جبل تربل كان حزينا
رأيته بأم عيني، فجر الثامن من شهر شباط(2021)، يتشح بالسواد.
تعودت أن أراه في مثل هذا الوقت من كل يوم، أن يكون معمما بالغمام الأبيض، وبأطيار اليمام، ملفعا بالثلج.
هف قلبي إليه هذا الصباح. لا أعرف كيف يهز أفئدة جميع الطرابلسيين الطيبين، هذا الجبل الذي يحرس المدينة منذ آلاف السنين.
“جبل تربل”، حمل إسم المدينة. إسم المدينة التاريخية. أوكل بها، وصعد يحرسها في رأس الجبل.
“جبل تربل” كان حزينا هذا الصباح. غادرته الروح، وعادت إلى بارئها. غادره ناسكه، جان عبيد. فنزلت إليه جميع السحب، من جبل المكمل والقموعة والقرنة السوداء، تعزيه. تبكي معه ناسكه المتوحد. تعيد إلى ذاكرة الطرابلسيين الطيبين، بعض ما كان أودعه الراحل الطيب فيها، من حب دفين.
كانت تطير إلى دارته، إلى صومعته، جميع الأطيار. ينثر لها القمح على مائدته ظهيرة كل يوم سبت. تساكنه جوارحه، ولا تعود مساء الأحد إلى مهجعها، إلا بعد أن ترتوي من راحتيه.
كانت دارات نزله الروحي في صومعته، آخر كل إسبوع، بساطا للريح والراحة والترويح، وللأيدي الندية والطرية. كانت مساكب عطر للغزالة تشق طريقها إليه غب كل فجر. تستظل بظله الأبيض، حتى المساء، ثم تنزل عن صومعته في جبل تربل، تعطر البحر.
ما كان الأهالي يميزون كثيرا، بين جبين الأستاذ الأدهم. بين جبين الأستاذ الأيهم، وبين شالات الغمام الأبيض التي يعتم بها جبل تربل، عصر كل يوم.
ما كان الأهالي في طرابلس، وفي نجومها من القرى المعلقة في السماء، يميزون كثيرا، بين أنفاس وادي القدسين، حين يهب إليه زهر الليمون بعطره، من المرجة، يبخر قلعة طرابلس، ويغذ طريقه إلى زيتون الفوار، وينتشر على أكتاف “الأستاذ جان” في جبل تربل.
كانت طرابلس القديمة، بتكاياها وأسواقها ومساجدها وكنائسها وزوايا كتاتيبها ومكتباتها، وديعة في قلبه، حين نزل “الأستاذ جان” جبل تربل، مع اليمام والحمام ونورس البحر، الذي أفرد له فضلة ثوبه، ليبني فيها أعشاشه، على شرشف البحر.
الأستاذ جان عبيد، من لا يعرفه، وهو يؤنس مجالسه، بالقرآن والشعر.
الكتاب والديوان، والحكم والقصائد العصماء، التي كانت تزين نفسه، ما بخل بها على زائريه، مهما تأخر بهم الليل في جبل تربل، حيث صومعة العلم والفراسة وتاريخ البلاد، وتاريخ طرابلس القديم.
كلما ذكر إسمه أمام الناس، إجتمعت الأطيار البيضاء ، تضيء السماء فوق راحتيه، وترمي من مناقيرها، قمح العيون الشاتية.
جان عبيد، أو تربل، أو جبل تربل، إنما هو الجبل الذي شهد على تاريخ طرابلس، في كل صباح وفي كل مساء منذ نصف قرن. إنما هو الجبل الذي عشق نارها، تخرج من عيون الشباب. إنما هو معدن الصخر ومعبد الطيبين الأتقياء.
جبل تربل، لماذ إعتم بالغمام الأسود هذا المساء؟ لماذا كان حزينا هذا المساء؟.
طارت منه الروح إلى بارئها، وغرق بعد ذلك في البكاء.