شهرياد الكلام :
كتب الأديب سليمان يوسف ابراهيم نصا نقديا / ثقافيا نشرته مجلة ” الحصاد ” يوم أمس , وجاء في المقالة :
أيها القاتل المتعنّت (3)
وإن حاولوا…. فلن يُفلِحوا !!
سليمان يوسف ابراهيم
مُغيِّرةُ الأَنماط ومُعدِّلةُ دساتير العيش هي، هذه الجَّائحة الفيروسيَّة القاتلة،التي بدَّلتْ وجه الكون وحطَّمت الآمال على أَعتاب الشِّفاه حجبًا لـمُنىً واغتيالًا لطموحاتٍ…
لم أَكُن أَعلمُ أَنَّني وكُثرٌ من أَترابي، بما كُنَّا نُنجز ونحقِّقُ من إِبداعاتٍ ونشاركُ المجتمع المثقّف من أَنشطةٍ، سندخلك يا تاريخ الحركة الثّقافيّة بهذه العُجالة!ونحن، لا نزال على قيد فجرٍ أو صباحٍ مِمّا لنا من مُساهماتٍ في مسيرة دربكَ المرصوفة بقتَاد الـمُجاهدة!!!
لم أَكُن أَعلم أنَّ قلمي سيدوِّنُ الذِّكر تذكارًا عمّا كُنَّاه وأَترابي، وما صرنا إليه!! بِئس قدومكَ إلينا زائرًا فرضَ نفسه علينا- بشتّى الأَسماء ومُختلف الحُلل- فأَجهزَ على أَحلامنا في مُهودها، واختصرها بأُمنيةَ أن نصحو عند كل شهقة فجرٍ وأن تكون بعيدًا عنّا وعن مَن نُحبّ، ليبقى فينا الأَمل حيًّا باستعادة حياةٍ من بين شدقيكَ الفاغرَين ازدرادًا لكلّ ما في حياتنا من نبض حضور واستمرار مطامحٍ!!
لقد بدّلتَ أَيُّها اللَّعين المَقيت معاني عيشنا، مُدمِّرًا أَمام عيوننا مُنيفَ إنجازاتنا،مُرمِّدًا أَحلامنا من الصَّباحات والأَماسي بآتون فناءٍ وعبثٍ!! فكلُّ معاني عيشنا ومصطلحات تداولنا لحياةٍ: بدَّلتها، رميت بها، كما أَلحدتَ أَهلها في النَّسوةِ العَجلى، وتركتهم على أَرصفة الحياة متسوِّلي نَفَسٍ، لا يلوون على شيءٍ إِلَّاه!!!
فإنَّ حدَّثتَ الـمُبدعَ، تلفاه غائبًا عنك، مُبحرًا فوقَ قاربَ عبثٍ، سعيًا خلف اقتناص نَفَسٍ… يُصارع طيَّ عِبابه إلحاح الغياب على روحه: بقصيدةٍ، بلوحةٍ، بمنحوتةٍ أَمْ بدعاء رجاءٍ… وهيهات أن يلقى مَنْ يُشاركه بهجةَ إِنجازٍ!!!
تبًّا لك أَيُّها القاتل الـمُتعنِّت!!
كيفَ سرقتَ منَّا مباهجنا والـمُنى؟
هل كانت تُميتُ شرورَكَ طيورُ محابرِنا؟
حتّى قرَّرتَ كسر أَقلامنا، محقَ رياشنا،تدبيس أَزاميلنا وقطع نياطِ قيثاراتنا… وكَمِّ أَفواهِ حضور أَسيادها بلجنٍ أَو بأُغنيةٍ، عُنوةً وتصلُّفًا!!!!!
نكايةً بكَ أَيُّها الـمُغيرُ الـمُغتَرُّ، سيمحقُكَ عُلماؤنا، ويخنقُكَ، قبلَ أن تخنُقَ بشريَّةً، جنودُ مُبدعينا! وقد انبروا لمناهضتكَ بكلِّ أَسلحة البقاء العصريَّة والمعهودة، مُلقنيكَ درسًا: بأنَّ الحياةَ تليقُ، بمقدِّسي ثالوث الحقِّ والخير والجمال.
مُذ أَوجد الخالق الإِنسان شاءَ له أن يتعرَّف الحياة، يكشف عوامضها، يستنبطَ سبُل عيشها بالنيِّرَين فيه:عقله وقلبه، زوّدَ العقل بالفكر والقلبَ بالإِيمان وأَطلق مخلوقَه في رحلة استكشاف العالم الذي وطئَ أَديمه وإنْ من غير إرادةٍ منه.
إنَّ الوسائل الحديثة التي استنبطها الإِنسان لتسهِّل عليه مَهمَّته في رحلة المعرفة، يجب أَن تبقى بالنِّسبةِ له وسيلةً تعينُه على تحقيق المرجو وليست بديلًا تجعله يستغني عن مُرتكزات وأَساسات تأكيد إِبداعيّته مُطلقةً العنان لحلمه حتَّى يجسِّده بقدراته الذِّهنيّة والنَّفسيّة ليبقى هو الـمُبدِع، ولا تأخذ الآلة مكانَه وتجِّرده من نعمة الإبتكار وأن يكون خلَّاقا كخالقه. أَلم يؤتِنا الخالق هبةَ مُشاركته في فعل الخلق؟ لِمَ نتخلّى عن هبته لآلةٍ اخترعناها بعلمنا وللخالق أن ينفي كلّ قدراتها وقدراتنا بقوة جبروته؟!! فالآلةُ تُسهِّلُ العمل وتُسرِّعُه بالإضافة إلى صحَّةِ إِنتاجها، كون تعبها بعيدٌ عما يماثل تعب الإِنسان…
ولكن، يبقى الأَهم والأَرقى: فشتَّان ما بين إِنتاجٍ ونتاج. فإن كانت الآلةُ تنتج، فالإنسان وحده، بما حباه الخالق من عطايا، فإنّه يُبدِع!!
فللأُولى برنامجٌ تسير عليه، لا تُخطئهُ ولا تصحَّح معايبَه أَم عيوبَه، أما للثَّاني فمُخيِّلةٌ وسِعةُ حُلمٍ يدعانَه يبتكر ما ليس موجودًا من قبلُ، ويصحِّح ما يكون قد أَخلفَ عن إِتمامه!!
لكلِّ ما سلف، أَجدُ نفسي مُرغمًا أن أَصيرَ بطريقةٍ إنتقائيَّةٍ، مع الشّاشة الزرقاء وما تقدِّمه. لكن، عليَّ أن أَكونَ نفسي من قبل أن أَصير واحدًا من مجتمعٍ يسعى خلف التَّعصرُن ونسيَ من هو!! فمهما درَّبنا الحجل فلن ينعبَ، ومهما سخونا على الغراب تلقينًا،فلن يطربَ كونٌ لكرَّاته أَم ينقل نقلته! فلنحفظ قديمَنا ولنستفد من الجديد بما يقدِّمه لخير تسيير شؤون عيشنا بكرامةٍ، من غير استرسالٍ ولا تقصيرٍ.
فبالطَّبع،إنَّ البياض المنتظِر حبرَنا المضيء، كلٌّ في مضماره، لن تخفيه الأَلوان مهما تعدَّدت وتشكَّلت، ذاك أَنَّه الأَساس المستقبِل والمستوعِب لشتَّى صنوف الأَفكار والعقائد وسانحات الـمُخيِّلة برسمٍ أَم بكلمة…
فالبياض، يبقى الحضن الأَرحب لإِبداع إِنسانيَّةٍ بأَسرها؛ ولن يُستعاض عن الورق بمعوِّضٍ أَفضل منه: فلن يسجِّلَ أَديبٌ أَمْ شاعرٌ كتابًا أَمْ ديوانًا البتَّة ليحفظ ذكراه؛ بل سيكتبه ومن ثَمَّ سيطبعه، إن شاء أن يكحل بطلَّة مولوده،أَعيُنَ شعوبٍ بأَسرها، وإن كان اللُّجوء إلى الأَقراص الـمُدمَجة ضربًا من فنون العصرنة المتفيِّش على صعيد الكاتب أَمِ الشَّاعر اللّذين سيكتبان النّص وينظمان القصيدة قبل أَيّ فنٍّ آخرٍ يستنبطانه أو يلجأان إليه.
منذ زمنٍ أَزل، من أَولى مهام الـمُبدع، أَن يتناول بتلاوين فكره برسمٍ أَم بكلمةٍ، قضايا مُجتمعه وهموم إِنسانه، إنْ شاءَ أن تُكتَبَ لنتاجه ديمومةُ الحياة واستمرار تداول مضمونه بين النَّاس، من جيلٍ إلى أَخيه.
فمهما تعدَّدت، تشعَّبت، واختلفت مرامي إِبداعات الـمُبدعينَ، يبقى فيها لكلِّ دارسٍ وباحثٍ ملاذًا للتّعرُّف إلى حضارة شعبه في حِقبةٍ من الحِقب، عهدٍ من العهود، أَمْ عصرٍ من العُصور…
ومن هنا، وفي هذا، تكمن مسؤوليّة كلّ من حمل قلمًا أَم ريشةً أم إِزميلًا أَم وترًا: فهو فيها جميعًا، أَأَديبًا، شاعرًا، فيلسوفًا، رسَّامًا، نحَّاتًا أو مغنِّيًا فموسيقيًّا كان، يبقى دائمًا رسول شعبه: مُدوِّن شؤونه، شجونه، انتصاراته والإِخفاقات والأَحلام…
فلا يجب على الـمُبدع، أَن يكونَ إِبداعه مُسطَّحًا ومن باب الهواية والمراء والفِتنة بواحدةٍ منها فحسب. بل يجب أن يكون إِبداعه بنَّاءً هادفًا، يرمي من خلاله تصوير الحاضر ورسم تصوُّرٍ للمُستقبل…
وفي الحالين:عليه حفظ الحقيقة النَّاصعة لكلّ باحثٍ ولكلِّ مُريد أو مُستزيدٍ من معرفةٍ حقَّةٍ لا لُبسَ فيها. فالـمُثَّقفُ الحقّ،يرصفُ من حجارة إِبداعه رؤى مُستقبل الإِنسانيَّة، الـمُنتظر أو الـمُشتهى!
أَيُّها الوباءُ القاتل، وإِنْ أَمكنكَ أن تُصيب من إَجسامنا مقتلًا. فإِنِّي على ثقةٍ أَنَّ الإِنسان سيبقى مارد حُلمه وإِشعاع روحه يقفان بكلّ الخير الكامن فيهما، بمواجهة الأنفُس الشِّريرة بالمرصاد، مانعيها من أن تكيدَ وتكيلَ لهم المصائبَ والويلات لطمعٍ، طُبِعَت عليه طبائعهم الأَمَّارة بالسُّوء؛ ولن يُفلحوا.
فالعلمُ والإيمانُ بنظري هما جوادَيّ المعرفة الأَكيدة للإنسان. العلمُ سراجه العقل، إما الإيمان فسراجه القلب. فهل يمكنُ للإنسان منَّا، أن يتداول شؤون أَيامه، إن أَسقط من حساب مشوار دربه شعاع أَحدهما؟
عنَّايا، في 29/12/2020