# كتب شاعر لبنان شوقي بزيع مقالة قيّمة حول التغيرات التي أدخلتها الحداثة على الشعر العربي ..
هنا النص :
بعد التغيرات الحاسمة التي أدخلتها الحداثة على بنية القصيدة العربية
هل فقدت مطالع القصائد فنتنتها السابقة ؟
لعلهم لا يبتعدون عن الحقيقة كثيراً أولئك الذين يعتبرون أن العثور على المدخل المناسب للقصيدة , هوالمفتاح الأهم الذي يتعذر من دونه الولوج الى متنها . لا بل يذهب أحد الشعراء الى الاعتراف بأن نصْف الجهد الذي يبذله في كتابة قصيدته , ينحصر في سطرها الأول , فيما تتوزع بقية السطور نصفه الآخر .
أما السبب في ذلك فيعود الى المخاض الصعب الذي يعيشه الشعراء أثناء الانتقال من مرحلة الايقاع المبهم والغمغمة اللغوية المشظاة , الى خانة الافصاح التعبيري الذي تتوقف على بيته الأول سائر الأبيات والمقاطع اللاحقة .
والحقيقة التي يعرفها الشعراء أكثر من سواهم , هي أن المرحلة الفاصلة بين التهويمات الضبابية الأولية للالهام , وبين تمظهر هذا الالهام في اللغة والصورة والايقاع , هي من أكثر مراحل الابداع الشعري صعوبة وتمنعاً ووقوعاً في دوامة الحيرة , قبل أن يرسو الشاعر على برٍّ مناسب للتأليف .
على أن المكانة الأبرز للمطالع هي تلك التي جسدتها على نحو خاص القصائد العربية الخليلية , حيث يمكن للأبيات أن تُقرأ بشكل مستقل وبمعزل عن السياق العام للنصوص , وحيث يكتسب المطلع قيمتين متلازمتين وبالغتي الأهمية . فهو يملك باعتباره الحجر الأساس في عمارة القصيدة , أو الجملة الموسيقية المفتاحية التي يقوم عليها اللحن , أن يحدد للأبيات التي تليه مساراتها الايقاعية ونبضها ومساحة توترها , كما يملك من جهة ثانية قدرة موازية على الاستقلالية والانفصال عما يليه .
وقد أدرك النقاد العرب الأقدمون , الأهمية البالغة التي تكتسبها المقدمات والمطالع في حث المستمع أو القارئ على متابعة الأجزاء الأخرى من القصيدة أو صرفه عنها, فذهب أبو هلال العسكري الى القول ” أحسِنوا معاشر الكتّاب الابتداءات , فإنهن دلائل البيان ” .
وأكد حازم القرطاجني على المعنى نفسه , مركزاً على أهمية الاستهلالات والمطالع باعتبارها ” الطليعة الدالة على ما بعدها , والمتنزلة من القصيدة منزلة الوجه والغرّة ” .
وقد يكفي في هذا السياق أن نستعرض مقدمات المعلقات السبع , وبمعزل عن المفاتيح النمطية للاستهلالات الموزعة بين البكاء على الأطلال , واستدعاء الأطياف الغاربة للنساء والأماكن , لندرك مدى الجهد المبذول في صياغة تلك المقدمات التي تحولت مع الزمن الى جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية , من مثل افتتاحية امرئ القيس ” قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ ” , وافتتاحية طرفة بن العبد ” لخولةَ أطلالٌ ببرقة ثهمدِ ” , ومثلهما افتتاحيتا عمرو بن كلثوم ” ألا هبّي بصحنك فاصبحينا “, وعنترة بن شداد ” هل غادر الشعراء من متردّمِ “.
تحول الشعر إلى سؤال وجودي
وما تجب ملاحظته هنا لا ينحصر فقط بالنبرة الرثائية الحزينة التي تسم تلك المقدمات , بل بتحول الشعر برمته الى سؤال وجودي ملحّ حول ماهيات الحياة والموت والحب وانزلاق الأماكن والأزمنة, فضلاً عن تميز عنترة , بطرحه في المطلع لاشكالية التجاوز والتكرار في عملية الابداع الشعري , وهو السؤال نفسه الذي أعاد بورخيس صياغته بعد قرون عدة , حين اعتبر أن لا جديد يُذكر تحت شمس الكتابة , وأن كل نص يكتبه المتأخرون قد تمّت كتابته من قبل , بشكل أو بآخر .
ورغم تبدل الظروف وطرائق العيش في العصرين الأموي والعباسي , حيث الشعراء بمعظمهم باتوا ملتحقين بالبلاطات الرسمية المختلفة , أو منخرطين في الحياة المدينية الجديدة التي فرضت على الشعر موضوعات وأساليب مغايرة لأساليب الأقدمين , فإن مطالع القصائد لم تفقد دورها التقليدي وجاذبيتها السابقة , لا بل اكتسبت بفعل تطور الأدوات والمفاهيم ,المزيد من التوهج والزخم والدلالة . وهو ما يمكن الاستدلال عليه بمطالع عديدة لأبي نواس , من مثل ” دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ ” , أو ” لا تبكِ ليلى ولا تطربْ الى هندِ ” , أو ” ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ ” .
ولن يكون أبو تمام بدوره بعيداً عن المطالع المماثلة التي تجمع بين قوة السبك وكثافة المعنى الحكَمي , من مثل ” لا أنت أنت ولا الديارُ ديارُ ” , أو ” إذا جاريتَ في خُلقٍ دنيئاً \ فأنت ومن تجاريه سواءُ “, فضلاً عن استهلاله الشهير في فتح عمورية . وإذا كان الأمر ينسحب على معظم الشعراء العباسيين كالبحتري وابن الرومي والمعري والشريف الرضي , فإن المتنبي كان أكثر الشعراء العرب اشتغالاً على مفتتحات قصائده التي بدت أشبه بمدخرات معرفية ثمينة مستخلصة من تجارب الشاعر القاسية , ومن تأملاته العميقة في أحوال النفس ومعنى الوجود الانساني , وهو ما أتاح لها أن تنحفر كالأوشام في ذاكرة العرب الجمعية .
وإذا لم يكن بالمستطاع تعداد هذه المطالع , فيمكننا الاشارة الى بعضها على الأقل , من مثل ” لكِ يا منازل في القلوب منازلُ ” , أو ” كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا ” , أو ” أطاعن خيلاً من فوارسها الدهرُ ” , أو ” على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ ” , أو ” لكلّ امرئ من دهره ما تعوّدا ” , وكثير غيرها .
ولم يكن الأمر ليختلف كثيراُ في العصور المتأخرة , حيث كان عدد غير قليل من الكلاسيكيين الجدد يعمل على إحياء التقاليد الفنية العريقة للقصيدة الخليلية ويحاول ما أمكن أن يعيد الى تلك القصيدة بعض وهجها القديم , قبل أن تدفع رياح الحداثة العاتية بذلك الوهج الى الخفوت النسبي . لا بل إن التعويل على مفتتحات القصائد العمودية قد تضاعفت وتيرته في القرن المنصرم , حيث عملت التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى , ومعها الحركات القومية والاستقلالية , الى إحياء الدور القديم للشعر , وإيلائه بالتالي مهمة التحريض والتحشيد الدعائي .
وهو ما سنجد تمثلاته الأبرز عند البارودي وشوقي والزهاوي والرصافي وبدوي الجبل وسليمان العيسى , كما عند الجواهري الذي بدت بعض مطالعه أقرب الى المشهديات الملحمية منها الى أي شيء آخر , كقوله في قصيدة عن تونس :
رِدي يا خيول الله منهلكِ العذبا ويا شرقُ عدْ للغرب واقتحم الغربا
ويا شرق هل سرّ الطواغيت أنها فُويقك أشلاءٌ مبعثرةٌ إرْبا
كذلك سينعكس هذا النفس الملحمي عند الأخطل الصغير , وبخاصة في رثائيته الشهيرة لأحمد شوقي , التي يستهلها بالقول :
قف في ربى الخلْد واهتفْ باسم شاعرهِ / فسدرةُ المنتهى أدنى منابرهِ
وامسحْ جبينك بالركن الذي انبلجتْ / أشعةُ الوحي شعراً من منائرهِ
إلهةُ الشعر قامت عن ميامنهِ / وربّة النثر قامت عن مياسرهِ
كما أن الحديث عن المطالع اللافتة لشعراء الأوزان الخليلية المعاصرين , لا يستقيم بأي وجه دون التطرق الى تجربة سعيد عقل , بصفته أحد أمهر المشتغلين على الهندسة الجمالية للشعرية العربية .
ومن البديهي في هذه الحالة أن يحول صاحب ” كما الأعمدة ” مطالع قصائده الى ما يشبه الاحتفاء الكرنفالي بلغة الضاد , والذي يجمع بين الأنا المتعالية والبلاغة المْحكمة والجرس الايقاعي التطريبي . وهو ما نلحظه في العديد من المطالع , ومن بينها قصيدته التكريمية للكاتب الروسي شولوخوف , التي يستهلها بالقول :
ولدتُ سرسري ضفة النهر , فالنهرُ / تآخى وعمري مثلما الوردُ والشهرُ
وكان أبي كالموج يهدرُ , مرةً / يدحرِجُ من صخرٍ , وآناً هو الصخرُ
وقد علّماني الحقّ , ما الحقّ ؟ دُفْعةٌ / كما السيلُ عنه انشقّ واخضوْضر القفرُ
سيكون من الطبيعي في هذه الحالة أن يتحدث بعض المتعصبين للتقاليد الشعرية الموروثة , وفي معرض انتقادهم اللاذع لمغامرة الحداثة الشعرية ,عن افتقار هذه الأخيرة الى ذلك الرنين الافتتاحي الباذخ للمطالع الشعرية الكلاسيكية . وإذا كانت هذه الملاحظة غير بعيدة عن الصحة , فليس لأن الحداثة لا تولي مطالعها ومفتتحاتها أية عناية تذكر , بل لأن مفاهيم الكتابة الشعرية نفسها قد تبدلت , بحيث بات يُنظر الى القصيدة كبنية تعبيرية وجمالية متكاملة , لا كوحدات وأجزاء لا تجمعها سوى وحدة الوزن والقافية , كما كان الحال في معظم القصائد الخليلية .
هكذا لم يعد المطلع يختزل القصيدة أو يشكل عنواناً لها . كما أن ضرب مفهوم البيت التقليدي لم يعد يسمح للسطر الأول بأن يشكل وحدة مستقلة عما يليه من السطور , بل بات متصلاً بغيره اتصالاً وثيقاً , وفق مقتضيات المعنى والدلالة والسياق النصي .
ومع ذلك فإن من العسف ومجانبة الحقيقة أن نتحدث عن أفول المطالع وضمورها التام في الشعر العربي الحديث , وبخاصة في جانبه المتعلق بقصيدة الشعر الحر . ذلك أن حفاظ هذه القصيدة على البنية الايقاعية الأساسية للشعر العربي , مع هامش واسع من المناورة والتنوع , أتاح لبعض مطالعها غير الخاضعة للتدوير , أن ترسخ في أذهان القراء وتتحول كالمطالع القديمة الى ما يشبه الأيقونات الجمالية , أو الأمثال السائرة . وهو ما ينطبق على العديد من مفتتحات القصائد الحديثة , مثل ” أنشودة المطر ” لبدر شاكر السياب التي يندر أن تغيب عن بال أحد من قراء الشعر ومحبيه , ومطلعها :
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعة السحَرْ
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
عيناكِ حين تبسمان تورقُ الكرومْ
وترقص الأضواءُ , كالأقمار في نهَرْ
أما في قصيدة النثر فقد كاد هذا النوع من المطالع يتراجع بشكل مطرد الى حد الضمور التام . فإذا كانت البنية الفنية والايقاعية لبعض قصائد الشعر الحر , تتقاطع الى هذا الحد أو ذاك مع الأنساق المتوارثة للشعرية العربية , مفسحة في المجال لنوعٍ من المطالع الاستهلالية قابلٍ للرسوخ في ذاكرة القارئ , من مثل ” سجل أنا عربي ” لمحمود درويش ” , و ” لا تصالح ولو ألبسوك الذهب ” لأمل دنقل , فإن الأمر يختلف تماماً مع قصيدة النثر , التي تنهض فوق أرض مغايرة على مستوى الترابط والتكثيف وخفوت الصوت والانكباب على المنسيات .
ولعل أطرف المواقف وأكثرها حراجةً بالنسبة لشعراء الحداثة , هو ما يحدث حين ينبري أحدهم , للطلب منه عن براءة أو خبث , أن يسمعه مطلع إحدى القصائد التي فرغ للتو من كتابتها . إذ كيف للشاعر أن يتخلص من ورطته تلك , وهو يعلم أن لا مجال للفصل بين أجزاء قصيدته , بل هناك نص متسق وغير قابل للتجزئة. وقد يكون الوضع أكثر صعوبة بالنسبة له, إذا كانت قصيدته مؤلفةً من سطر واحد, هو ذاته المطلع والمتن والخاتمة !
.