمصالحهم. فزادت الشكاوى أمام المحاكم ودوائر التفتيش. وإزداد الإزدحام داخل المولات والسوبرماركات. وتهافت المستهلكون على البضائع المدعومة، فصاروا يتسابقون عليها. ويتعاركون فيما بينهم، للحصول عليها. ثم لم تلبث أن إختفت من الأسواق.
وبلغت الشكاوى مبلغها، من تسيب البلاد على الحدود. ومن فلتان المعابر للمهربين والسارقين. وكثرت الشكاوى أمام المخافر والمحاكم، من سرقة السيارات والآليات وسرقة خطوط الكهرباء. وكذلك سرقة أغطية الريغارات المعدنية، وتهريبها برا، خارج البلاد.
صارت المخافر تتلقى كل يوم الآلاف المؤلفة من الشكاوى. وصارت الأجهزة المختصة، عاجزة عن وقف المعتدين والسارقين والمهربين.
ويحذر اللبنانيون اليوم، أن “يفلت الملق” في البلاد، وتصير عرضة للفوضى والتسيب الأمني، وتكثر فيها الإعتداءات. ويتعرض الناس لجائحة من نوع آخر: جائحة أمنية، تسوق الناس سوقا، إلى الأمن الذاتي، ويعم الإضطراب في المدن والقرى. وتأخذ الإضرابات كما العصيان، في تفلت الناس من الخضوع للقانون، والإحتكام لشريعة الغاب، فلا ينام الناس ليلهم، إلا ليستيقظوا على الخراب.
نزعة الشكاوى اليوم في لبنان، تتطغى على ما عداها من النزعات.
فقرى الإصطياف تشكو من إنعدام الموسم فيها. والمنتجعات البحرية والمطاعم والمتنزهات، تشكو من تدهور أوضاعها. وقطاع الفنادق والشقق المفروشة، تكاد أن تنغلق على نفسها، لهجرة السواح والزبائن عنها.
قرى الجبل صارت مقفرة حتى من أهلها. هجرها الشباب للعمل، وإصطفقت أبوابها على الشيوخ والمرضى والعجزة. أما أهل السهل، فمصابهم عظيم، بإغلاق الأسواق الخليجية في وجوههم. فترى خيراتهم كاسدة على الأرض، يتحسرون على أتعابهم، ويتحسرون على أموالهم، ويتألمون لخراب مواسمهم التي إنتظروها طيلة العام، فباءت أمالهم وأحلامهم بالفشل. وخاب فألهم الذي تأملوه وضاع، كما ضاعت البلاد.
هل نحدثكم عن بكاء الأباء والامهات على أولادهم، وهم يودعونهم في قوارب الموت، إلى أبواب الهجرات غير الشرعية. كاد البحر يشبع من جسومهم الهلكى، تطفو على الشطآن.
أعظم ما يشكو منه اللبنانيون، فقدان السلطة في البلاد، وضياع فرص تشكيل الحكومة، مرة تلو مرة.
إنفجار مرفأ بيروت، كان القشة التي قصمت ظهر البعير. فقد أودى بحياة مئات الشباب، كم أودى بممتلكات مئات العائلات والمحال والشركات، ورتب على لبنان خسائر بشرية لا تقدر بثمن، وخسائر مادية لا تقدر بأثمان، وخسائر معنوية، فاقت كل معقول ومنظور. ورتب عجزا عظيما على الدولة، وحطم الكثير من دوائرها، وجعلها على أبواب العجز المالي والإفلاس المادي والمعنوي.
نزعة الشكاوى عند اللبنانيين، لا تنتهي عند هذا الحد. فهذه بعض المشاهد منها. وأما ما سهونا عنه، وما غفلنا وما كتمنا، فهو أشد وأدهى.
فإلى متى يظل أهل الحكم غافلون، عما يجري في البلاد. وإلى متى يظل المجرمون سادرون في غيهم. وإلى متى يظل اللبنانيون يدفعون الأثمان.