..ينشر موقع ” ميزان الزمان ” قراءة للشاعر الدكتور باسل الزين لديوان الشاعرة حكمت حسن الذي حمل عنوان ” ذئبة ” والذي نشر كمقدمة للديوان الذي صدر عن دار نلسن في بيروت .
هنا الدراسة :
الكتابة عن شعر حكمت حسن، بعامّة، أمرٌ شاقّ وعسير. فكيف إذا تعلّق الأمر بديوان محفوف بالرّؤى والأبعاد الوجوديّة فضلاً عن تقنيّات رمزيّة تنحو أحيانًا نحو الغموض المتعمّد في ضرب من الفكريّة المحضة والتّأمّليّة الصّرفة؟
حقيقة الأمر، أنّ ديوان “الذّئبة” ليس كديوانيها السّابقين، وإن التمستُ الدّقّة، فهو يُشكّل قطيعة شبه تامّة مع ديوانها الأخير “مسمار” وذلك على ثلاثة مستويات أساسيّة:
المستوى الأوّل: ويتمثّل في القطيعة اللّغويّة، إذ لا يحتاج القارئ إلى كثير عناء حتّى يطالع التّحوّلات الأسلوبيّة والتِّقنيّة في هذا الدّيوان، إذ بلغ من الكثافة والحشد الرّمزيّ والصّوريّ (وإن رسفت القصيدة أحيانًا عند حدود الفكرة من دون أن تلج الصّورة النّائية وهذا ما فرضته بالطّبع ضرورات السّياق ومضامين الموضوعات الّتي اختطّتها لنفسها) مبلغًا تتقطّع معه أنفاسك إبّان كلّ مقطوعة، وتسترسل في تأمّل عميق حول الكيفيّة الّتي زاوجت فيها بين الدّاخل والخارج على نحو ما سنأتي على ذكره لاحقًا.
المستوى الثّاني: ويتمثّل في ولوج مدن التّجارب الوجوديّة من أوسع أبوابها. لقد نجحت الشّاعرة في إطلاق العنان لتساؤلاتها الوجوديّة في ضرب من البحث عن الأصل المفقود، إلى حدّ أنّها جاهرت بأسئلتها علانية ولم تخفِ قلقها أو تعتّم عليه. ويكفي أن تنعم النّظر إلى عدد المرّات الّتي استخدمت فيها عبارة “الأصل” والحقول المعجميّة المرتبطة بها لتقف على حقيقة القلق الّذي يعتريها، وعظيم الشّكّ الّذي يتناهشها.
المستوى الثّالث: ويتمثّل في التّجربة العاطفيّة، وهي إن تبدّت تكرارًا لما سبق لها وساقته في أكثر من موضع، إلاّ أنّ الكيفيّة الّتي تجسّدت بها هذه التّجربة كانت كفيلة بفهم جرأتها ووقوفها في منتصف الحيرة تمامًا بين المُخلِّص العاطفيّ والتّخلّي وما يتحلّى به من واقعيّة ودرء لبنية المسافة الّتي اختطّتها سابقًا وإن كانت قد عرجت إليها أحيانًا من لزوم ما لا يلزم.
انطلاقًا ممّا تقدّم، نلفي أنفسنا مُنساقين وراء تدعيم افتراضنا بقراءات نصّيّة، لنخرج من بعدها باستنتاجين يرفدان مجرى تجربتها، ويعكسان آفاق المرحلة المقبلة في شعرها.
فعلى المستوى الأوّل، كان واضحًا توجّه شاعرتنا نحو ما نسمح لأنفسنا بتسميته “تقنيّة الصّدمة”، وهو أمر ألفيناه على امتداد قصائد الدّيوان. فمن جهة، لم تتجاوز قصيدتها كمّيًّا بضعة أسطر، تتدرّج فيها، فكريًّا، في عرض مضمون تجربة بعينها والالتباسات الّتي تثيرها والسّياقات الّتي ترتبط بها، وصولاً إلى لحظة القفلة حيث تباغتك حكمت بتفسير مغاير وصدمة مُرجأة وتعقيب يكسر السّياق التّدرجيّ ويحملك على التّفكّر في التّحوّل النّفسيّ الّذي رفد مجرى القصيدة، وهو في مطلق الأحوال تحوّل مقصود وصادم.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، قصيدة “خيط ماسّيّ”. تفتتح الشّاعرة قصيدتها بسؤال عن ماهيّة الحبّ، وتنساق وتسوقنا وراء افتراض مفاده أنّ الحبّ هو كوّة في جدار ما، ومن شأن هذه الكوّة أن تمرّر ما تناسل من تجارب حبّ قديم، وأحلام شاسعة، وودّ عتيق. وفي حين يأخذك النّصّ إلى اكتفاء الحبيبة بشيء ما من رائحة الماضي وعبق الزّائل، ترضى معك كقارئ بالنّذر اليسير من بقايا ما خطّته يد الزّمان ولم يكتب له البقاء، فتثني على اكتفائها وتشعر معها بنوبات الحنين تجتاحك وتودّ في عمقك لو تسترجع حقًّا قطرات من ينابيع تائهة، في خضمّ كلّ ذلك تأتيك الشّاعرة بتقنيّتين صادمتين، تتمثّل الأولى في مدّ جسر الأمل، وطرح مسألة القناعة جانبًا، ذلك أنّ الاكتفاء بالنّذر اليسير قد يُغني واقعيًّا لكنّه لا يثمر شعريًّا. لذا تراها في مرحلة أولى تصبو إلى هدم الجدار بالكامل عساها تسترجع الماضي بكلّيّته، إذ لا تكتفي من التّجارب بأقلّها، ومن الحنين ببعض تجلّياته، بل إنّها تصبو الآن إلى رتق نزيف الحاضر بالعودة إلى ما استتر واحتجب وفضّ ما أغلق منه، واستعادته قلبًا وقالبًا. لكنّ تقنيّة الصّدمة الأولى سرعان ما تتلاشى تحت وطأة صدمة أعنف إذ تُنهي الشّاعرة قصيدتها بتسآل جديد: ماذا لو كنّا خيالاً؟ وفي خلدنا، أنّ حكمت وفّقت توفيقًا عظيمًا في كسر قالب النّزعة الرّومنسيّة التّقليديّة والنّزوع نحو العنصر التّفكّريّ الوجوديّ، بخاصّة وأنّها من خلال كلّ ما كتبت نزعت أبدًا نحو استعادة الأصل، وذلكم ما دفع بها إلى تلمّس قسم كبير من أسطرها في عتمة الوجود المحض.
ماذا لو كان الحبُ فجوةً في جدارٍ ؟
مجرّدَ فجوةٍ
تنظرُ إليّ
بنسيجِ الفرحِ القادمِ
يمرُّ الحلمُ
وتعبرُ الآمالُ النّموذجيّة
عباءةُ الآخرِ
قُبلتنا
قد نُوشي حوافّها بحبٍّ ذهبيّ
برّاق
وقد نرتقُ بمهارةِ حِرفيّ
أو عازفٍ
انشقاقاتِ الأيّام
خيالٌ من واقعٍ
ماذا لو تهدّمَ الجدارُ؟
أيّ شموسٍ ساطعةٍ
قد تُهدينا إيّاها عينا عاشقٍ ما
ماذا لو نُحدثُ جدارًا في الفجوةِ
نتربّص خلفه
نحتمي به من عجلةِ الأيّامِ
ماذا لو نكون خيالًا ؟
وفي السّياق نفسه، نجحت الشّاعرة في تحقيق المزاوجة بين التّجربة العاطفيّة والتّجربة الوجوديّة، كيف لا وقد حملا لديها البُعد نفسه والأسّ المعرفيّ نفسه؟
يكفي أن نعرج على قصيدة “ذئبة” القصيدة الّتي صدّرت بها الشّاعرة اسم مجموعتها لنقف على المزاوجة المذكورة. فهي منذ البداية، تقدّم نفسها في حلّة افتراسيّة، لكنّ هذا الافتراس هو افتراس الذّات للذّات، هو قضم كلّ مساحات الحبّ على حدّ تعبيرها، أو بتعبير أدقّ، رفض لكلّ صور التّنميط والتّدجين. فحكمت من خلال ما بلغته من حسّ معرفيّ ونقديّ وشاعريّ لم تعد ترتضي بالنّمط التّقليديّ للحياة المُدجَّنة، بل تريد أن ترتقي بتجربتها إلى ما وراء سور الحسّيّ والملموس، كلّ ذلك لتجاور أصلين في آنٍ معًا: الأصل العاطفيّ (الّذي يأتي ولا يأتي)، والأصل الوجوديّ (مسائل الحياة والموت والمصير ووجود الله وجدوى العيش والهدف من كينونتنا). من هنا، تراها قد جسّدت الأحاديّة في ذاتها. فذات رحيل منتظر، لن تقف مكتوفة النّقص، فقد لمّت شمل نفسها في إطار وجوديّ صرف، أخلصت لكينونتها بالقدر نفسه الّذي أخلصت فيه لما فاض عن مشيئتها. وبتعبير أوضح، وبضرب من الصّوفيّة الإشراقيّة، حلّت حكمت بالأصل الأوّل فصارت المُشكِّلة والمُتشكِّلة، لا تلوي على فقد كما لا تلوي على ثنائيّات حال الحياة والموت طالما استوت عندها كلّ الطّوالع، وغدت بذاتها محطّ رحال نفسها ومحطّ رحال الكون بتجلّياته كافّة.
… سأكونُ نفسي عند رحيلكَ
ما مررنا بهِ
ليس سوى فراغٍ أسود
يأسرُ كوننا
وحيثُ ينوجدُ
تنعدمُ الحياةُ
بدونهِ
لن تنتهي الأحجيةُ
تتوازنُ السّاعات
ليلتئمَ شملَ الكونِ
وحقيقة الأمر، أنّ الدّيوان يعجّ بالقصائد العاطفيّة، لكنّها قصائد حملت طابعًا تأصيليًّا وتصريحيًّا. وبتعبير أوضح، لقد قطعت الشّاعرة الشّكّ باليقين، معتبرة أنّ المُخلِّص العاطفيّ يسكن تجربة ما في أقاصي ذاتها، وهو ليس رجلاً بالمعنى الرّومنسيّ الاعتياديّ بقدر ما ينمّ عن رغبة دفينة تسكن أعماقها وتوق عميق يحيا في أقاصيها، رغبة وتوق يتجسّدان في تجربة حالمة تجمع الفكر والشّعر والفنّ والثّقافة ولا شيء يمنع من انفتاح الجسد على الجسد لكن في إطار رؤيويّ مهيب. وإن كانت قد أشارت في أكثر من موضوع إلى استحالة اللّقاء بهذا المُنتظَر المفترض أو المخلِّص الوهميّ. إنّ حكمت الحالمة لا يسعها إلاّ أن تعظّم من شأن الحبّ الّذي ينهض بقصيدتها نحو تماميّتها ويدفع بها نحو كلّ سبل الثورة والانفلات من كلّ قيد لتعود حرّة كأوّل عهدها بها.
… كان ممرًّا ضوئيًّا
نسجت يدايَ خيوطًا
لتهتدي
خارج الانبهارِ والانطفاءِ
لم أجدك
ألفتُ لقاءنا المجرّدِ
بك
وبي
إنّ تآلف الخارج والدّاخل في شعر حكمت حسن له دلالاته العميقة. فيقيني أنّها فطنت إلى وحدة الوجود وحدست بها، لذا تراها، وبفرادة كتابيّة آسرة، لم تبقَ أسيرة انفعالاتها الضّيّقة أو أسيرة التّعبير عن مكنوناتها في ضرب من الذّاتيّة المملّة، بل رفدت مجرى الوجود بتجلّياته، فكانت كلّ عناصر الطّبيعة أداة رمزيّة للتّعبير عمّا يجول في خاطرها، وتلكم لعمري قفزة نوعيّة في أسلوبها تفوّقت بها على نفسها، فقارعت الدّاخل بالخارج ومازجت بينهما ببراعة شعريّة فائقة.
يبقى أن نشير إلى استنتاجين اثنين بالغي الضّرورة:
الاستنتاج الأوّل: وهو ينصبّ على تجربتها الحاليّة. لقد سمحت قصائد هذا الدّيوان للشّاعرة فرصة الكشف عن كلّ مكنوناتها بحرّيّة تامّة، وبجرأة بالغة. لقد تحرّرت من كلّ قيود اللّغة، وطرحت هواجسها – وإن غلّفتها بقالب رمزيّ مفتعل في بعض الأحايين _ ونفضت عنها غبار ذاكرة صدئة، فساءلت الكون والحبّ والمصير من خلال تشريحها ذاتها ومحاكمتها نفسها، معلنة لحظة انتصار مصيريّ على اليوميّ والمبتذل، صارخة من عمق أعماقها صرخات عدم رضى وصرخات غرق كانت تعلم جيّدًا أنّها ستبلغ بها أعمق اللّجج لكنّها ستخلّصها من أعباء الرّضوخ والسّخط والزّمنيّة والتّزمّن والتزام قواعد مجتمعيّة صارت عبئًا لا يُطاق وحملاً لا يُردّ.
الاستنتاج الثّاني: ويتعلّق بآفاق المرحلة المقبلة. يقيني أنّ الشّاعرة ستلجأ في المرحلة المقبلة إلى التّخفيف من حدّة الرّمزيّة في شعرها، وستنحو باتّجاه التّخصيص، أي تناول كلّ جزء من تجربتها على حدةّ، وأن تغوص إلى عمق أبعادها النّائيات. وإذا كانت الذّئبة قد افترست نفسها بالدّرجة الأولى، فهي مقبلة، ولا ريب، على تجارب أبلغ حدّة، وأبعد مرامًا، كما أراها مقبلة على إحداث قطيعة قاسية مع تراثها وانتمائها وركونها والتزامها، أراها تنذر بثورة عارمة جدًّا وإن رسفت – كحالنا جميعًا – عند حدود الكلمة وحسب.
د. باسل بديع الزّين