نشرت مجلة ” الحصاد ” الصادرة في لندن وفي زاوية ” فواصل ثقافية ” التي يشرف عليها الشاعر الشيخ نعيم تلحوق , مقالة للكاتب يوسف رقة حملت عنوان :
( غودو يتجول في الساحات الثقافيه )
وجاء في المقالة :
..نصف كوب من الحليب , نصف كوب من الماء , ملعقة كبيرة من الخميرة الفورية..وننتظر…ننتظر ..ثم نضع السكر والملح والطحين , نعجن الخليط جيدا , وننتظر , ننتظر , ننتظر ..
ِ..وهكذا أضفنا إلى إلى ثقافتنا شيئا لم نكترث له من قبل ..أليس على المثقف أن يطمح إلى الثقافة الشاملة في ميادين الحياة ؟
هل المثقف هو من يقرأ رواية و قصيدة أو كتابا , ثم يضع نظارته السميكة ويتحفنا ب ” التنظير ” الذي لا يمت إلى الوقع بصلة ؟
صحيح أنَْ الوباء جعلنا نلتزم ” مسافة البعد ” مع الآخرين , وجعلنا نعيش في دائرة مغلقة من العزلة والفراغ والوحدة , إلا أنه أضاف إلى حياتنا مفاهيم لم ندركها من قبل , معرفة وجودنا , معرفة مقدار الرفاهية التي كنا نعيشها دون أن ندري .
الوباء لم يميِّز بين فقير وغني , بين بوذي و مسلم , بين يهودي و مسيحي , بين ظالم ومظلوم , بين ملونُ وأبيض , بين امرأه وذكر , بين مؤمن بالسلام و مؤمن بالحرب ..إننا في اللوحة السوريالية ذاتها .. ثقافتنا هي الإنتظار .. ننتظر وننتظر.. ثم ننتظر ..تُرى متى السفينة تفرد أجنحتها للريح ؟ وهل سنبقى في قاع المحيطات أم سيتولد الأمل من شعاع فجر يضيء الخشبة العائمة الصابرة أن نبصرها ونمتطيها إلى ضفة الخلاص ؟
قلت لصديقي الشاعر : لماذا انت غائب عن المشهد ؟
أجابني بمرارة الاسكافي :” لا ارى في الأفق مكانا للشعر وغير الشعر .. أشعر أننا في حالة من ذبول .. من يعتقد أنّ الوباء غير موجود رغم الفظائع التي سببها يكون من “الجهلاء” ,
الموضوع يحتاج الى حسٍّ بسيط بالمسؤولية ..عليك أن تكن مسؤولا عن نفسك و عن عائلتك , لأن اي ضرر سينعكس على الجميع , لذلك علينا الانتباه , على أمل أن نستعيد حياتنا الطبيعية و نسترجع الحياة ونمضي كما نريد وكما نشاء لنحقق أحلامنا الجميلة على الصعيد الفردي او الجماعي ” .
صديقي الآخر , نشر ديوانه الشعري عبر ” النت ” , لم يعد من مكان للورق , ليس بسبب الوباء والتباعد بل لسبب أشرس وأفتك وهو الانهيار الاقتصادي وانهيار العملة الوطنية .. بات الكتاب يكلِّف ” بقرة جحا ” وبات الناس يفضلون شراء تلك البقرة والإفادة من لحمها وشحمها ولبنها , للأسف نحو نسير إلى غذاء الجسد بعيدا عن اي غذاء روحي وثقافي وفكري .
وربما , إذا استمرت الاحوال على هذا المنوال من الاستهتار بابسط حقوق الإنسان في العيش الكريم , قد يصل بنا الأمر إلى حياة تذكرنا بالعصر الحجري البدائي , وهناك سننتظر حواء حاملة تفاحتها لتتراقص معها بغنج ودلال , ولن يتردد سيدنا آدم في القبض على نعمة الدنيا والآخرة معا .
على من تقرع مزاميرك يا دوود ؟!
ماذا اعطيتم للأرض غير ذلك الثقب ؟ ثقب التلوث البيئي والثقافي والاجتماعي والاخلاقي ؟
ثقب الرؤوس الملوثة بالفساد والطمع والثراء على حساب البطون الخاوية ؟
أين هم المثقفون من كل ذلك ؟ ترى هل تدجّنوا مع واقع الحال ؟ وهل لا يزالون يبحثون عن ثقب الإبرة في كومة القش ؟
ما زلت أتذكر صديقي العبقري الذي أطفأ الضوء في غرفته , وبدأ يبحث عنه في الظلام , ويسأل : أين ذهب ذلك الضوء ؟
يا صديقي , لا تُضِع وقتك في البحث عن الضوء , إضغط على “كبسة الضوء ” وهكذا قد ترى النور , البحث في الظلام لا يجدي نفعا ..سيبقى ظلام مسيطرا على الرؤية ..
اخلع عنك رداء التقوقع في مذاهب ضيقة واخرج من البلاط الطائفي الضيق إلى حديقة رحبة من الايمان بالحق والانسان ..
الايمان تجده في زهرة تلاحق بوجهها ضوء الشمس ..في سنابل وهي تراقص العاصفة تبقى صامدة تنتظر شعاع الشمس لتلون جسدها البهي بصباغ من ذهب ..
انهض يا صديقي وابحث عن النور , أنت لن تجده إلا في قلبك .
هل تسألني , ماذا فعل بنا الوباء ؟
اقول لك بتجرد , نعم لقد أعادنا مئة سنة الى الوراء , وفتح مجالا واسعا لاصحاب الجشع للمضي في الاستغلال والطمع ..لماذا ؟ ببساطة لأنهم ليسوا من البشر .
انتظرنا اللقاح طويلا , ولا نعلم حتى اليوم مدى فعاليته في انقاذ البشر , ولكننا لا نعلم من سيمنحنا اللقاح للتخلص من الشّر والظلام , من الجوع والحرمان , للتخلص من طبقة الفاسدين الذين تسلق بعضهم مراكز عالية في دولتنا , وبعضهم الآخر ينتظر دوره لإمتطاء الخيل على حساب البسطاء والفقراء والطيبين ..
جيلنا سحقته الحروب والانتفاضات والثورات الخلّاقة وغير الخلٌاقة … سحقته موجات التعصب للطوائف وليس للوطن ..سحقته الحروب الداخلية والخارجية ولعبة الأمم ولعنت أنفاسه ..
جيلنا ينتظر ذاك الأمل الذي يتجول مع ” غودو ” في الساحات الثقافية .
سننتظر ..ننتظر ..وننتظر
( الكاتب يوسف رقة / بيروت )