إنتحار جماعي
مبكرا جدا، بدأ عندنا موسم الإنتحار الجماعي. مجموعات مجموعات، يبدأ رقص الإحتفال، بالإنتحار الجماعي، دون أي تدخل خارجي. دون أي تدخل داخلي. دون أية يد مؤذية أو فاعلة. أو مشبوهة أو مأجورة، حاولت أو هي تحاول الأذية أو الإيذاء بنا.
إنتحار جماعي، هو مشهد نفوق السمك، في سد القرعون. قرر هذا العام أن يقيم إحتفالا خاصا به. تحت الماء وفوق الماء. قرر الإنتحار الجماعي.
هكذا ، بلا سبب، وبلا أذية. وبلا إيذاء من أحد. بلا سم. وبلا سموم. بلا حوز. وبلا تحويز. ومن دون أي تدخل خارجي. ومن دون أي تدخل داخلي.
فجأة قرر سمك بحيرة سد القرعون الذهاب، إلى حفل الإنتحار الجماعي.
سمك طائش. سمك جاهل. سمك أرعن. سمك متطفل على الماء. رفض أن يبقى، تحت الماء، أو فوق الماء. وقرر الإنتحار الجماعي.
مشهد إنتحار سمك القرعون، إنما هو جزء من مشهد إنتحار السمك في غزة. جزء من مشهد إنتحار أهل غزة جزء من إنتحار سطور الفراشات في غزة. جزء من إنتحار حقول الزهر ومساكب الورد. جزء من مشهد إنتحار أطفال غزة.
يدخل أهل غزة أيضا موسم الإنتحار الجماعي. يذهبون إليه طواعية كسمك القرعون. بلا سبب داخلي. وبلا سبب خارجي. بلا تدخل من أحد. بلا أذى. بلا أذية من أحد. قرروا هم أنفسهم الإنتحار الجماعي. بلا طائرات مغيرة وبلا قنابل. وبلا صواريخ. وبلا أعداء. وبلا متآمرين. وبلا أياد خارجية. وبلا أياد داخلية. وبلا طابور خامس. أو أول وثاني وثالث ورابع.
قرروا فجأة الإحتفال هذا الموسم بفصل الإنتحار الجماعي، بكل رعونة. وبكل طيش. وبلا تهديد. وبلا وعيد. لا من قريب. ولا من بعيد.
جاءت الطائرات بعد إنتحارهم. جاءت الصواريخ. القنابل. جاءت رشقات الرصاص. جاءت أوراق النعي، بعدما كانوا قد ذهبوا بأراداتهم مثل سمك القرعون، إلى موسم الإنتحار الجماعي.
أهل لبنان، مثلهم مثل سمك القرعون، ومثل أهل غزة، قرروا المشاركة أيضا، على طريقتهم المبتدعة حديثا، في موسم الإنتحار الجماعي.
رآهم بأم عينيه، نقيب أصحاب خزانات وتخزين الوقود. بل نقيب مستوردي الوقود. بل نقيب توزيع الوقود: فادي أبو شقرا، يهجمون بخمسة ملايين سيارة، على محطات البنزين، دفعة واحدة. بلا سبب. وبلا أذى وبلا أذية من أحد. وبلا مؤامرة. وبلا متآمرين.
رآهم يقفون بسياراتهم صفوفا صفوفا، طيلة النهار في حر الشمس. وطيلة الليل في الدغشة. وفي العتمة. وفي ظلال الإرهاب و الخوف. يريدون أن يفرغوا محطات الوقود في سياراتهم. وأن يسلبوا أصحاب المحطات، الوقود الذي إختزنوه لمضاعفة أسعاره.
أهالي لبنان مثل سمك القرعون، ومثل أطفال غزة. ومثل فراشات غزة، يحبون المشاركة دوما، في الإنتحار الجماعي.
أهالي لبنان، يأمون فصل الإنتحار الجماعي بإرادتهم. يطفئون على أنفسهم الكهرباء. وينهبون مال البنوك والمصارف. يريدون سلب الودائع. يريدون اللقمة المدعومة. والرغيف المدعوم. والحليب المدعوم. ويقفون صفوفا وينتحرون حتى تتحقق مطالبهم في رفع الدعم. يريد أكل السمك واللحم والبيض، والسمن والزيت. يهجمون على خزانات الماء. على حنفيات الماء. يجففونها. ويجففون معها السدود. يذهبون إلى الإنتحار الجماعي، على أرجلهم. يحبون الموت جوعا وعطشا. يحبون الموت، طوابير طوابير، فوق جبال النفايات، التي كدسوها بأيديهم، ولا يأبهون.
إنتحار جماعي، أمام سد النهضة. إنتحار جماعي في الحسكة، أمام جفاف الفرات. إنتحار جماعي في شط العرب، أمام جفاف دجلة. إنتحار جماعي، خلف أسوار الفصل العنصري، في الضفة والجنوب والجولان. وفي غزة وجنين ونابلس وعسقلان.
شعوب لبنان وفلسطين وسوريا والأردن والعراق ومصر، ينسقون فيما بينهم فصل الإنتحار الجماعي. بلا عدو داخلي وبلا عدو خارجي. بلا سبب. وبلا أذية ولا أذى.
شعوب تهوى الإنتحار الجماعي. ترتب فصوله. ترتب مواسمه. تجعل له روزنامة يومية. تجعل له روزنامة موسمية.
أشجارهم تعشق النيران. تستدعيها إلى البيوت والغابات. بلا ضارم نار. أشجار توري النار تقدح الشرر. نفسها بنفسها، في نفسها، بلا مجرم . ولا إجرام.
شواطئ تستدعي النفايات إليها. تعشق التلوث، بالمازوت والنفايات النفطية. تستدعي البواخر إليها، لتريحها من نفاياتها، بلا متآمر. بلا أوامر. بلا أمير. بلا أميرال.
أهالي الشاطئ الشرقي في المتوسط الكبير، يرمون أولادهم في البحر. يرسلونهم غرقى إلى قوارب الموت. يخططون لإنتحارهم بعد ولادتهم. يخططون لوأدهم. يقدمونهم وجبات سريعة لعجول البحر. لسمك القرش. لحيتان البحر. للذئاب في البر والبحر.
فصول الإنتحار الجماعي هذا الموسم، بدأ في بحيرة القرعون. وهو آخذ في الإنتشار في بحر العرب
شعوب تظلم حكامها. شعوب تظلم أعداءها. شعوب تهوى الإنتحار الجماعي، بلا سبب. بلا أذى ولا أذية ولا مؤذ. بل عدو ولا متآمر.
شعوب مثل سمك القرعون يهوى رقصة الموت.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية