” في رحيل عناية جابر.. القصيدة، الصوت الذهبي، وجع الوجود” ..
..تحت هذا العنوان , كتبت الشاعرة دارين حوماني مقالة في” ضفة ثالثة / موقع العربي الجديد ” مقالة في غياب الاعلامية والشاعرة اللبنانية عناية جابر , قالت فيها :
9 أيار/ مايو 2021: “إذا لمست قلبي/ ولو بريشة/ يصرخ من الألم”.. 4 أيار/ مايو 2021: “الإدراك التام/ بأن هذا العالم/ ليس عالمي قطعًا”.. 3 أيار/ مايو 2021: “الحنين/ التمرين الرياضي/ الأكثر وحدة”.. 2 أيار/ مايو 2021: “بابي أغلقته/ ورحت أتنفس/ من شقوق الخشب”.. 1 أيار/ مايو 2021: “الصمت يفيض هنا/ ولا صوت/ حتى الساعة معطّلة/ هل الرب في غفوة ما/ هل ذهب ناس المدينة/ هل يمكن لهذا البكم أن يخلد؟”.. هكذا تنهي عناية جابر حياتها فتستعير كمشة من هذا الصمت الذي يفيض، وتزيح هواء المدينة عنها، ومن دون أن ندري ما نوع الألم العميق الذي دفعها إلى كتابة هذه الشذرات الشعرية الأخيرة على صفحتها الفايسبوكية، وكأنها تكتب من منطقة حدودية، منطقة عبور تتهيّأ إلى اللانهائية.
“تستعير عناية جابر كمشة من هذا الصمت الذي يفيض، وتزيح هواء المدينة عنها، ومن دون أن ندري ما نوع الألم العميق الذي دفعها إلى كتابة شذراتها الشعرية الأخيرة على صفحتها الفايسبوكية، وكأنها تكتب من منطقة حدودية، منطقة عبور تتهيّأ إلى اللانهائية”
منذ باكورتها الشعرية “طقس الظلام” (1994) وحتى آخر نفس لها لم تبتعد صاحبة “لا أخوات لي” عن إدراكها أن هذا العالم ليس عالمها؛ قالت ذات يوم: “الحياة نفسها اختلفت، وتحتاج إلى كائن مفرد، وإلى مصادقة معجم صغير وكلمات خفيضة”؛ هكذا كانت عناية جابر (1958-2021) تتناوب على هشاشة الحزن والعزلة والحب برهافة شاعرة عاشت كشاعرة منذ وصولها الأول إلى بيروت قادمة من الجنوب اللبناني، فاتّحدت مع الكلمات في الصفحة الثقافية لجريدة “السفير”؛ هناك تعرّفتُ إليها من خلال كلماتها التي غذّت إحساسي بأن الكتابة هي مدخلي الوحيد نحو عالم أقل عنفًا يتهجّى القلق الخفيّ ويريد أن يصلح عطب مدن غير قابلة للإصلاح. في كتاباتها الصحافية عاطفة مفرطة مع الكتب التي قرأتها، الشخوص الذين حاورتهم، الأمكنة التي زارتها وكتبت عنها. شاهَدَتها بيروت عن كثب، كاتبة كاملة من الأحاسيس المرهفة، تكتب من على ضفاف الأنهار، تذهب بعيدًا في اعتناق لغة معصورة ومكثّفة بعناية مثل أوراق الشجر التي تأتي بالنسيم معها. ستغادر عناية جابر جريدة “السفير” وترحل إلى أميركا، لكن حنينها إلى بيروت وشارع الحمرا تحديدًا سيعيدها، وسنقرأها مجدّدًا في صحف ومواقع إلكترونية متعدّدة.

صوتها الذهبي
سأتعرّف على صوت عناية جابر على مسرح خشبة الأونيسكو. صوتها الذهبي الآتي من أعلى مكان على سطح الأرض، يلتفت إلى الوراء ليأخذ من مصادر الطرب فينقل لنا إحساس ذلك الزمن الجميل ويحتكّ بدواخلنا. صوتها الذي يمكن تحويله إلى ضوء وسط الظلام سنتبعه من مسرح الأونيسكو إلى مسرح المدينة والجامعة الأميركية في بيروت وإلى دار الأوبرا المصرية وإيطاليا. سنكون أمام صوتها وجهًا لوجه مع مياه النبع والعمق الأخضر للشغف الذي يغوينا لمساحات العشق والحميمية. ستستعيد عناية جابر أغنيات طربية منها “يا ليلة العيد”، “آمنت بالله”، “وما دام بتحب بتنكر ليه”، و”على خده يا ناس مية وردة”، كأنه صوت مدينة تؤجّل موتها، فكيف إذًا يمكن أن يتم الرحيل على عجل.. وبهذا الألم المضاعف الصامت الذي يجيد تحريك جدران بيروت وأشياء وحدتنا؟

في عام 2018 سيجمعنا الشاعر سرجون كرم في أنطولوجيا نسائية لبنانية “العالم في عيوننا”، وينقل مختارات من قصائدنا إلى لغة نيتشه، وفيه ستقول: “أكتب الشعر لأنه يبقيني هادئة”، هكذا أرادت عناية جابر أن تحيا، وهكذا ماتت، بهدوء قصيدة ومزاج طيور تهزّ الأغصان برهافة تامة ودون علم أنها تفعل بنا ذلك وتهزّنا من الداخل.. وفي 21 آذار/ مارس الفائت ستجيبني عند طلبي منها المشاركة في تحقيق عن يوم الشعر العالمي: “بالي مش مرتاح دارين لأكتب عن الشعر”.. هكذا ينمو الحزن كعشب مستديم بين غرف عناية جابر التي تحب دائمًا أن تسرج ضوءها من بعيد، ومن دون ضجيج.
“في كتاباتها كل خيارات سيلفيا بلاث بكثافتها الشديدة المحمّلة بهواجس المعنى واحتمالاته، وفي بحثها الدائم عن الحب والآخر والخلاص وملء الفراغ الكبير الذي يبتلع الداخل”
تقاسمت الوجع مع بيروت
ستجتاز عناية جابر عتبة الفن التشكيلي بهدوء ومن بعيد كما هو حالها مع الغناء. وستواصل كتابة الشعر بكامل رقّتها بعد “طقس الظلام” لتكتب “مزاج خاسر”، “ثم إنني مشغولة”، “أستعدّ للعشاء”، “أمور بسيطة”، “ساتان أبيض”، “جميع أسبابنا”، “لا أخوات لي”، وآخرها شعريًا “عروض الحديقة” (2011)، وقصصيًا “لا أحد يضيع في بيروت” (2016). تتنقّل عناية جابر في قصائدها بين المطوّلات وبين الومضات الشعرية على طريقة الهايكو تجرّ المعنى إلينا بعدد من الكلمات العشبية المصفّاة بتقشف لغوي متين وبلا حقن شعرية للاستفاضة في رسم الحدائق الخلفية لعالمها الخاص. في كتاباتها كل خيارات سيلفيا بلاث بكثافتها الشديدة المحمّلة بهواجس المعنى واحتمالاته، وفي بحثها الدائم عن الحب والآخر والخلاص وملء الفراغ الكبير الذي يبتلع الداخل. تلك الكتابة التي تنطلق من الذات وأحوال النفس والجسد ومخاطبة المصادر الخفية للألم وللندوب العميقة، كأنها تتجوّل وسط مسرح من الكلمات تحثّها على تسجيل مونودراما دقيقة عن الفقدان الشخصي والعام المتواصل لوجوه بيروت التي تخسر وزنها بالتتابع، بكائناتها وحجارتها وأشيائها فتتقاسم عناية جابر الوجع معها سوية. الألم من هذا العالم وعلى بيروت سينبعث يومًا بعد آخر في كتابات عناية جابر، تكتب في 7 أيار/ مايو 2021: “في تجوالي- بلا هدف طبعًا- لا أرى أن الحزن يشلّ سكان بيروت فقط، لكنهم يمنحهم رخصة شعرية بشللهم! بيروت لا تحمل حزنها كعلّة، إنها تحمله بجلال”. وفي 29 نيسان/ أبريل 2021 ستكتب: “أنا بريئة من دم هذا العالم”.

يجيء خبر رحيلها مثل رنين هاتف في منتصف الليل.. لم نكن مستعدّين له.. وفي هذا اليوم سيتذكرها كثيرون، أما رفاقها في جريدة “السفير” الذين انطلقت برفقتهم في هذا العالم، فسينعونها على طريقتهم في قول الحزن.
“عناية، التي يصحّ عنونة بيروت بها، تصغي إلى الحياة الآن من بعيد بوحدتها التامة.. زلّت قدمها صوب الموت بفعل أزمة قلبية أصابتها فجر البارحة وهي في عزلتها، خيارها الاستثنائي المتواصل”
يكتب الشاعر والروائي عباس بيضون على صفحته: “آن أن نقول لعناية جابر ما تريّثنا في أن نقوله بلا سبب (أنتِ هي الشاعرة)”، وسيكتب الشاعر إسكندر حبش الذي كانت تسمّيه “الرائع”: “-اشتقت لك يا دب/ -عال/ هو صباح قاسٍ آخر.. عناية سأشتاق لغزلك”..وسيكتب الفنان التشكيلي محمد شرف: “هل أحاول أن أرسم بورتريه لعناية جابر، وأنا عاجز عن تمثيل ألمها”.
قرّرت عناية جابر يومًا كتابة تاريخها الشخصي “الذي شُفي من هشاشته عبر التأمّل الطويل في الجدران” لكنها لم تكتبه إلا على صفحتها الفايسبوكية بشكل يومي ومتواصل، يحزن يومًا ويسخر يومًا ويحب يومًا.. نقرأها يوميًا فنشعر بالأسى ثم نضحك ثم نتلاشى في عالم دفين جدًا.. مع خسارتها خسرنا مزاجها اليومي أيضًا.. هكذا هي عناية التي يصحّ عنونة بيروت بها، إنها تصغي إلى الحياة الآن من بعيد بوحدتها التامة.. زلّت قدمها صوب الموت بفعل أزمة قلبية أصابتها فجر البارحة وهي في عزلتها، خيارها الاستثنائي المتواصل، و”يكفيها الوصول إلى الشاطئ، حتى يكفّ هذا العيش عن إخافتها”.
(الكاتبة دارين حوماني/ مدونة شهرياد الكلام )
