زمن الصبار
شجر الصبار الذي ينتشر في الأودية والحوافي، وعلى أكتاف الأنهار والسواقي، وفي الجلول وأطراف الحقول، وفوق القمم، لا يقابله، إلا نسيج هؤلاء الناس في لبنان.
تراهم ينطوون على إرث من الحكايات والمشاعر والأشجان والأحزان.
إرث شبيه إلى حد بعيد، بتلك العلاقات والأسرار والوشائج، التي تختزنها بداخلها أشجار مثل أشجار الصبار.
تحدق في تلابيب الكيان اللبناني، وفي مجتمعاته، وفي زواريب مدنه، وشعب قراه وحواريه، فتشعر أن هناك وجها آخر للقسوة والخشونة والمعاناة، لا تجده إلا في شجر الصبار وفي أديمه وفي نسيجه، وفي أزاهيره، وفي وقوفه بصورة دائمة.
تجده حارسا على الحدود، وفوق القمم، يعاني من الرياح حين تشتد عليه، ومن الصقيع حين يلفحه ببرد وثلجه، ومن شدة الحر حين ينال منه بجمره، وهو على أطراف البوادي والحقول والمراعي.
لبنان إستوطنه شجر الأرز على السفوح، من أعالي الجبال، حين كان يرفل بالنعيم والحلل.
وحين كان محط النسور والصقور والشواهين.
وحين كانت روابيه، ملجأ البلابل والحساسين، وحين كانت منتجعاته الجبلية كما شواطئه البحرية، مهبط الإوز والبط و الطيور البحرية المهاجرة.
تجد فيه مأمنها السنوي والموسمي والأبدي، من جميع أنواع الأذى الذي تتعرض له، في غير مكان من الأقاليم، ومن
الأرضين، في دنيا البر والبحر.
لبنان القديم، كان الأرز والقز.
وطن النحل. وحقول العوسج والبنفسج والزنبق. وأثلام شجيرات اللوز وأزاهيرها. وأرواض شجيرات الدفلى، تتهامس من بعيد.
أما لبنان اليوم، فقد صار أشبه بمجتمع شجر الصبار. فكل ليله ونهاره، هو أليف زمنه الطارئ عليه. كأنه يعيش حالة الطوارئ. تراه يتناغم مع الشدائد. تتواثب عليه، من الأسفل إلى الأعلى. من الأرض إلى الشعب إلى الدولة، فتغزو فضاء تكوينه، وتغزو أثير تلوينه، فتضيئه بتراسلات لونيةحمراء وأرجوانية. وخضراء وصفراء وبيضاء، تشبه نسيج الناس الذي لجؤوا إليه، وصاروا جزءا من شدته وأساه وبأسائه.
وصاروا دفقا من أنغامه وموجات آهاته. صاروا وجها آخر للقسوة والمعاناة، الذي يجدل ألياف كيانه، من العوائل والأطياف والطوائف والمكونات. ومن ضيفان اللجوء والنزوح الذي يغذيه، والذي يغزوه. ومن أمواج التهجير و الهجرات المؤلمات الدافقات.
تحدق في شجر الصبار، فيحيلك إلى عوده. يحيلك إلى وعوده، تماما كما حال لبنان.
ثمة رسائل تذاع في عصارة الشعب الهصور والمعصور. ثمة رسائل تذاع في ألياف الجذوع والألواح الخضراء والدكناء من شجيرات الصبار.
رسائل تسري في عصارة الشعب المشدود دوما إلى الآلام والعذابات. وإلى الصقيع اللاذع والحر اللاهب. تماما كما تراها في جذوع وأشواك وأزهار وألواح وجذور ذاك السقي، بقطرات الندى وقطر القلوب.
زمن شجر الصبار، يجسد حقا اليوم، زمن شعب لبنان، بل زمن جميع سكان لبنان.
معاناة الهجير واحدة بينهما. معاناة الصقيع واحدة بينهما. ومعاناة المصير واحدة أيضا بينهما.
زمن لبنان اليوم ك”زمن الصبار”.
بلاد متروكة لأقدارها في الهجير الدولي، وفي الصقيع الإقليمي. وفي الجنوح والجموح، في الأعماق السكينة لبطون المحيطات، وأفواه الديناصورات. وفي التواشج الأليف، بين الصخور والرياح والغيوم والشموس والأمطار.
قدر لبنان، أن يكون في الإقليم، حال شجر الصبار، لا يستكين للريح، ولا يهاب العابرين به.
تلوحه الشمس، فتشتد خضرته.
وتزيده تلويحا، فتشتد صفرته.
وتشتد عليه الريح فيرسل أشواكه أنابيب لعيون الطامعين.
وحين يحل الربيع، يتفتح زهره تفتح الورد.
وطن الأرز، هجره زمانه.صار من الماضي. صار من الذكريات. هجره زمانه، حين هجرته النسور وحين الصقور. وحين هجرت تلاله المصائف والمواويل.
وطن الأرز، تبدل عليه الزمان. كثر الطامعون به.
تكاثر عليه عدوه: تحوطه الأعداء بالشرور. خالطوا نسيجه. حاصروا حدوده. وضعوا عليه القيود.
كان لا بد أن يصارعهم.
كان لا بد أن يقاومهم.
كان لا بد أن يشتدبه به العراك، فيتنفس الصبار.
زمن الصبار، هو زمن لبنان اليوم. يستحيل على أعدائه، مثل الصخور على مر العصور.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية