” خيمة الصمت “
يحتاج لبنان بعد رسالة رئيس الجمهورية إلى المجلس النيابي، وبعد مطالعة (…..) الوزير جبران باسيل، وبعد الرد المدوي للرئيس المكلف سعد الحريري عليها، وبعد “ختمية” رئيس المجلس النيابي، و”دفعها بالتي هي أحسن”… أقول: يحتاج لبنان، لنصب خيمة للصمت في كل مدينة من مدنه. وفي كل قرية من قراه. وفي كل دسكرة من دساكره، وأمام كل قصر من القصور الرئاسية. وأمام كل وزارة، وأمام كل إدارة. وأمام كل معبد.
يحتاج لنصب خيام للصمت، في جميع ساحاته. وفي جميع قلله وفي جميع سهوله وفي جميع جباله.
يحتاج لبنان لرفع خيام للصمت، عند منابع ومصاب أنهاره، وعند مكاسر موجه، وعند جميع مرافئه. يحتاج لبنان، أن يرفع قبة حديدية للصمت في سمائه، تستطيع أن تسقط جميع الخطب الصاروخية. وجميع الأناشيد والزغاريد والزلاغيط الحماسية، ويلجأ تحتها، للوذ بالصمت.
يحتاج أهل لبنان، بعد رسالة رئيس الجمهورية، أن ينضووا جميعا، في جحورهم كالنمل. أن يعودوا إلى كهوف أجدادهم ساعة. أن يرجعوا القهقرى، إلى المغاور، ويسدوا أبوابها عليهم بالصخر.
يحتاج اللبنانيون، بعد رسالة رئيس الجمهورية، ونقضها من الرئيس المكلف، ودفعها من قبل رئيس المجلس، إلى أن يمتلئوا، في مغارة جعيتا. إلى أن يلتئموا فيها. إلى أن يلأموا على أنفسهم في داخلها، أمام هياكل الجمود الجميل، للزمن اللبناني القديم.
لا يليق بهم بعد رسالة رئيس الجمهورية، والدفوع لها وعليها، إلا أن يدخلوا خيام الصمت، وأن ينذروا أنفسهم له. و”أن لا يكلموا بعد اليوم إنسيا”.
تهاوت السقوف العالية للخطاب اللبناني، بعد بلوغه السقوف العالية. وجبت “جهينة” قول كل فصيح. فماذا نقول بعد ذلك. وماذا نطلب. وماذا نذوق. وماذا نشم. وماذا نستنشق. وكيف نجوس الأرض. وكيف نخيط علينا الليل. وكيف تطلع من بعد، علينا الشمس.
(….).
لا يليق بلبنان و باللبنانيين، إلا أن يلزموا الصمت. إلا أن ينصبوا له خيما. إلا أن يغلقوا أبواب منازلهم على أنفسهم ويدخلوا في الحجر.
أزعم أنهم يحتاجون لفترة من الحجر، أطول من فترة جائحة كورونا. أزعم أنهم يحتاجون للحجر، حتى آخر العهد.
حجر اللبنانيين أهون الشرين: الجوع والحرب. فلماذا نخشى من بعد، على أنفسنا، شر الحجر.
يجب أن نذهب إليه طواعية، لا مكرهين كما في زمن كورونا. نوفر على أنفسنا الملاحقة. نوفر على أنفسنا التعب وإعياء النفس.
تعود اللبنانيون الحجر المنزلي، فما بالهم لا يسرعون إلى منازلهم طواعية للحجر، بعد السقوف العالية للجوع والحرب.
أزعم أننا صرنا جميعا أمام السياط. نسمع أصوات السياط، التي تهتز أمامنا، وتهدد بالجلد. فلنندفع إلى خيمة الصمت، نلوذ به، حتى تمر الجائحة. فلنندفع إلى جحورنا كالنمل، حتى تمر العاصفة.
بعد رسالة رئيس الجمهورية ودفعها بالتي هي أحسن، ما على اللبنانيين، إلا الإمتثال للهدوء والتأدب، والرجوع من الساحات القهقرى إلى الوراء. نرمي من أيدينا مطالب أطفالنا بعلب الحليب. نرمي من أيدينا مطالب مرضانا بقوارير الدواء. نرمي من أيدينا، مطالبنا، بالماء والخبز والكهرباء. نسقط أنفسنا. ندعها تتساقط، أمام القصر.
ونرجع القهقرى، إلى خيمة الصمت، ننتظر حتى ينبلج الفجر، بعد تبدد آخر غيمة من غيوم العهد، فلا تكون من بعدها، غيمة متحورة!.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية