الشاعرة هالة نهرا في اليوم العالمي للشعر :
” زفرة عميقة يطلقها الكون في عالم يلهث وراء المادة”
كتبت الناقدة الموسيقية والشاعرة هالة نهرا رسالة نشرتها عبر موقع ” البوسطجي ” لمناسبة اليوم العالمي للشعر , وقالت فيها :
الشعر على اعتباره شغفاً هائلاً، لا يذكّرنا به يومٌ عالميٌّ في 21 آذار/ مارس من كل سنة لأننا نتنفّس الشعر كل يوم في ما نكتبه، وفي ما ننسى أن ندوّنه أو في ما لا يتعجّل التجسُّد بالكلمات.
الشعر مزاجٌ ونبضٌ وأوردة ورؤية ورؤيا.. وإصغاءٌ عميق لدبيب أصوات الحياة المقعّرة والطافية والكامنة.. ومحاولةٌ إبداعية تهدف إلى إعادة اختراع العالم وإعادة إحيائه على أسس جديدة أكثر إنسانيةً ورحمةً ورأفةً وعدالةً، وأكثر تشققاً عن فوران النور. الشعر يُكثِرُ التفتيش والحفر والالتماس والجسّ والمداعبة والملاعبة والدغدغة والبحث والالتقاط والتصوّر والتأمّل والاجتراح والخلق والتحليق عبر موجات الطاقة الكونية، ويُكثِرُ التساؤل وقد يخلخل الراسخ في مفاهيم سائدة. الشعر موقفٌ مضمر أو علني من العالَم والوجود، وإشارةٌ وعلامة واستباقٌ وثغثغة وحكمة ولعثمة وهبوب، وصرخةٌ وهمسٌ وجمالٌ يتمرّدُ وآخر منسَّق كسطر النمل فوق البياض..
الشعر أجنحةٌ للفكر لكي يطير ويلامس القلب، وهو العَمود الفقريّ للأغاني والأناشيد والمحرّض على التجلّي واعتناق روح الجمال.. الشعر استحضارٌ واستشرافٌ وحدسٌ، ومرتجى حتى لو في مغطس اليأس!
المرجوّ من وسائل الإعلام كلها، في زمن الانحطاط والتفاهة واختلاط الحابل بالنابل، ومن دور النشر ومن وزارات الثقافة والبلديات ومن أصحاب المقامات الرفيعة في كل مكانٍ وزمان، أولئك الذين يؤمنون بالثقافة والفنون والأدب… المرجوّ دعم الشعر والشعراء واحتضانهم، ولا نقصد الإشارة هنا إلى ديناصورات الشعر وأصنامه ومومياءاته الحية وإلى أسمائه المكرّسة ونجومه المزعومين الذين يحتكرون المشهد ويصادرون المنابر.. بل نعني الأصوات والوجوه الشعرية المزقزقة برهافةٍ وبهاءٍ وحقٍّ في مجابهة خراب الأرض! المطلوب الالتفات نحو المهمَل المتلألىء مثل صفحة المياه ونحو المنزوية بحياءٍ في ملكوت الشعر.
الشعر أكثر من تعبيرٍ ومن فوحان ومن لهب مصابيح، وأكثر من صهيلٍ واخضرار… وأكثر من كوّة في جدار العالم السميك، وأكثر من رسالة، وأكثر من خيال، وأكثر من وجهات نظر، وأكثر من تفنُّنٍ لغويّ وتنميق، وأكثر من تركيب ومن نوافير، وأكثر من ذاتية وأبعد من موضوعية. بالشعر تتجدّد اللغةُ “بيت الوجود”. الشعر هو الزفرة العيمقة التي يطلقها الكون، وهو المفاتيح التي بوسائطها ينجلي بتقطُّر الغامض والمجهول والمحجوب واللامنظور الخفيّ.
يلزمنا أكثر من يومٍ عالميّ للشعر كي نحتفي به في الشوارع والملاعب والساحات والنوادي والمدارس والجامعات والمجلاّت والمواقع الإلكترونية والشاشات والمقاهي الأدبية والصالونات، إلخ.
الشعر لا يحدّده تنظير ناقدٍ يتفذلكُ بادّعاء، ولا يخضع الإبداع لترّهاتٍ نقدية وافتراضات وقواعد محدّدة سلفاً، وقد يوائم الشعر بين تيارات ومفاهيم مختلفة. الشعر حرٌّ ومتحرّرٌ من كل ما لا يفيده ويغنيه ويغذّيه ويزوّده بالأوكسيجين. الشعر العربيّ قد يكون ضمن قالب أو في تسييل القالب، بقافيةٍ أو من دون قافية، أو بالجمع بين القافية وانعدامها في آنٍ واحد وفي إطارٍ جامع على سبيل المثال، أو بالجمع بين القالب والقالب المسيَّل في آن. قد يكون الشعر في قصيدة النثر أو خارجها أو في نصٍّ ينضح شِعريةً. إنّ مَن يحدّد العملية وأسس اللعبة هو الشاعر وليس الناقد والمنظّر. الناقد العصريّ الحقيقي المبصر واللامع والمتمكّن هو الذي ينأى عن الإسقاطات الجامدة والقواعد الصارمة وهو الذي يعي مدى قدرة المبدع على التصرّف بملء الإرادة والاختيار وهو الذي يدعم الإبداع بلا حسد، بودٍّ نقيّ، بلا زعمٍ.
في اليوم العالميّ للشعر في العام 2021 نذكر أنّ الشعر بقيمه الإنسانية يجمع الشعوب وهو ما يبلّ حلق روح الإنسان وشوقها العظيم وتوقها، في عالمٍ اختلّ توازنه، يلهث بلا استراحة وراء المادّة!
هالة نهرا: ناقدة موسيقية وفنية، وكاتبة، وشاعرة لبنانية.