شهرياد الكلام :
أجرت الكاتبة والشاعرة دارين حوماني مقابلة شاملة مع الشاعر والمترجم خالد المعاني ونشرتها في موقع ” ضفة ثالثة ” لمجلة العربي الجديد ..هنا نص المقابلة :
خالد المعالي: الترجمة عربيًا ما زالت نشاطًا فرديًا
بيروت- دارين حوماني
( ضفة ثالثة / العربي الجديد )
في قصيدته “فيما كنت أسير”، يكتب خالد المعالي “قُبلة تأتي من بعيد/ يدًا ملوّحة/ في الفراغ../ فيما أنا أسير”. قد تكون جائزة “فريدريتش غوندولف” الألمانية، التي حاز عليها المعالي، الشهر الفائت، هي القُبلة التي أتته من بعيد، بعد أكثر من ثلاثين عامًا من الشغف بالأدب الألماني، ومن الجهد في تبادل الثقافات واللغات، وهي اليد التي تضعه جنبًا إلى جنب مع أولئك الذين حاولوا تنظيم العالم من دون غبار، الذين “ينادون بفم فالت من حجرة الضباب”، كما يقول الشاعر الألماني، هانس انتسنسبرغر، الذي ترجم ونشر المعالي له ولرفاقه أكثر من مئة كتاب إلى العربية.
في 8 آذار/ مارس، الفائت أعلنت “الأكاديمية الألمانية للغة والأدب” Deutche Akademie Sprache Dichtung عن فوز الشاعر والناشر خالد المعالي (1956) بجائزة “فريدريتش غوندولف” الألمانية (جائزة تعزيز فهم الثقافة الألمانية في الخارج) لعام 2021، وفي 8 أيار/ مايو المقبل سيتسلم المعالي الجائزة التي تبلغ قيمتها 15 ألف يورو. وجاء في بيان الجائزة: “خالد المعالي لاعب لا يكلّ في الوساطة الثقافية الألمانية العربية منذ ثلاثة عقود، و”منشورات الجمل” هي العنوان الأول للأدب الحديث والمعاصر في اللغة الألمانية، وكذلك الفلسفة والدراسات الإسلامية عن العالم العربي، ويتضمّن برنامج النشر الخاص بها أكثر من مئة عنوان لمؤلفين معروفين ناطقين بالألمانية، بما في ذلك بول سيلان، وغونتر غراس، وكريستا وولف، وبيتر هاندكه، بالإضافة إلى حنه أرندت، ويان أسمان، وبيتر سلوترديك. خالد المعالي ليس ناشرًا فقط، بل أيضًا محررٌ ومترجمٌ وشاعرٌ وسيطٌ بين العالمين. وبهذه الطريقة، يتيح أيضًا للجمهور الناطق باللغة الألمانية الوصول إلى الأصوات المتنوّعة للشعر العربي”.
يعرّفنا مترجم “روبرت الطائر” على هذه الجائزة التي لم تكن الأولى، فقد سبق له أن فاز بعدد من الجوائز، منها جائزة “رولف ديتر برنكمان”، التي تمنحها مدينة كولونيا عام 1988، والجائزة التشجيعية لمقاطعة “نوراين فستيفالن” عام 1991. يقول المعالي: “جائزة “فريدريتش غوندولف” هي أرفع جائزة ينالها الأديب الألماني اليوم، منهم غونتر غراس، بول تسيلان، وبيتر هاندكه. لا يوجد كاتب ألماني جيد وأساسي بعد الحرب العالمية الثانية إلا ومُنحت له هذه الجائزة، ومنح الكاتب هذه الجائزة دليل على قيمته. وتساهم هذه الجائزة في انتشار أعماله بشكل أكبر، أي أن أعماله ستكون من النصوص الكلاسيكية في الثقافة الألمانية الحديثة. ثمة جوائز أخرى تمنحها هذه الأكاديمية، هي جوائز في النقد الأدبي، وفي علم النفس، باسم سيغموند فرويد. الجائزة التي مُنحتُ إياها مخصّصة للاهتمام بالثقافة الألمانية في الخارج، أو الدول خارج اللغة الألمانية، أي ترجمة الأعمال الأدبية الألمانية، والاهتمام بنشرها في العالم. وهي تُمنح منذ عام 1961، وقد منحت في عام 2001 إلى الشاعر السوري اللبناني الراحل، فؤاد رفقة، الذي اهتمّ بنقل الأدب الألماني إلى العربية. هذه الجائزة تقديرية، أي أنه يأتيك اتصال ما، وتُخبر أنك مُنحت هذه الجائزة، وينتظرون أن تجيب، توافق، أو لا توافق. وفريدريتش غوندولف (1880 ـ 1931)، التي تحمل الجائزة اسمه، هو شاعر ومختصّ باللغة الألمانية، وكانت دراسته حول “شكسبير والروح الألمانية” بمثابة نقطة تحوّل في دراسات اللغة الألمانية، والأدب الألماني. وقد منع النازيون في حينها نشر أعماله، إلا أن كتبه وترجماته ومراسلاته لا يزال يُعاد طبع أغلبها إلى الآن”. هذه الجائزة بالنسبة لصاحب “أطياف هولدرلين” هي نوع من التكريم، وهي خطوة أخرى في طريقه في هذا العالم: “في السنوات العشرين في ألمانيا بذلتُ جهدًا، وحصلتُ، ككاتب، وكناشر، وكمترجم، على إسناد من مؤسسات أهلية وحكومية ألمانية، وهذه، طبعًا، تشمل جميع الناشطين في هذا المجال، في الكتابة، وفي حقل الترجمة من العربية إلى الألمانية، وبالعكس. فقد نشرتُ بحدود عشرين كتابًا باللغة الألمانية، ترجمة، وكتابة، عن العربية، ونشرتُ، أيضًا، أكثر من مئة عنوان باللغة العربية من الثقافة الألمانية”.
خالد المعالي يلقي شعرًا في السماوة، 1976
خالد المعالي المولود في السماوة/ العراق كان راعيًا صغيرًا للغنم في طفولته، متفرّجًا على العالم من بين أزهار بودلير، يسير حافيًا إلى المدرسة، ثم كاتبًا متمرّدًا في بغداد، ليقرّر الرحيل بعد ملاحقة حزب البعث له بسبب كتاباته، ومن هناك أخذ هواء العراق في يده، وعبَر إلى فرنسا في عام 1979، ثم إلى ألمانيا في عام 1980، ليكتشف فيها قارّة من الأدب والحب. هناك ستستقرّ خطواته، التي لم يعد يحصيها، فقد صارت أغصانًا يتّكئ عليها رفاقه في الكتابة والترجمة. كردّ فعل على الغزو الإسرائيلي للبنان، والتحوّلات العربية، أسّس “منشورات الجمل” في كولونيا بألمانيا في عام 1983، ثم في بيروت، وأصدر مع مواطنه الشاعر ورفيق المنفى، عبدالقادر الجنابي، مجلة “فراديس”، في عام 1990، التي توقفت في عام 1993، ثم أسّس مجلة “عيون”، في عام 1995، حاول فيها تجديد الثقافة العربية مع رفاقه، لكنها مثل كل الأشياء الجميلة تنطفئ في الأمكنة التي لا تتّسع لمثل هذا العالم. وبعد عام على حديثنا معه من المكان نفسه، قال فيه: “الحياة الثقافية في العالم العربي لا يمكن أن نقول عنها إنها عرجاء، وإنما مصابة بكل أنواع التخلف البشري. الحياة الثقافية العربية سيّئة ومشوّهة، وحتى منفاها مزوّر، ونحن أبعد ما نكون عن القيام بهذا الدور كمثقفين عرب، لأن الحياة الثقافية يجب أن تقوم على وجود مثقفين أحرار، ونحن، للأسف، لسنا نملك مجالًا كي نكون أحرارًا”. يتابع المعالي “الآن، لا أشعر بوجود تجديد، أو اهتمام. لا أشعر بهذه الهزّات. هنالك إشكالية، أو عوق حقيقي، في الثقافة العربية”.
“لا يوجد اهتمام عربي بترجمة الآداب والثقافة العربية إلى اللغات الأخرى وإلى الألمانية، وإن وُجد فهو رسمي، والاهتمام الرسمي بالترجمة عادةً لا يخلق التبادل الثقافي المطلوب”
المأساة العربية ليست فقط بالنسبة إليه بعوق الثقافة العربية، بل في الترجمة. هنالك بعض المحاولات، لكن ليس ثمة جهد أساسي وفعّال من قبل مؤسسات رسمية لنقل الأدب العربي إلى لغات العالم: “الترجمة بشكل عام هي نشاط فردي، لكن في ألمانيا، وسويسرا، هنالك مؤسسات عامة تساند الترجمات من اللغات الأخرى، ومنها العربية إلى الألمانية، وهذا نشاط طبيعي بالنسبة إليهم. المفقود في هذه الحلقة هو الاهتمام العربي. لا يوجد اهتمام عربي بترجمة الآداب والثقافة العربية إلى اللغات الأخرى، وإلى الألمانية، وإن وُجد فهو رسمي، والاهتمام الرسمي بالترجمة عادةً لا يخلق التبادل الثقافي المطلوب. يجب أن تكون هناك مؤسسات أهلية تهتم بالترجمة، والمؤسسات الأهلية، للأسف، لدينا شبه معدومة. هنالك شخص فلسطيني يمكن أن يُفتخر به، اسمه عبدالمحسن القطان، يحاول أن يساهم في الترجمة، وفي كثير من الأنشطة الثقافية. هنالك، أيضًا، دار النمر، وصاحبها رامي النمر، وهي، أيضًا، مؤسسة فلسطينية تُعنى بالثقافة العربية. كذلك الراحل عبدالحميد شومان، مؤسّس البنك العربي، الذي أنشأ ابنه “مؤسسة عبدالحميد شومان”، وهو فلسطيني، ويهتم بإحياء الثقافة العربية. هذه المؤسسات قليلة، ولكن أين المؤسسات التي يعتدّ بها؟ هنالك بعض المؤسسات العربية الرسمية، لكن ما يزال نشاطها في البدء، ونتمنّى أن يتطوّر هذا النشاط، وأن تحظى الكتب التي تترجم إلى اللغات الأخرى بالاهتمام المطلوب”.
كورونا والنشر
كيف مرّت جائحة كورونا على عالم الكتب والنشر، وعلى منشورات الجمل؟
يخبرنا المعالي أنه أمضى أغلب وقته ضمن قانون الحجر الذي فُرض في معظم الدول، ولم يستطع أن يكوّن أخبارًا عن الكتب إلا من خلال الصحافة الألمانية: “هنالك انتشار، وهناك بيع، ويُقال في الصحافة الألمانية إن البيع في فرنسا أكثر منه في ألمانيا. في خريف العام الفائت، كان الناشر، أو صاحب المكتبة الفرنسي، يعتقد أنه وصل إلى ذروة المبيعات. بالنسبة للناشرين العرب، هنالك اختصارات، وتأجيل لنشر كثير من الكتب. هنالك كتب يستقبلها القارئ بعيدًا عن المعارض، أو شهرة الصحافة. نحن، كناشرين عرب، نعتمد بشكل أساسي، وفي الدرجة الأولى، على المعارض، ثم المكتبات، وبما أن المعارض اختفت بشكل شبه تام، فقد أثّر ذلك بشكل كبير على عدد ونوعية الإصدارات. أي أن هنالك كتبًا يمكن نشرها، وهنالك كتب يمكن تأجيلها، لأنها لا يمكن أن تبيع بشكل عادي، فصاحب المكتبة لا يقبل بعرض هذه الكتب، لأنه يعتمد على الكتب الأكثر مبيعًا، بسبب المكان، وأيضًا، بسبب إمكانية الربح، وتفاصيل أخرى. لماذا عليه أن يستورد كتبًا إلى بلده، ولا يستطيع بيعها؟ فهو يركّز على الكتب الأكثر مبيعًا. على مستوى دار الجمل، انخفض المبيع، فقد حجّمت الأنواع التي سأنشرها. عندي مجموعة كبيرة من العناوين التي اضطررتُ إلى تأجيل نشرها لمدة عامين. هنالك الكتب التي تبيع، الكتب التي تبيع قليلًا، والكتب التي يعتمد بيعها على وجودها وعرضها في المعارض. النشر عانى من عدم القدرة على التنوّع. ما حدث هو اختصار وتحجيم للمواد والكتب التي يجب أن تُنشر”. وعن وضع الدار في بيروت في ظل الأزمة الاقتصادية، يردّ المعالي أن منشورات الجمل لا تعتمد على السوق اللبنانية، رغم تواجد مركزها الرئيسي في بيروت. قبل جائحة كورونا، كان ثمة أشياء لطيفة في رأي المعالي، ولكنها ليست بالشيء الأساسي، لذلك فإن الانهيار الاقتصادي في لبنان، وارتفاع أسعار الكتب بشكل كبير، لم يكن له انعكاس كبير على مبيعات الدار.
نسأله عن التكهّنات العالمية بأن جائحة كورونا ستعيد تشكيل العالم، وتغيّر علاقتنا به، فيجيب: “هذا الكلام موجود في الهواء، في الصحافة، وفي العقول. طبيعة التغيير التي ستحدث ستقرّرها الأدوية، أو المضادّات، وسيقرّرها التطور في هذا المجال. قبل مئة عام، انتشرت الحمى الإسبانية، ثم تمّ القضاء عليها بشكل أنها كانت حدثًا وانتهى. نحن الآن لا نحكي عنها، ولا نتذكّر أن هناك رسامين مهمّين ماتوا في هذه الحمى، منهم الفنان التشكيلي، إيغون شيلي، وزوجته، وأستاذه الفنان التشكيلي، غوستاف كليمت. الأشهر، أو السنوات، أو حتى المئة سنة في التاريخ، لا تعني شيئًا، ربما تُذكر، وربما لا تُذكر، ولكن الذي يعانيها يعرف التفاصيل الدقيقة، ويشعر أنها لن تنتهي. الذين عايشوا بداية القرن العشرين، والحروب الأولى، واختفاء السلطة العثمانية، والسلطات الأخرى، والتحوّل الكبير في هذه البلاد، ثم جاءت الحداثة بنفسها، سيارات وطائرات، هؤلاء الناس كان يتصوّرون وقتها أنها يوم القيامة
عن المشاريع الشخصية للكتابة والترجمة، يقول صاحب “غوتفريد بن ـ قصائد مختارة”: “سبق أن تحدّثتُ عن مشاريعي لترجمة أعمال هولدرلين، لكن العمل هو الأهم، والأفضل انتظار الإنجاز. كل مشاريعي الآن مجمّدة بسبب هذا الزلزال الصحي والاقتصادي الذي اضطرني، لعام أو أكثر، إلى الاكتفاء بالكتابة قليلًا. أما الترجمة فهي مشاريع بقيت في الرأس، أو مؤجّلة على الورق، ونصف أو شبه منتهية. ننتظر الخروج من الأزمة”.
خالد المعالي واحد من “رجال المعرفة” الذين قال عنهم نيتشه: “لقد صدق من قال، حيث يكون كنزك يكون قلبك، وكنزنا هناك حيث تكون قفائر نحل معرفتنا. وبوصفنا حيوانات مجنّحة وجماعات رحيق لعسل العقل، نحن في تنقلّ دائم سعيًا وراء ذلك، لا شيء يشغل قلبنا غير أمر واحد: “أن نعود بشي إلى البيت””. من السماوة إلى بغداد، ثم باريس وكولونيا، ثم بيروت، لم يهدأ الشاعر والناشر خالد المعالي في تصفية اللحظات الإنسانية مما هو زائل، وسيطلّ وجهه في مكتب الدار الدائم في بيروت من بين مئات الكتب التي يصرّ أن تتحوّل إلى طيور للوعي والمعرفة فوق سماء عربية غير متصالحة مع نفسها ومع رغباتها الدفينة بشكل آخر للحياة.