الزجاج المعشق
—————
من ينظر إلى لبنان، في ساحله وفي سهوله وفي جباله. في مدنه وفي قراه وفي وديانه وفي أنهاره، يشعر أنه أمام متحف طبيعي، صاغته العناية الإلهية بتأن دقيق، وبتوازن دقيق، حتى صار لوحة طبيعية، تامة الجماليات.
إستقطب لبنان جميع من شعروا فيه بدفء المكان. لم ينبذ أحدا من المهاجرين إليه، ولا من اللاجئيين إلى حضنه، ولا من النازحين ولا الهاربين، من جحيم العيش، إلى عش الجمال.
كانوا هؤلاء جميعا، ينظرون إليه وطنا بديلا عن الأوطان التي هجروها قهرا أو قسرا، أو تلك التي غادروها إليه، لينحتوا في صخره قلوبهم و تماثيل الجمال.
بدا لبنان على يد أهله، في مطلع القرن الماضي، قصرا من الزجاج المعشق. تتمايل فيه الألوان وتتخايل فيه الشمس. فصار بذلك تحفة البلدان.
كانت عمائره الحجرية تتعالى. وكان قرميده الأحمر تيجانها. وكانت الشبابيك والأبواب والشرفات والمساقط والمشربيات، تتكامل في وحدة فنية. وتنسجم مع الجمال الطبيعي الذي كسا الجبال والشطآن والوديان والأمداء.
كانت المعاول والفؤوس والمطارق والمواهب والإرادات، تريد أن تصنع من الجبل، من البلد، وطنا يبز في فتونه سائر الأوطان.
إندفع أهلوه يدا واحدة، تصمم على تحقيق الأمنيات الغاليات. كان جنون الإرادة، يسابق جنون العظمة. وكانت النفوس تسيل على أيديم الوطن، فتحيل الحجر إلى ماسات. تحيل الرمل إلى زجاج. تحيل الزجاج، بأنفاسهم، إلى زجاج معشق. إلى زجاج معتق، إلى زجاج ملون، إلى كاسات أشربة، لنخب أبطال، مضوا يذهبون الترب، بالتبر. يصوغون منه
أقراطا، و قلادات قلادات.
عاد اللبنانيون كأجدادهم، أسياد العالم في التجارات. يمخرون كل يوم، البحر، إلى الأقاصي. يشقون الجو كل يوم . يحرثون الدروب بأقدامهم. يصنعون في عيونهم الحرف، يقطرون من نفوسهم أكاسير الحياة، ويدفعون بمواكب الإنسانية بعض أشواط، كتفا إلى كتف مع الأمم التي تنابذهم التطور والرقي.
حال لبنان، البحث عن العلم والجمال والمال. منذ أسس ممالكه، على ساحل المتوسط. منذ جاب البحار. منذ رست قواربه مثل الزنابق في موانئ الدنيا كلها. منذ بعث رسائله، مثل اليمامات العاشقات، مثل أزواج الحمام.
حال لبنان، دعوة للتآخي والتعاون والإنسجام. منذ الإنفتاح على أمم الأرض بكل ألوانها، وتبادل الرسائل معها مثل البشائر، قبل أن تصير الأرض غابا، يخرج من نسلها الوحوش. وينقلب بعضها إلى التوحش، لإغتصاب خيراتها.
لم يحك عن لبنان إلا زهرة الأوطان. لم يحك عن اللبنانيين، إلا تجارا ومعلمين، وأساتذة
كبارا ورجال أكاديميات، وصناع حضارات ورسل إنسانية، في بلادهم وفي مهاجرهم على حد سواء.
كانوا يبنون الموانئ والعمائر والمدائن والممالك. كانوا يشقون السهوب. كانوا يسيرون قوافل الحرير والثلج معا، إلى كل الجهات. كانوا يصنعون من أرزهم هدايا من هياكل. كانوا يصنعون منها جسور محبة، فوق الوديان والأنهار كانوا يصنعون منها قيثارة ودفا ومركبة وقاربا، يحمل للعالم كنوزا من حروف الهجاء..
ما آمن أهل لبنان يوما، بأخذ الناس بالعنف. كانت مودتهم ريحانة من حياة. ما بنوا مدافع ولا أضرموا نيرانا، ولا رفعوا الحصون ولاأشادوا القلاع. حملوا قلوبهم على أيديهم. وساروا يصافحون الناس، بالمناديل البيض وبالرايات البيض، وبالقلوب البيض، وبأزجال المحبة. يشقون الجهات لنشر رايات المودة والسلام.
لبنان، قلب معشق بمساكب الورد. قلب معطر بالحب.قلب خافق مثل قلب أرزة. قلب يسيل مودته للناس على شفاه الأرض.
لبنان قصر العاشق مدى عمره كله. قصر معشوق أخطره جفاف الشوق، على دروب الحرب.
لبنان قصر من زجاج العيون الجميلة، تسرح فوق الروابي والمروج. تضيع بين الجنائن و الكروم. تهيم مثل سنونوة مجنونة بالربيع، مثل طائر نورس هائم بالبحر.
لبنان، كان قصرا من زجاج معشق. يحمل في قلبه الحب القديم: جنسية معشقة بسائر جنسيات الأرض.
لبنان اليوم من زجاج محطم. من قلوب محطمة. من عيون تكسر فيها الزجاج المعشق، وإحتبس دمها في الجفون.