رواية “يعقوبيل” لناصر القواسمي
أطروحة تعالج عشرين مسألة
قراءة الناقد: د. سلطان الخضور
وإني لفرط إحساسي بكيميائية تفاعل أنسجة القواسمي وخلاياها مع رائحة تراب الوطن لأحسبه يتيمّم بترابه إذا قام للصلاة, ولا يستخدم الماء للوضوء, إلا إذا عز ذاك التراب, فكأني به يتلذذ بسفي التراب بكلتا يديه لكل صلاة من بقعة من بقاعه, ليمسح جسده لتنفذ ذراته بين خلايا جسده فيتعمد بالتاريخ ويصبح أكثر قرباً إلى الله وأكثر قبولاً في الصلاة.
وإني لأغبط ناصراً حيث تنفست روايته ” يعقوبيل” أول ما تنفست من هواء الجزائر الشقيقة, فزادت النص ألقاً على ألق, وإني لأراها رواية تشهق وتزفر عشقاً للوطن والأمة, وتؤكد على عمق الروابط التي تجمع بين أبناء الأمة العربية, وعلى عمق ثقافة الشعب الجزائري, وأصالته ومناصرته لقضية فلسطين ولكل قضايا الأمة والوطن الممتد من المحيط إلى الخليج, وما توكيله للروائية الجزائرية حميدة الشنوفي لتنوب عنه في حفل التوقيع, إلا انعكاس لنفسية الراوي وإحساسه العروبي, وحبه لهذا البلد الشقيق.
لقد كان الروائي ناصر القواسمي مؤرخاً وفياّ لتاريخ الكنعانيين حين رسم بيديه الواثقتين رواية” يعقوبيل”, فقد حفرت روايته الصادرة عن دار ( ومضه للنشر والتوزيع والترجمة) الجزائرية في أعماق التاريخ, وقلعت أوتاد الطارئين على تاريخ كنعان, وعرّت أحلامهم, وفقأت عيون رواحلهم بسرد تاريخي دقيقٍ وحذر, وبتدرج زمني ينم عن سعةٍ في الاطلاع, وجهد كبير في البحث والتنقيب, استطاع من خلالها الراوي تثبيت حقائق تاريخية وبراهين دينية تدحض كل ما دونها من ادعاءات قاصرة عن أحقية غير الكنعانيين العرب في المكان.
وإن كانت الحفارات الحديثة تستخرج النفط من عمقٍ قد يفوق الأربعة آلاف متراً, بعد أن تكون قد غاصت في أعماق اليابسة, فقد غاصت مفردات القواسمي ما يزيد عن هذا الرقم لكن في تعداد الزمن والسنوات, ليثبت قدرته على توظيف النص السردي لخدمة قضايا الوطن والأمة, فقد نقّب القواسمي في مفاصل التاريخ الديني وأرّخ لحقبة زمنية عكست قهر السنوات وظلم الزمان, وحاولت تصحيح مسار تاريخي تعرض في كثير من الأحيان لمحاولات الطمس والتحويل والتحوير والتأويل, ليخرج علينا بوجه كان لا بد من إزالة القناع عنه ليظهر على حقيقته دون تحريف أو تخريف أو تجديف.
حاول الراوي في رواية ” يعقوبيل”, أن يمسح ما علق بكنعانية الخليل, من فكر دخيل, ليجعلها تحافظ على تحليقها كمدينة تخرج من فوهة التاريخ, منتسبة لأبي الانبياء سيدنا ابراهيم الخليل عليه السلام, وليظهرها بثوبها الكنعاني الأصيل, جاهداً لإبقاء بياض اللون على ثوب حفيده يعقوب, ونزع ما علق بأطراف هذا الثوب من غبار المسير, ومجتهداً ليخرجه ناصع البياض يشف عما في دواخله, تفوح منه روائح التاريخ العربي الكنعاني, لا كما يسعى المزوّرون لإبقائه قاتم اللون, يخفي تحت جنباته ما علق به من افتراءات وأوهام.
وقد اختار القواسمي لغلاف روايته رمزاً معبراً ليعقوب النبي وهو يحاول امتطاء شاة ليقول أن البركة في الأنعام, وأن رحلة الرّعي في حرّان كانت مثمرة, وليعبر بشكل رمزي, أن الشاة كما كانت وسيلة للعيش, كانت سبباً للتنقل وللعودة للمنبت, فالشاة كانت مهمة ولها دور في أحداث الرّواية, فقد بدأت الرواية بمن كانت الشاة تمثل لديهم مصدراً للحياة ومرّت بمن هم كذلك وانتهت من حيث بدأت, فكان لا بد من ابراز دورها الذي لعبته في مجريات الأحداث.
وإذا كان ناصر قد أسس أرضية صلبة في مدخله للرواية, ليبني المتلقي عليها ما يقبض من أحداث, فقد كان واعياً لثنائية الحضور والغياب, وثنائية الشروق والمغيب والظهور والأفول, فلذلك كان حريصاً على أن يجعل روح المتلقي تنخرط والحدث, ليخرج بنتيجة راسخة تكون روحه جزءاً لا يغيب معناها عن معنى سطوع الشمس في وضح النهار, ويستدرج معان عميقة ترتفع بروايته في فضاء هذا الكون, ولتبدد القلق وتنزع عن النفس الحيرة, وتثبت فيها صورة من صور الحق, وسورة من سور الصدق والثبات.
يقول القواسمي في مدخله للرواية
” وكانت الأرض كعادتها تحتشد بالغيب واحتمال الغياب الممكن إلى شكل أكثر صلاحية من ثوبِ الشمس تمطط في سماءٍ من حيرةٍ وقلق تُتمُّ معناها في معناك أنتَ”
ويتابع القواسمي حديثه على عتبات روايته, وهو يناجي من ترك خصب الأرض للبحث عن جدب العشب في الصحراء, لأنه يدرك أن العِوْد آتٍ ولو بعد حين, ويقرر أن الرّاحلين عن البلاد سينثرون القمح في الخلاء الذي وصفته الرواية بالقصير, فهو على ثقة أن الرّاحلين ذوي همة وعطاء, سينثرون القمح أنى وُجدوا, فهم بطبعهم حمالون للأمانة التي أبت أن تحملها السموات والأرض, حملوها ليعمّروا الأرض التي يتوق عنبها لأول الغارسين, ولتؤكد من ناحية أخرى, أن المسافة بين الراحل عن الوطن والوطن قصيرة وإن طال بها الزمان أو المكان, وأن العودة حتمية ولو بعد ردح من الزمان, لأن الغياب ثقيل ثقيل, فلا بد لناقة الدهر أن تقتفي أثر الحقيقة, وتحط رحالها في مرابعها التي أكثر من غيرها تعرف تفاصيلها, ولا بد ليعقوب أن يعود مهما طالت به الأيام أو قست عليه السنون, وما يعقوب إلا رمزاً لمن ارتحل وكان من ضحايا الظلم والتدليس.
اذهب الآن حيث شاء لك الرحيل أن تذهب، وانثر قمح روحك في الخلاء القصير لعلَّ بعد حين يفرخ السنابل على طول الأرض وعرضها… لكي يعود بعد ردح من الزمان ملتاثًا بالغياب الثقيل يمسك الخطو ويسأله البقاء.
وإذ يعالج متن الرواية قصة النبي يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم عليهم السلام, ليؤكد على عمق المعاني التي تشي بها مفردات الرواية ولتطرح عشرين قضية:
الأولى, ارتباط المسلمين الروحي بمقام ابراهيم عليه السلام, فإبراهيم أبو الأنبياء ورد ذكره في القرآن الكريم في الآية الكريمة التي تنفي يهوديته أو نصرانيته على اعتبار أن الديانتين جاءتا بعد سيدنا إبراهيم لا أثناء وجوده.
“ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين” – الآية
وتشير الرواية في موقع آخر, أن أهل حران في ذلك الحين, كانوا يعبدون ما هب ودب من الأرباب, ولم يجمعوا على عبادة خالق كل هذه الأرباب.