خاص موقع ” ميزان الزمان ” / بيروت :
نص المُحاضرة التي أسهم بها الناقد والسنمائي التونسي محمد المديوني ، في ندوة تكريم “الطاهر شريعة” والتي حملت عنوان :
الطاهر شريعة وسينفيليا التحرّر
هنا النص الكامل للمحاضرة :
في البدء…
أودّ أن أشكر كلّ مَنْ كان وراء هذه المبادرة، مبادرةِ الاحتفاء برجال الثقافة التونسيّة ونسائها تذكيرًا بهم وبهنّ، وإبرازًا لمنجزاتهم ومُنجزاتهنّ. وَإني، إذ أستجيب لهذه المبادرة، لأودُّ أنْ أُحيّي، كذلك، مَنْ استجاب قبلي لها وأسْهم فيها، مهما كانت طبيعة هذا الإسهام، وذلك لأني مُقتنع بِأنّ تونس، اليَومَ، في أشدّ الحاجة إلى مثل هذه المُبادرات، أكثر من أيّ وقت مضى، فلقد تعدّدت المُحاولات المُعلَنة والمُضْمَرة للتشكيك في المسارات التي بنَت تونس الحديثة وأقامت صروحها ورسمت مسالكها وتعرُّجاتها وخاصة منها تلك المُتعلِّقة بالثقافة في مختَلفِ تجلّياتها.
ومهما تعدّدت صورُ الاحتفاء بهذا العَلَم أو ذاك فإنّ في العودة إليه ما يفتح، دائِمًا، آفاقًا جديدة لاكتشاف وجوه من تجربته والوقوف على مكامن فَرادتها وقوفًا من شأنه أن يُنزّل تلك التجربة مَنْزِلتها من مسارات الثقافة التونسية وأن تسهم في إقامة جدل فكرِيّ حول تلك المسارات من شأنه أن يفتح آفاقًا لاستيعاب المُنجَز، أوّلا، والإضافة عليه، بعد ذلك، بصورة تُرسّخه وتُهيِّئ لتجاوزه دون أن تنفيه.
بعد هذا …
لقد احتُفِيَ بالطاهر شريعة، في حياته وبعد رحيله، أكثر من مرّة وبصور مُختلفة، في تونس وخارِجها، تراوح هذا الاحتفاء بين التكريمات التقليدية في هذا المهرجان أو ذاك وخاصة منها تلك التي كان له بها علاقة مخصوصة، شأن مهرجان “أياّم قرطاج السينمائيّة” التونسي و”مهرجان واغا دوغو الإفريقي للسينما والتلفيزيون ” البوركيني وبين التركيز عليه في شريط وثائقيّ قصير حول “روّاد السينما في إفريقيا” الذي كان فيه الموضوع والمصدر أو خَصِّه ومسارتِ حياته بشريط سينمائيّ وثائقيّ طويل – وهذا ما قام به محمد شلوف – فضلًا عمّا أُطلِق عليه من تسميات وألقاب تُقِرّ له بموقع أساسِيّ في السينما التونسية والإفريقيّة، شأن “أبو السينما التونسيّة”؛ و ” أبو السينما الإفريقيّة” “والأب المؤسّس لأيام قرطاج السينمائية” “باعِث الجامعة التونسيّة لنوادي السينما” إلى غير ذلك … ولقد كان أهلا وأكثر لمثل هذه الاحتفاءات وتلك التسميات والألقاب، لكنّ لا يمنع ذلك من العودة إليه وتكريمه من جديد كلّما اُتيحت الفرصة، على أن يُسعى إلى ترقيق النّظر في ما أنجز ويُعمل على تعميق البحث في من كان.
سأُحاول في هذه المداخلة الإسهام في الأمر من خلال زاوية نظرٍ بدت لي تختزل عدَدَا هامًّا من مواصفات المثقّف الذي كان وترسم رسمًا أقرب ما يكون، في رأيي، إلى حقيقة ما يُميّز مُنْجَزَه الفكريّ والثقافيّ والمِهْنِيّ. وتكشف، خاصّة، نموذجيّة المسار الذي اتبع وصُوًرًا من امتداداته، وتُنَزِّلُه منزلتَه في المسار الذي قام عليه الفعلُ الثقافيّ في بلادنا قبل استقلالها وبعده. زاوية النّظر هذه مرتبطة بـ “السينفيليا” عامّة و”سينفيليا التحرّر” بشكل أدقّ .
في السينِفيليا وسينِفيليا التحرّر:
لقد اخترت اعتمادَ ملفوظِ “سينيفيليا” المُحيلة على العبارة الفرنسية la cinéphilie ، بَدلًا عن الترجمات المُتَداوَلة في اللغة العربيّة شأن “حبّ السينما” “هواية السينما” وغيرها من المرادفات المُعبّرة عن “الميل والولع” بمُختلف درجاتها، وإضافتها إلى ملفوظ السينما، وذلك لسببين أساسيّين يتعلّق أوّلُهما بدلالات مخصوصة شُحِن بها هذا المفهوم في اللغة الفرنسيّة تُطْمَسُ ما أنْ يُبحث عن عديل للزائدة الختامية “فيليا” [suffixe : philie] للملفوظ الفرنسيّ. وهذه الدلالة المخصوصة المُهدَّدَةُ بالطّمس هي التي أعني عندما أتكلّم عن الزّاوية التي سأنْظُر، من خلالها، إلى الطاهر شريعة. أمّا عن السبب الثاني فهو تعويلي – في ما ذهبت إليه – على قاعِدةٍ أقامها اللغويّون العرب القدامى عندما ترجموا إلى العربيّة علومَ الشعوب الأُخرى ومعارفها ونقلوا نصوصها التأسيسيّة والمرجعيّة التي اكتشفوا عندها فاستوعبوا ما استوعبوه من موقع قوّة ودون كبير حرج من فقدان هوّيتهم؛ وتتلخّص هذه القاعدة في اعتبار ” ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب” ولقد مكّنتهم هذه القاعدة، على نقيض عدد كبير من مترجمي العرب المعاصرين، من نحت مصطلحات جديدة أغْنَتْ مُعْجم اللغة العربيّة ومكّنتهم، هُم ومَنْ لَحِقَ بهم، من تفاعلٍ سليم مع منجزات الثقافات الإنسانيّة السّابِقة دون الوقوع في صفائيّة لغويّة موهومة قد تَحْرِم، في كثير من الأحيان، لغتَهم مِن آليّات تسمح لها باستيعاب منجزات الآخر والإسهام في الخوض فيها وفي قضاياها باللسان العربي. ولا سبيل إلى ذلك دون القدرة على إقامة مُسمّيات للمنجزات الأساسيّة لهذه الحضارات وتوفير عديلٍ للمصطلحات المعتمَدة من قِبَلِ أصْحابها في اللغة العربيّة، دون السّعي إلى القطع بالضرورة، مع أصولها اليونانيّة أو اللاتينيّة أو الفارسيّة التي عليها قامت في لغات أصحاب هذه المُنجزات العلمية أو الفنّيّة أو التكنولوجيّة. ثم هي تحميهم وتحمي رصيدهم اللغويّ من تعدّد الترجمات للمُصطلح الواحد من بلد عربيّ إلى بلد آخر بل من مُترْجِم إلى آخر؛ وتعدُّد الترجمات هذا أدّى ويؤدّي، في ترجمات المعاصرين، إلى صُوَر من التشتّت يُفقد الترجمات كلَّها نجاعَتها وتُرجعُ الناطقين بهذه اللغة إلى نقطة الصّفر أي التعويل عند خوضهم في تلك المعارف والفنون على ما كُتب حولها في لغة أصحابِها أو في لغاتِ مَنْ استوعبوا المُصْطلح وهضمته لغتُهم وأصبح مُنتَمِيًا إلى رصيدها ورصيدهم.
يُمكن استيعابُ ملفوظ “سينفيلياِ” استوعِبت لفظةُ “سينما” من خلال القاعدة السابق ذِكْرُها فيُمكن أن نصوغه نكرةً أو مُعرّفًا “سينفيليا – السينفيليا” ونشتقّ منه النسبة (سينفيليّ) مذكرا ومؤنّثًا إلى غير ذلك من الصيغ الصّرفية التي تُتِيحُها اللغة العربيّة والتي قد يحتاجتها مستَعْمِل اللسان العربيّ.
والتمسّك بهذا الملفوظ بدا لي أمرًا ضرورِيًّا في سياق مداخلتي هذه لأنَّ اعتمادَ غيره يطمس، مثل ما سبِق أن قلت، أهمّ دلالاته المرتبطة بتاريخ ظهور هذا الملفوظ وبما شُحِن به من معان وارتبط به من إحالات ويمْحوَ ما طُرِح في إطارِه من قضايا وخيض بناء عليها من معارك فكريّة وسجالات أثّرت تأثيرًا في هذا الفنّ ومساراته. وهذه الدّلالات والإحالات والقضايا والمعارك هي التي تعنيني في حديثي عن الطّاهر شريعة.
السينيفيليا ليست حبًّا للسينما وولعًا بنتاجاتها في المطلق، وإنما هي حركة فكريّة وفنّيّة سعت إلى “تحرير” السينما ونتاجاتها من منزلة المُنجز التقنيّ المدهش ومن سيطرة المنتجين ومؤسّساتهم ومن منطق الرّبح الذي تقوم عليها خياراتهم والعمل على النّظر إليها باعتبارها فنًّا قائمًا إلى جانب الفنون الأخرى الضاربة في القِدم واعتبار نتاجاتها آثارًا فنّيّة ومُبدِعيها فنّانين ولعلّ أهم معركة خاضها السينفيليون وحركتهم في فرنسا، بين الحربين وبعد الحرب العالمية الثانية بالخصوص، تمثّلت في الدعوة إلى سينما المؤلّف والوقوف إلى جانب المخرِج باعتباره صاحبَ الأثر والدفاع عن حقّه في أن تتوفّر له الإمكانيات لإنجاز آثاره. المنخرط في السينفيليا يُنزّل السينما منزلة ما هو ضروري ويتعامل معها ومع نتاجاتها تعامله مع ما هو جدّيّ؛ ولا تقتصر مُتْعَتُه على قضاء برهة من الزمن مشدودًا إلى الشاشة مُنجذبا إلى عوالمها الحالمة فحسب وإنّما تحتاج متعته إلى أن تمتدّ بعد المشاهدة تحليلًا ونقاشًا، وليس غريبًا علن “نوادي السينما” أن تنخرِط في السينفيليا وتوفّر الإطار المناسب لمثل هذه المتعة وتُهيِّئ منخرطيها معرِفيّا وثقافِيًّا لتقوم فيهم، وهم يشاهدون الأفلام، انتظاراتٌ تتجاوز انتظاراتِ المتفرِّجين العاديّين، وليس من باب الصدفة أن ينشأ في السينيفيليّ حسّ النّاقد الفنّيّ وأن يتحوّل إلى ناقدٍ هاوٍ أو مُحتَرِف فـ ” أن تكون سينيفيليًّا، فذلك يعني أن تكون في الآن ذاته مُتفَرِّجًا وناقِدًا، فتغدو السينِفيليا، بهذا المَعنى، ممارسة للحياة، سواء بشكل فرديّ أو في إطار مجموعة أصدقاء، ممارسةً تقوم على طريقة في التفكير في الفنّ وفي العالم” ؛ بل قد يتحوّل السينيفيليّ من ممارسة النّقد إلى صناعة الأفلام وإلى اقتراح البدائل الفنّيّة سَعْيًا إلى الخروج عن السّائد؛ وهذا جَلِيّ، خاصّة، في جماعة “كراريس السينما” Les Cahiers du cinéma، شأن إيريك رومر Eric Rohmer وجاك ريفات Jacques Rivette و جان لوك غودار J-L Godard و كلود شبرول Claude Chabrol و فرنسوا تروفو François Truffaut .
وإنّ للسينِفيليا والسينِفِيليّين نصوصَهم المرجعِيّة وسجالاتِهم الفكرية والتنظيرية شأن النّصّ الجماعي الموسوم بـ : ” la politique des auteurs ” [سياسة المؤلّفين] . وللسينِفيليا وللسينِفيليّين كُتَّابُهم ومفكِّروهم وليس أقلّهم من سبق أن ذكرنا من بين جماعة “كراريس السينما”؛ ولهم أساتِذتهم وشيوخُهم شأن “هنري لانغلوا” ( 1914 – 1977) Henri Langlois مؤسّس خزينة السينما الفرنسيّة وأندري بازان (1918 – 1958) André Bazin بالأخصّ مؤسّس ّمجلة “كراريس السينما” السابق ذِكرُها، وصاحب، خاصّةً، الكتاب المرجع Qu’est-ce que le cinéma ? [ ما السينما؟] .
لا يكاد يتردّد أيّ باحث في مجال السينما في فرنسا وخارِجها في الإقرار للحركة السينِفيليّة بمنزلة جوهريّة في بناء فكر سينمائيّ لم يكن قائمًا مثل ذلك القيام قَبلهم، وفي الاعتراف لهم بالإسهام في تكوين أذهان نقديّة وفي توجيه هذا الفنّ وِجهات ما كان ليسلكها لولا جهود السينيفيليّين، ولعلّ ما كتبه “أنطوان دي بيك ” Antoine de Baecque، عند سعيه لوصف “مجتمع” السينِفيليا والسينيفيليّين، من أدقّ ما قيل في الموضوع فلقد ذهب إلى ” إنّه [جمهور السينِفيليّين] ، لا شكّ، جمهورُ هواة [للسينما]، ولكنّه جمهور منهجِيّ في سعيه إلى إرواء شغفِه.” وأقرّ للسينِفليّين بإسهامِهم ، من خلال تميّزهم بممارسة اجتماعيّة وثقافية تتماهى مع المكان وطقوسه وسُنَنِه، إسهامًا جوهرِيًّا في بناء تاريخ للأفكار المتعلّقة بالسينما، وتوفير حيّز هام للتنظير.
لقد أسهبنا، بعض الشيء، في إبراز ما قامت عليه السينيفِليا؛ والغاية من ذلك هي بيان الخلفيّة الفكريّة والمعرفيّة التي ارتكز عليها الطاهر شريعة, فلقد انخرط، بحكم مساره المدرسي والجامِعي، في ما قامت عليه حركة السينِفيليا الفرنسيّة إذ أنّه كان متابِعًا لها، لا من خلال انخراطه في نادي سينما العاصمة المنتمي بصورة من الصّور إلى الجامعة الفرنسيّة لنوادي السينما، فحسب، وإنّما من خلال تفاعُله مع الحراك الثقافي والفكريّ الذي خلقته السينِفيليا في فرنسا والذي كان صداه حاضِرًا بين الأساتذة والمثقّفين الفرنسيّين المقيمين في تونس في إطار دولة الحماية وكان حاضِرًا، كذلك، ضمن شواغِل بعضٍ من زملائهم التونسيّين مِمّن كانوا مَعنِيّين بالسينما مثل الطّاهر شريعة. ولا يختلف الأمر في ذلك عن حركة الفنون التشكيلية التي كانت قائمة بين الرسّامين الفرنسيّين ومَنْ كان يُمارس هذه الفنون من بين التونسيّين. ويكاد يكون الأمر طبيعِيّا أن يُنشئ الطّاهر شريعة نادي سينما في صفاقس عندما عُيّن أستاذًا في معهدها لأنّه تشبّع بما كانت تقوم عليه السينِفيليا بمناسبة مروره بنادي سينما العاصمة ولأنّ فيها ما يسمح بالإسهام في الحركة التوعوية التي كان الأساتذة الوطنِيّون يولونها أهمّيّة في عملهم التربويّ الذي يتجاوز تلقين المعارف وإكساب المهارات، على أهمّيتها، ولقد كان الطّاهِر شريعة – بشهادة عدد كبير من تلاميذه في معهد صفاقس – ينتمي إلى هذا النّوع من الأساتذة. يُضاف إلى هذا الأمر عامِلٌ آخر هامّ سيؤكّد هذا التوجّه ويُعمِّقه، ويتمثّل هذا العامِل في أنّ جيل الطّاهر شريعة وثيق الصلة بالمجتمع المدنيّ التونسيّ الذي أقامته النّخبة التونسيّة، مُنذ نهاية القرن التاسع عشر، وتجسّد في عدد كبير من الجمعيات المُختلفة الاهتمامات والأهداف التي نشَأ أغلبُها في أحضان “الجمعية الخلدونية” التي تأسّست سنة 1896 أو تفرّعت عنها وسارت على منوالها. وتكاد تقوم الحياة الثقافية والفنّيّة في البلاد التونسيّة منذ نشأة الجمعيّة الخلدونيّة على المبادرات المُواطنيّة وفي إطار نسيج من الجمعيات. والتقاء السينِفِيليا مع الروح الجمعيّاتية التي ترسّخت بين النّخبة التونسيّة، والطاهر شريعة واحِدٌ منها، قد قادته إلى تكوين نادي سينما صفاقس، ما أن حلّ بها، وإلى العمل مع رفاق له على تَوْنَسة حركة نوادي السينما عند عودته إلى العاصمة مع استقلال البلاد. لكنّ التَّوْنسة لم تكن لتؤدّي به وبرفاقه إلى التخلّي عن جوهر ما كانت تقوم عليه السينِفيليا من أسس ومبادئ. ولكنّها كانت تدعوه إلى أخذ السياق التونسيّ بعين الاعتبار إضافة إلى الحراك الذي عرفه العالم بعد استقلال أغلب البلدان الإفريقيّة والعربيّة وبعد نشأة تكتّلات سياسيّة واضحة المعالم وتكتّلات أخرى بدأت تتحسّس مسالِكها، وبعد أن قامت رهانات جديدة. وإن كانت لا تتعارَض هذه الرّهانات مع ما قامت عليه السينِفيليا فإنها تتطلّب مُعالجةً لوضعيّات غير وارِدة في فرنسا وفي البلدان التي توفّرت فيها صناعة سينمائية وترسّخت مؤسّساتُها الفنّيّة والتِّقنيةّ والتمويلية. وهذا ما دعانا إلى الكلام عن سينِفِيليا التّحرُّر، عند الخوض في مسارات الطّاهر شريعة في هذا المجال.
الطاهر شريعة وشاغل التحرّر
قبل أن نستعرِض أهمّ التجلّيات التي ميّزت سينيفيليا التحرُّر عند الطاهر شريعة يَحسن أن نذكر ما أسهم به الطّاهر شريعة ورفاقه في الجامِعة التونسيّة لنوادي السينما في نشر مبادئ السينفيليا المتناغمة مع مفاهيم المواطنة وذلك من خلال بعث عدد من نوادي السينما في بعض المدن داخل البلاد وفي تنظيم دورات تدريبية وإقامة ملتقيات فنّيّة كان القصد منها تكوين المُنَشِّطين الذين سيعملون على غرس مبادئ السينِفيليا فيهم وعلى توفير متطلّباتها المعرفيّة.
إلاّ أنّ حدثًا وطنِيًّا هامّا تمثّل في قيام كتابة الدولة للشؤون الثقافيّة سنة 1962 أي بعد ما يُناهِز خمس سنوات على قيام الدولة الوطنيّة قد خلق وضعًا جديدًا كان له أثره في مسار الطاهر شريعة. وذلك لأنّه ما كان للأستاذ الشاذلي القليبي أوّل وزير للثقافة إلّا التعويل على المؤسّسات المُواطنيّة المعنيّة بالثقافة والفنون وعلى مسيّريها في رسم سياسة الدولة الثقافية وبناء موسّساتها الحكوميّة . وهذا ما حصل للطاهر شريعة الذي دُعِي – بصفته رئيسًا للجامعة التونسيّة لنوادي السينما – للإشراف على مصلحة السينما . وهو ما جعله أمام رهانات من نوع آخر تتجاوز التثقيف السينمائيّ في نوادي السينما إلى الإسهام في رسم سياسة الدّولة النّاشئة في مجال هذا الفن الذي هو في حاجة لأنْ يبْنى من أساسه.
ولقد خاض الطّاهر شريعة في الأمر من موقع المنتمي لحركة السينيفيليا المُدافعِ على سينما المؤلّف والواضع لنوعيّة التلقّي وعمقِ التفاعل مع الأثر السينمائيّ موضعًا أساسيًّا في طبيعة التعامل مع نِتاجات هذا الفنّ وفي تحديد انتظارات المتلقّي لها؛ وهذا بيّن في “المُداخلة- التقرير” الذي شارك بها في ملتقى دولِيّ باعتباره مسؤولاً إداريًّا ولكنّ النّاظر في خطابه يقف على خطابٍ سينفيليٍّ لا غٌبار عليه.
كان ذلك بمناسبة المائدة المستديرة المتعلّقة بالسينما والتي نظّمتها مُنظّمة اليونسكو سنة 1964 في بيروت . ويتـجلـّى لقارئ هذا التقرير أنّ الفعل في مجالات الثقافة والتثقيف السينمائيّين في تونس مقصور على جمعيتين اثنتين أو يكاد .
يشير الطاهر شريعة، في هذا التقرير، إلى شبكة نوادي السينما الموزّعة في أهم مدن الجمهورية باعتبارها الأداة الأساسيّة لنشر السينما الراقية وإلى عدد المنشطين السينمائيّيـن الذي فاق المائة ويستعرض قائمة الأفلام المبرمجة في موسم 1964 فتبدو، في غالبها، مندرجةً، ضمن السينما الثقافية، بل إنّ عددًا كبيرًا منها يُعتَبَرُ علامةً من علامات السينما العالمية والعربية، إن لم تكن من بين أهمّ ما أنتج من الأفلام الفنّية. فإلى شريط “الجزيرة العارية” للمخرج الياباني كانيطو شندو (اليابان1960 ) Kaneto Shindo إلى “المدرعة بوتمكين” Le Cuirassé Potemkineلإيزنشتاين S. Eisenstein (الاتحاد السوفياتي 1926 ) إلى”هيروشيما حبيبتي” لآلان روني Alain Resnais ( فرنسا 1959) إلى رصيف الغيومLe Quai des des brumes لمارسيل كارني M. Carné (فرنسا1938) إلى”روما مدينة مفتوحة” Roma città aperta لـروبيرتو روسلليني (1977-1906 ) R. Rossellini (إيطاليا 1944 ) إلى “درب المهابيل” لتوفيق صـالح ( مصر 1957) إلى ” دعاء الكروان” للمصري هنري بركات” ( مصر 1959) إلى سائق الجنرالLe Mécano de la “general“ لبستار كاتن Buster Keaton 1966-1895( الولايات المتّحدة 1925) إلى ” باب الحديد” ليوسف شاهين(مصر 1960) إلى محاكمة نورنبرغ ” لستانلي كرايمر (2001-1913) (الولايات المتّحدة 1961) وإلى “طفولة إيفان” للمخرج طارطوفسكي (الاتحاد السوفياتي1962)… يتخلـّص الطاهر شريعة في شيء من التفاؤل والافتخار إلى أن ” تونس هي القطر الوحيد من بين الأقطار العربية الذي جمع الشروط الإنسانية والثقافية الصالحة لنشر وتوزيع مجلة مخصّصة تماما للنقد السينمائي” ويستعرض بالتفاؤل ذاته تجارب في التنشيط السينمائي قامت بها نوادي السينما لا تقتصر على حصص النقاش التي تعقب الأفلام التي تعرض في إطار تلك النوادي وإنما تطال كذلك الأشرطة المعروضة في القاعات التجارية ليستنـتج ممّا استعـرض:” إن تونس على ما أعلم هي القطر العربي الوحيد الذي أظهر جمهوره السينمائي نضجا نادرا ” وهذا النضج النادر الذي يشير إليه هو أثر من آثار لفعل الجمعيّات الثقافية.
سينِفيليا التحرّر والتنظير لها
ولقد عثرنا في الكتاب الذي أنجزه الطّاهر شريعة سنة 1974 وأمكن نشره سنة 1978 وثيقة على غاية من الثراء تَبْرُز فيها بوضوح سينفيليا التّحرّر من خلال المدى النّضالي الذي وسم خِطابه ومشاريعه. هذا الكتاب موسوم بـِ: Ecrans d’abondance ou cinémas de libération en Afrique ? [ شاشات الوفرة أو سينماءات التّحرير في إفريقيا؟] ولقد وجدنا فيه في الآن ذاته وثيقة تصوّر تصويرًا دقيقًا لواقع السينما في تونس وفي إفريقيا ويرسمُ الرّهانات التي كانت قائمة والمُخططات المرسومة والدعوات الموجّهة لمختلف الأطراف المعنِيّة بالسينما في إفريقيا.
لقد قام الكتاب على قسمين امتدّ الأوّل على ما يُناهِز 170 صفحة والآخر على ما يُناهِز 130 صفحة ضمّن في القسم الثاني هذا عددًا من الوثائق تراوحت بين نصوص القوانين الصادرة عن الدول الإفريقيّة وبين نصوص الاتفاقيات الثنائية وبين محاضر الجلسات، كانت تلك الوثائق مستندات عليها أحال أحيانًا في القسم الأوّل من الكتاب، ولقد أضحت بعد مرور السنين على نشرها وثائق على غاية من الأهمّيّة بالنسبة للمؤرّخين وللباحثين عامّة إضافة إلى نصوص قصيرة لسينمائيّين تجمع بينها رغبتُهم في تغيير القائم. أمّا القسم الأوّل من الكتاب فلقد حلّل فيه الطاهر الشريعة واقِع السينما في إفريقيا في مختلف مستوياته تحليلاً اتّسم في مراحله الأولى بشاغل بيداغوجيّ تجلّى في سعيه إلى تمكين القارئ من المُعطيات الضروريّة التي لا بدّ منها للخوض في قضايا السينما في البدان الإفريقيّة في شمال الصحراء وجنوبها واعتمد معطيات إحصائيّة دقيقة تتعلّق بمختلف المنظومات التي تقوم عليها صناعة السينما وبرهن على علاقة عدم التكافؤ القائمة بين البلدان الإفريقيّة والمنظومة الأمريكيّة والأوروبيّة وفضح المغالطات القائمة في الاتفاقيّات المعقودة بين العالمين وكشف استغلالَ شركات السينما الكبرى للأفارِقة وعملها على حرمانِهم من إمكانيّة قيام سينما في بلدان القارة؛ ثمّ إنّه توصّل إلى أنّ الحلقة الجوهرية التي تمنع الأفارِقة من التحرّر من الوضع القائم إنّما هي كامِنة في التوزيع ودعا إلى ضرورة تأميم مؤسّسات التوزيع التي تنوب الشركات الكبرى ، ونجح فِعْلا في تحقيق ذلك في تونس واستصدار قانون في الموضوع، وكان ردّ فعل هذه الشركات عنيفًا تمثّل في مُقاطعة الدول التي تؤمّم هذا القطاع والامتناع على توزيع أيّ فلم جديد فيها. وهو ما يؤكّد صحّة تحليل الطاهر شريعة وأهميّة التوزيع في استراتجيّة هذه الشركات العظمى في الإبقاء على علاقة الهيمنة. لكنّه أقرّ بأنّ التأميم الذي تمّ تجسيدُه في نصّ قانونيّ لم يُطبّق يومًا التطبيق الفعليّ، وهو ما يُبْرِزُ دقّة المسألة وإمكانيّات المناورة المتوفِّرة لهذه الشركات.
هذا وجهٌ من وجوه سينِفيليا التحرّر وليس الوجهَ الوحيد؛ إذ لها وجهُها الآخر المُتجلّى في العمل على توفير الظروف المناسبة لإنجاز الأفارقة أفلامًا خاصّة بهم تعبّر عن حسّهم وشواغِلهم ؛ ومن أهمّ تلك الظروف هو إقامة ومؤسّسات جامِعة تيسّر بناء الجسور بين السينمائيّين الأفارقة وتسمح بتبادل التجارب ووِجهات النّظر بين المعنِيّين بالسينما وهذا ما عمِل الطّاهر شريعة على الإسهام في تحقيقه من خلال بعث الفدرالية الإفريقية للسينمائيّين FEPACI سنة 1969. ومن أهمّ تلك الظروف، أيضًا، هو توفير فضاءات تسمح بأن ترى الأفلام الإفريقيّة النور وتصل إلى الجمهور في بلاد صانعيها وخارِجها ولقد كان مهرجان أيام قرطاج السينمائية الذي أسّسه مع رفاقِه في الجامِعة التونسيّة لنوادي السينما الفضاء الذي فُتِح للسينمائيّين الأفارقة والعرب ليعرضوا أعمالهم ويتحاوروا حول شواغِلهم وقضاياهم المشتركة.
لقد تجلّى لنا في ما عالجنا من منجزات الرّجل تبنّيه لِقيم السينِفيليا وتطلّعاتها وتشبّعُه بروح التّحرّر التي ازدوجت بها وهو ما أعطاها مداها الكوني و مكّنها من الانفتاح على قضايا العدل والحرّية إغناءً للمُجتمعات الإنسانيّة في تعدّدها وتنوّعِها.
وتجلّت لنا في هذا الكتاب طاقة لا تتوفّر إلاّ للمناضلين المستميتين في نضالهم. ولم يبدُ لي غريبًا أن يفتتح القسم الثاني من كتابه بتضمين نصوص قصيرة في أغلبها تُعَبِّر عن مقولات سينمائيّين من أمثال توفيق صالح (الذي أهداه كتابه هذا) وعصمان صمبان، رائد السينما السينغاليّة والإفريقيّة والسينمائي البرازيلي قلوبير روشا Glauber Rocha منشئ حركة ” سينما نوفو” Cinema Novo والثنائيّ الأرجنتيني أكتافيو خيتينو (2012 -1935 ) Octavio Getino وفرناندو سولاناس (1936 -2020) Solanas Fernando اللذيْن كانا وراء الحركة السينمائيّة المقاومة للإمبريالية والدّاعية إلي “التحرّر من الاستعمار الثقافي ” والتي تجسّدت في “مجموعة سينما التحرّر” Grupo Cine Liberación وفي ما أُطْلِق عليه “مدرسة السينما الثالثة”. وفي هذا التضمين إعلان بيِّنٌ عن تبنّي الطاهر شريعة ما قامت عليه هذه الحركات السينمائيّة في أمريكا اللاتينيّة واندراجٌ واضح في مقولات النّضال الثقافي والفنّي لاستكمال حرّية المنتمين لما أطلق عليه تسمية العالم الثالث. وفي ذلك وعيٌ حادّ بأهمية هذا الفنّ وعيًا ليس غريبًا عن مقولات الحركة السينيفيلية التي بها آمن وبضرورة توظيفه أداةً للتحرّرِ، فهل من باب الصّدفة أن يُضَمِّن، في آخِر نصّه التحليليّ، مقولة لينين الشهيرة: ” تبقى السينما أهمَّ الفنون على الإطلاق، لأنها أكثرُها شعبيّة”؛ غير أنّه لا يبدو غِرًّا يأخذ آماله وأمنياته باعتبارها حقيقةً واقِعة، وإنما يذهب إلى ما ذهب إليه فريتز لانغ Fritz Lang (1890 – 1976)في ما كتَبَ: ” ليس الأهمَّ وليس الأساسيَّ أن يتحقّق الانتصارُ في نهاية المعركة بل الأهمُّ هو خوضُ المعركة في ذاتها، لأنّها أمرٌ حيويّ” . لقد ضمّن الطاهر شريعة هذه القولة في مفتتح نصّه التحليليّ الذي كان – بصورة من الصّور – معركةً من بين المعارك التي خاضها وكان يعتبر نفسه مُلْزَمَا بأن يخوضِها في تلك اللحظة بالذّات وبالمُعطيات التي كانت متاحة وَقْتَها.
لقد تغيّرت المُعطيات التقنيّة بفضل الثورة الرقميّة التي غيّرت تغييرًا جوهرِيًّا أدواتِ التصوير والبثّ والتوزيع وإلإنتاج، بل وأشكال التقبّل؛ فهل يعني أنّ مقاربات الطاهر شريعة قد فقدت، نتيجة لذلك، مِصداقيّتها ولم تَعُدْ ناجِعة في هذه الأيام، قد يكون الأمر كذلك إذا ما اقتصرنا على ما اقترح من حلول عمليّة وثيقة الصّلة بالأدوات والتقنيات والمسالك التي كانت قائمة وقت إنجاز كتابه هذا، وهو أمرٌ طبيعيّ. لكن هل تغيّرت علاقات القوى بين الأطراف الفاعِلة في السينما التي ذكرها الطاهر شريعة ؟ وهل تغَيّرت الرّهانات التي كانت قائمة، عندما خاض الطاهر شريعة ما خاضه من المعارك؟ ما يبدو لنا هو أنّنا ما زلنا – وذلك مهما كانت الإجابة على هذه الأسئلة – في حاجة ماسة اليوم وغدًا إلى روح سينِفيليا التّحرّر التي وسمت المسار الذي عرفته منجزات الطاهر شريعة.
كذا بدا لنا الطاهر شريعة المؤمن بالسينما ودورها التحريريّ إذا ما توفّر لها وفيها ما هي في حاجة إليه : الإيمان بالسينما فنًّا مُحَرِّرًا وتوفير ما يسمح للإفريقيّ والعربيّ بالرّغبة في التعبير عن ذاته والإيمان بقدراته في تحقيق ذلك.
كذا بدا لنا الطّاهر شريعة الإفريقيّ حتى النّخاع والعربي المنغرس في أرضه الإفريقية.