..أجرت الشاعرة والكاتبة رانية مرعي مقابلة مع الشاعر مارون ابو شقرا نشرتها مجلة كواليس في بيروت .
وهنا النص الكامل :
مارون أبو شقرا، مواليد جب جنين، البقاع الغربي، لبنان…
عيشه في زحلة مدينة الشعر أغنى تجربته الأدبية والثقافية والفنية.. فاهتم بتذوّق الموسيقى والرسم والنحت وغيرها من الفنون..
له مقالات في اكثر من صحيفة لبنانية في مواضيع مختلفة..
شارك في العديد من اللقاءات الشعرية والثقافية في لبنان وخارجه…
له في الشعر المحكي:
إنتي وشو أنتي ١٩٨٩
العنوان عشتار ٢٠٠٠
رقصه ع باب الضوّ ٢٠١٤
وكتاب مشترك مع الشاعر حبيب يونس هو دراسة تحليلية بعنوان : الشاعر والزجال والشعر بينهما ٢٠١٦
الشاعر الذي يحتضن المعنى بكلماته الآسرة، له مكانة خاصة في عالم الإبداع لأنه يتقن فن الدهشة.
الشاعر مارون أبو شقرا:
يقول موريس عواد: “ما فيك تكتب تحفه الا باللغه اللي بتحلم فيا”
في المحكية رائحة التراب، وصوت الأم، وهمس العصافير، وضحكة البيادر، وهل الشعر غير هذه الجمالات؟؟؟”
*قصائدك ملاحم روحية مسكونة بالوحي. كيف استطاع الشاعر مارون أبو شقرا أن يجعل من كلمته أيقونة في جيد الشعر؟
بدايةً شكرًا لمجلة كواليس وللشاعرة الصديقة الأستاذة رانية مرعي لهذه الاستضافة، وبعد…
فعلًا ومن موقع متجرّد لا يدّعي التواضع، أقول:
لست أدري إن كانت قصائدي كما وصّفها السؤال المحبّ المقدِّر والمقدَّر، ولا أظنّ كلمتي أيقونةً في جيد الشعر كما جاء في السؤال. أجرّب وأطمح لتقديم أفضل ما يمكنني تقديمه، محاولًا خلق وتجديد ذاتي الشعرية باستمرار، وقد أكون أنا نفسي الناقد الأكثر قساوةً بحق ما أكتب.
من حسن حظّي أنّني حَبَوْتُ أولى خطواتي أمام كبارٍ في النقد والإبداع، كالكبير الراحل الأستاذ نقولا يواكيم، والأساتذة الأحبّة جوزف غصين والياس الغنّاج وجورج مسلّم، الذين لهم ما لهم في عالم النقد والأدب والإبداع والفكر والمعرفة والثقافة، فصوّبوا وبَردَخوا ولمّعوا وصقلوا…
باعتقادي، أنّ الشعر ليس موهبةً فقط، هو رؤيا تنصهر يوميًّا مع ثقافة ودربة وتمرّس وبحث دائم عن كمال، هو الكلام المتجاوز (بواسطة اللغة) لغةَ القول إلى عوالم ولغات النحت والرسم والموسيقى والفلسفة والدين والفيزياء والكيمياء والرقص والرياضيات والهندسة والتاريخ والجغرافيا والعمارة والصمت أيضًا، بهذا المعنى هو ظاهرة ثقافية معرفية إدراكية رؤيوية حسّية جمالية شاملة. آمل أن أكون على الدرب الصحيح…
*إلى أي مدى قلمك جريء في مقاربة الفكرة التي تقدّمها؟ وهل حصل أن ساومتَ فكرةً حتى لا تلقى الرفض من المتلقّي؟
حاولت دائمًا قول ما أريد وما أودّ قوله… قد أساوم على مفردة لا على فكرة. لا إبداع بدون حرّيّة، صحيحة هذه النظرية وحقيقية… معضلة هذا الشرق الحزين أن الظلام الأسود قد طرأ عليه وأفقده الحرّيّة، ونكبته ثقافة مجتمعية أرستها السلطات الدينية والسياسية المتحالفة منذ قرون، شرّعَتْ حدودًا ومنكرات وتابوات… من حسنات هذه الثقافة القامعة، (وربّ ضارة نافعة)، أنها شجّعت المحابر بقوّة على استخدام الرمز، فاغتنت القصيدة، وانفتح أمامها وأمام الشاعر والقارئ الكثير من الآفاق، فتضاعف التأويل وخاصره المجاز.
الشعر ليس نصًّا قانونيًا أو عقدًا بين متعاقدين أو معاهدة دولية نحتاج إلى تحديد معاني مفرداتها وحصر دلالاتها، الشعر تجاوز للمعنى المباشر نحو دلالات جديدة وإيحاءات أغنى، هو الإيماء والتلميح لا التعيين والتصريح، لذا يتحرّر الشاعر باستخدامه الرمز من أسر التابو المجتمعي، ومن سجن الخطوط الحمر التي رسمها الفضاء العام، والرمز مفردة أو مشهدية تغني المعنى وتضيء الفكرة، ما يسقط الحرج أو الخوف أو التردّد أو المساومة على الفكرة.
*ترفّع بعض الشعراء عن تناول القصيدة العامّية، معتبرينها نوعًا فولكلوريًّا عاجزًا عن تخطّي دائرة الأفراح. هل نوع القصيدة هو الذي يحدّد مرتبة الشاعر؟
إشكالية الفصحى والعامّيّة غير مطروحة إلا في هذه المنطقة من العالم، وبرأيي أنّ أساس الطرح هو إيمان فضائنا العام بقدسية اللغة العربية، المسألة من وجهة نظري ليست مسألة إيديولوجية أو عقائدية أو إيمانية، هي مسألة جمالية تعبيرية…
الترفّع بهذه الحالة خطأ فكري منهجي، اللغة في القصيدة هي لغة الشاعر كما يجب أن يكون (منارة للناس) لا لغة المجموع، القيمة للنص لا للغة النص، من الخطأ الظنّ أن هنالك لغة جميلة وأخرى قبيحة، هنالك نص جميل ونص قبيح (وسأعود للفكرة)، قد نكتب نصًّا رديئًا بلغة نفترضها جميلة، ونكتب نصًّا عالميًا بلغة نظنّها بشعة، هل كتب هذا المترفّع أجمل ممّا كتبه الخالد سعيد عقل في يارا والخماسيات؟ وهل تلغي أطنان الشعر العربي الفصيح عظمة ميشال طراد وألبير حرب وجوزف حرب وعصام العبدالله، وهل تمّ ترشيح الكبير موريس عوّاد من قبل أربع جامعات أوروبية لنيل جائزة نوبل للآداب إلا لأنّه كتب شعرًا كونيًا، كشعر دانتي وغوته وشكسپير وهوغو وپريڤير والمتنبّي؟؟ وهؤلاء جميعًا كتبوا بلغاتهم العامّية الدّارجة المحكيّة الحيّة في عصورهم!!! هل بإمكان هذا المترفّع منافسة ما قدّمه الأخوان العظيمان عاصي ومنصور الرحباني في المسرحية (الأوبرا) والقصيدة الصافية؟؟؟؟
بماذا يجيب هذا المترفّع العديد من الجامعات المرموقة حول العالم التي منحت باحثيها شهادات دكتوراه تناولت تراث من ذكرتُ وغيرهم من شعراء كتبوا بالمحكيّة اللبنانية؟؟؟
في كتابنا المشترك، الشاعر والزجال والشعر بينهما، لمؤلّفِيه الشاعر الأستاذ حبيب يونس وأنا، كتبت:
“تنطلق مفاهيم الناس من خلفيّاتهم الثقافية… وترسم هذه الثقافة إضافةً إلى مفاهيمهم الاجتماعية والأدبية، اتجاهاتهم الفكريّة والحياتيّة العامّة…
يمجّد معظم العرب لغتهم…وكثيرًا ما ينبع هذا التمجيد من وجهة نظر دينية إيمانية…
واللغة العربية بلا شكّ لغة جميلة ككل لغة أخرى…
كلّ اللغات جميلة، ولكلّ لغة سحرها وأسرارها وروحها وبساتينها…
غالى بعض العرب باعتبار اللغة العربية هي اللغة الأجمل على الإطلاق…
جمال اللغة -أي لغة- ليس في ذاتها، لذلك ليس هناك من لغة جميلة وأخرى غير جميلة…
هناك نصّ جميل، ونصّ غير جميل…
هناك نصّ يزيّن اللغة ويضيف إليها وعليها، ونصّ لا حول له يتزيّن بها لتضيف عليه…
اللغة في حال اللّاتعبير واللّاجمال، لا قيمة لها…
*تطرّفٌ لا معنى له وتعصّبٌ غير مبرَّر اعتبار الشعر اختصاصًا محصورًا باللغة العربيّة، أو اعتبارها اللغة الأجمل، اذ إن إطلاق حكم كهذا، يحتاج بدايةً إلى أن يكون مطلقه عارفًا ومتقنًا لكل لغات العالم، وهذا أمر مستحيل… من ناحية ثانية من يستطيع أن يقرّر في مسألة جماليّة؟؟؟؟
إن الجمال والفن والتفضيل الجمالي مسألة متجاوزة لأقْيِسَة مظنونة لها وتختلف حولها الآراء باختلاف الناس والظروف والنفسيات والثقافات…
قلت في مقدّمة ديواني (العنوان عشتار) إن اللغة وسيلة للتعبير -وللتفكير إذا اردت-، وإذا كانت اللغة وسيلة للتعبير والشعر تعبير عن إحساس، فإن هذا يعني أن أفضل ما يكون التعبير هو أن نعبّر باللغة التي بها أحسسنا القصيدة وفكّرنا فيها …
يقول موريس عواد: “ما فيك تكتب تحفه الا باللغه اللي بتحلم فيا”
قد يعتبر البعضُ موريس عواد مغاليًا، لكن النظرية تُحترم وتحتاج الى تفكّر، نعم، هناك علاقة ما بين اللغة وحنين القول والشعور، يدركه الشعراء، أكتبوا أم اكتفوا بلذّة الشعور، وهذا ما قد نسمّيه سرّ اللغة والسحر…
للّغة معنى وجدانيّ لا يستغرقه الفهم العينيّ الذهني…
قيمة كلمة “تقبرني” في معناها الوجداني، وبعده الشعوري لا الذهني…
في المحكية رائحة التراب، وصوت الأم، وهمس العصافير، وضحكة البيادر، وهل الشعر غير هذه الجمالات؟؟؟”
اللغة وسيلة، القصيدة هي الغاية…
(وتصبح القصيدة وسيلة لغاية عظمى هي رفع الإنسان نحو مثل عليا وجمال أجمل)
اللغة إزميل القصيدة هي التمثال…
اللغة ريشة القصيدة هي اللوحة…
*عندما يعثر الإحساس على الفكرة، كيف تعثر الفكرة على الكلمات؟ وهل أعجزتك يومًا فكرة؟
القصيدة هي المشهد الأخير لبناء متكامل، بناء من جسد (مبنى) وروح (معنى)، بحسب الفيلسوف الألماني هيجل “الجمال هو خلاصة جدل الشكل مع المضمون”، كذا هي القصيدة، القصيدة ابنة العاطفة والعقل معًا، بفعل تزاوج الوحي والإبداع، اذا اعتبرنا ان الوحي هو الفكرة فالإبداع هو الكلمات أو صياغتها وتوليفاتها وتراكيبها… العمارة كلّ متكامل، من المتخيّل إلى المرسوم إلى الحجر إلى المواد إلى البنّائين، العمارة مزيج من علم ومعرفة وفن وخيال وفلسفة وفيزياء ورياضيات ورؤيا ومهارة، تنصهر في عقل وزند وأرض ومادّة وطبيعة انصهارًا خلّاقًا، لا عمارة خارج وجودها على أرض الواقع، كذلك لا قصيدة إن لم نغرف من اللغة ما يجسّد الفكرة، في تعريفه للجمال، يقول المفكّر جورج الأشقر: “الجمال هو الإلحاح على الكلمة لكي تتجسّد”، أي أنّه لا معنى لفكرة غير متجسّدة، قيمتها في أن تُكتب وتقال، في إحدى قصائدي من ديوان العنوان عشتار أقول : “صدرِك شعر والشعر تَ ينقال”، القصيدة المسكوت عنها المكتومة القيد والقول والحبر غير موجودة، متماهية مع العدم، والفكرة غير المولودة من رحم القصيدة تبقى عدمًا لا قيمة له الا بفعل الخلق، وحتى تلك اللحظة لا حديث عن فكرة أو إعجاز أو ما شابه…
*يقول غاستون باشلار: “أن نقرأ الشعر يعني أساسًا أن نمارس أحلام اليقظة”، هل الشعر هروب من الواقع أو مرشد إلى حقيقة ما نعيشه؟
ملاحظة أولى:
لفرويد رأي مشابه لرأي باشلار، حيث يعتبر “أحلام اليقظة أرضًا خصبة للعمل الإبداعي”، “أحلام النوم -كما حدّدها- تتعلّق بماضينا” انطلاقًا من اللحظة الحاضرة العابرة المنتهية بمجرّد تحقّقها وبلوغها، (الحاضر حسابيًا وعمليًا غير موجود، وكلّ ما لدينا هو الماضي والمستقبل)، وأحلام اليقظة هي ما نرسمه لأوقاتنا الآتية…
انتهت الملاحظة، أعود للسؤال:
الشعر رؤيا، “وكشف عن عالم بحاجة إلى كشف دائم” كما عبّر أدونيس، الشعر هو المرتجى، والمرتجى هو الواقع المتحقّق في الغد الآتي، هو حقيقة ما يختلج في دواخلنا وفي بواطن المنتظَر. رغم أن الشعر مجاله الجمال لا الحقيقة، إلا أنه باستطاعته أن يأخذ بنا إلى مدارات وفضاءات معرفية، وقد عبّر أحد علماء الرياضيات عن الأمر باعتباره لأسبقية الشعر على تلمّس حقائق علمية.
الشعر ليس فقط مرشدًا لما نحن عليه، هو دليلٌ أحيانًا لما قد نكونه غدًا. أوَليس الشعر ناطقًا رسميًّا باسم الجمال؟ والجمال قيمة مطلقة تختزن الخير والحق، ثالوث الخلاص الوحيد لهذا العالم، نعم، وأردّد مع كثيرين، من وحي ما قاله دوستويڤسكي “بإمكان الشعر أن يخلّص العالم”!!!
*كثرة المنتديات على الساحة الثقافية دليل عافية؟ أو أنها ساهمت في الفوضى الكلامية ممن يدّعون الشعر زورًا؟
لا ثقافة ولا حياة ثقافية بدون نشر…
لا شكّ أن هذه المنتديات ساهمت بشكل أو بآخر بنشر أعمال ثقافية جادّة، بعضها حلّ مكان وزارات الثقافة والتربية والإعلام، ولا يمكننا تحميل هذه المنتديات مسؤولية ما نعيش من انحطاط فيما لو قدّم بعضها مادّةً غير جيّدة. نحن نعيش في فراغ ثقافي على مستوى التوجيه الممنهج منذ أكثر من خمسة عقود، يوجّهنا في غياب رعاية تثقيفية محترمة (رسمية كانت أو غير رسمية) إعلامٌ تافه لا غاية له سوى الربح السريع وتقويض كل ما هو جميل ونهضوي وبنّاء، إعلام مهمته التسويق للقبيح والضحل والممجوج والسخيف والرديء، وظيفته قلب سلّم القيم في مجتمعنا تمهيدًا لما وصلنا إليه، وقد نشرت موقفي من هذه المسألة منذ سنوات.
في بلد السيّدة فيروز والعظماء الرحابنة (عاصي ومنصور والياس وزياد) وفيلمون وهبه ووديع الصافي ونصري شمس الدين ووجيه نحلة وسمير أبي راشد يتصدّر المشهد الفنّي هراءٌ يتسابق هذا الإعلام على جعله جزءًا من ثقافتنا ووعينا ولاوعينا بالقوّة وبالفعل.
نحن نعيش بفضل هذا الإعلام “فوضى الحواس” والإدراك والمعارف والقيم والتمييز والأحكام والنقد، في بلد (الخالدين، مع حفظ الألقاب) جبران خليل جبران ومخايل نعيمه وفؤاد سليمان وأنطون سعادة ويوسف السودا وكمال يوسف الحاج وشارل مالك وعبد الحسين شرف الدين ومحمد حسين فضل الله وعبدالله العلايلي وسعيد عقل، يقود الرأي العام ويصنعه مهرّج تافه وإعلامي رخيص فارغ ومذيعة مأجورة حدود معرفتها لا تتجاوز خدودها المنفوخة..
نحن نعيش نتيجة ما اقترفه هذا الإعلام المسطّح اللاهث وراء الكسب المالي الرخيص والتهديم الممنهج المبرمج المدروس على مدى عقود، وما من عاقل كان ليتوقّع غير هذه النهاية…
من حق الجميع أن يكتب ويعبّر بالطريقة التي يرغب، مهمتنا هي رفع مستوى الذوق العام ليحكم بشكل صحيح، لا يمكننا قمع الحق في التعبير، كل ما علينا فعله هو جعل الذائقة العامّة قادرة على التمييز بين ما هو جميل وما هو قبيح، وهذه مهمّة أظنّها باتت صعبة وشبه مستحيلة في المدى المنظور، تحتاج إلى أكثر من جيل ولتضافر جهود كثيرة، رسمية وأهلية وإعلامية وتربوية، والأمر ليس ممكنًا في الوقت الحالي….
*قديش نام البحر ع زنودا،
ونَقْوَد صخر عن بيدر سنينا،
وزيّن شبابو بْرقّة ورودا،
تخمين نِسْيِت قسوتو مينا؟
مطلع قصيدة كتبتَها لبيروت، حفرت عميقًا في الوجدان. هل تتّسع الكلمات لنسج ألم الشاعر الذي يعيش الاحساس حتى الرمق الأخير؟
إحدى غايات الشاعر من الكتابة أصلاً هي التعبير عن هذا الاحساس، هل تتسّع الكلمات لكل هذا الشعور، سؤال لا يمكن الإجابة عنه بنعم أو لا، قد نوفّق فتتّسع أحيانًا وقد لا نوفّق فلا تتّسع أحيانًا أخرى… يقول سعيد عقل “الكتابة عملية masturbation فكريّة”، أي أننا بنتيجتها يفترض أن نشعر بالاكتفاء والإشباع..
القصيدة هي القصد من وراء القول، هي البناء اللغوي الذي عليه أن يصف مشاعرنا وأفكارنا، وإن عجزَتْ قصيدةٌ عن ترجمة ونقل ما نودّ التعبير عنه، يكون التوجّه قد أضاع السبيل، والبناء لم يكتمل، وبالتالي فإن القصيدة لم تبلغ القصد..
لا يمكن للفهم الذهني أن يشرح شعورًا، الكتابة ترجمة لانطباعاتنا حيال هذا الشعور، ليست شرحًا له، من يستطيع ان يشرح لضرير ما هو اللون الأحمر أو الأبيض؟ من يمكن أن يشرح لي ما هو المالح من الطعام إن كنتُ لم أذق الملح؟ بإمكاني أن أتحدّث عمّا يبعثه في داخلي اللون الأحمر من موحيات، لكن يستحيل على البشرية شرح وتفسير وتحديد هذا اللون لعين لم تَرَه….
الشعر هو وصف لهذه الانطباعات والمكنونات النفسية والأفكار بأسلوب فنّي جميل متجاوز للمألوف… وأنا أحاول ألا أخادع نفسي فيما أكتب…
*الشاعر “الملك” الأكثر تواضعًا وأنت الحامل لصولجان الكلمة.
لا تأسرك الألقاب، لماذا تشكّل عقدةً للكثيرين؟
هذا اللقب يشكّل لي إحراجًا كبيرًا، لست أذكر من أطلقه بالتحديد، وإن كنت أذكر تمامًا المكان – المنتدى الذي أودّ وأحترم ومنه انطلق، وأعرف أنّه تعبير عن حبّ وتقدير كبيرين، ليتني أستحقهما…
بصدق وبكثير من الموضوعية أقول وأعيد:
الفنّ مسألة معقّدة تختلف حولها الآراء باختلاف الناس والظروف والنفسيات والثقافات، والحكم في مسألة فنّية حكم ذاتي غير موضوعي، قد أفضّل الآن سماع أغنية لن تستهويني نهار غد، ما هو المعيار؟ لا معيار محدّد سوى مزاجي تجاه هذه الموسيقى في هذه اللحظة، أسوأ أنواع القضاة قاضٍ يصدر حكمًا مزاجيًا، موقفنا من عمل فنّيّ أصلاً قائم على مزاجنا…
ولمّا كنت ابن حقبة غنيّة بشعراء ممتازين، وبينهم تقارب قويّ وواضح في المستوى والمكانة والشعرية يصبح اللقب ادّعاءً فيه الكثير من اللاعدل واللاإنصاف واللامنطق، في التسابق الرياضي (في الركض مثلاً) يحكم بين المتسابقين معيار منطقي علمي، بنتيجته نقرّر أن فلانًا يفوز باللقب لهذه الدورة كونه كان أول الواصلين. من يستطيع أن يقرّر إن كانت موسيقى محمد عبد الوهاب أكثر جمالاً من موسيقى رياض السنباطي أو محمد الموجي أو بليغ حمدي (مع حفظ الألقاب)، أنت تخبرني من تحبّ أو أي موسيقى تعجبك أكثر لكن لن يكون بمقدور أحد أن يقرّر بين العباقرة المذكورين من هو ملك التلحين في مصر…
ها أنا أردّد مع المتسوّل في مسرحية
“هالة والملك” للأخوين رحباني:
“أنا شحّاد المدينِه برفض كون ملك… أنا هلّق شحّاد، لكن بِحْلَم، ولمّا الحلم بيتوهّج بحلم صير ملك، بس الملك ما إلو مستقبل… واقف ع الباب الأخير، ع الباب المسكّر… (…) الملك ما عاد يطلع، ما عاد يقدر يتحرّك، إذا تحرّك بينزل”!!!
فيما خصّ انطباعات الآخرين حيال هذه المسألة فلا جواب لديّ، لكلّ منّا تركيبته النفسية وشخصيته وظروفه، وللّه في خلقه شؤون…
*أترك لك الختام مع قصيدة تهديها للقرّاء :
شبّاكنا عَا درفتو لاقَيْت
حبِّةْ شتي… عَم يسألا ويعرَق:
-“شو وصَّلِك بالبرد عَا هالبيت؟”
قالت: -“خفْتْ إغرَق
مطرَح مَ كنتْ وعِشْتْ وتربَّيْتْ…
شَوْبْ كان، وطرت عَا جهلي!!!
من حَوْشْنا الأزرق…
قلت بدّي هالسّما إسبَق!!!
… وكلّ النّقَط بالحيّ تندَهْلي،
ما سْمِعِت، ما اهْتَمَّيْت…
ردَّيْتْ باب الذاكْرَه وفلَّيْت!!!
وطْلُعْت صَوْب الريح إتْعَمْشَق…
سقَّعْت وتْشَتَّيْت…
وعَ قزازكُن هدَّيْت …
دَمْعَه أنا ونزِلْتْ عَا مهلي،
إبكي لوَحْدي، عَا وطن أهلي”!!!
شكرًا لك أستاذة رانية وشكرًا لمجلة كواليس وشكرًا للقراء الأعزاء….