..نشرت صحيفة ” البناء ” اللبنانية اليوم , مقالة قيّمة للناقدة والأديبة التونسية فتحية دبش حول القصة الوجيزة في الأدب الوجيز , وتضمنت قراءة في نماذج مختارة من كتابات الروائي السعودي حسن بطران والكاتب اللبناني الدكتور محمد إقبال حرب ..
هنا النص الكامل للقراءة التي كانت الأديبة دبش قد قرأت جزءا منها في أمسية نظمها ملتقى الأدب الوجيز في بيروت الاسبوع الماضي على قناة ” زوم ” وشارك فيها عدد كبير من المهتمين بالقصة الوجيزة :
القصّة الوجيزة هي من أكثر الأنواع الأدبيّة فتنة ومخاتلة ومراوغة وعسرًا. عسر الإنتاج وعسر التّلقي. إذ هي لا تبدأ من فراغ كما لا تنتهي عليه. فهي تتوالد إلى ما لا نهاية وتمثّل فكرة الإرجاء بامتياز. السّر وراء ذلك هو حجمها الوجيز الذي لا يتعلق بتاتاً بالقصر وإن كان سمة وخاصية وركنًا، لكنّه يتعلّق بخاصّة بالإيجاز كما جاء في المعاجم: «البلاغة في الإيجاز». بالمنطق الذي يحكم القول من ضيق العبارة واتساع المعنى ومن تعالق العبارة بالعبارة فضاءات وفراغات تدعو القارئ إليها عبر استراتيجيات الإيجاز، وهو ما سنحاول الوقوف عليه من خلال باقة مختارة من القصص الوجيزة للقاصَّين حسن البطران ومحمد إقبال حرب.
حين ننظر إلى مجموعة النصوص التي قدّمها القاصّان نلاحظ تنوّع هذه المواضيع والتصاقها بالوعي الجمعيّ وبالتّصورات السّياقيّة المنتجة لها، ولكنّنا نلاحظ التّنوع في استراتيجيات الكشف والحجب رغم اختلاف كلّ من الكاتبين في عملية الصّياغة للقصّة الوجيزة.
ففي نص الأستاذ حسن البطران الموسوم استحمام فوق عتبة نلاحظ المخاتلة التي اعتمدت على استدعاء الرمز، وكذا على استدعاء الأنساق الثّقافيّة المهيمنة، كما على ثنائية البطل والبطل المضاد. فظاهر النّص ليس إلّا خدعة النّص ذاتها لقول الباطن الذي يقع على النّقيض تماماً لما هو ظاهر. وهذا الوقوع في الصّدام بين الباطن والظاهر هو ما يوقع القصّة الوجيزة غالبًا في قفص الاتهام بالتّلغيز والأحجية. ففي العنوان يستدعي الكاتب رمزيّة الطّهر الاستحمام ولكنه سرعان ما يرفقها بمانع لا يبدو كذلك لفظًا. وهي حالة من المراوغة تقول شيئاً في حين تقصد خلافه. فـالاستحمام فوق عتبة يبدو لغويًّا مندرجًا ضمن وظيفة الكلام في تفضيء الفعل، حيث يهمش الزّمن ويقدَّم المكان. غير أنّ المتن برموزه الكثيرة وبخاصة محمول التّفاحة والقضم والفراولة تنزاح بالتفضيء نحو العكس تماماً. فليس المكان بالمقصود الأوّل وإنّما هو استمرارية ثنائية الطّهر والدّنس عبر فعل الأكل أو القضم بإضافة معنى حسيّ للفعل.
ونلاحظ أنّ الدكتور محمد إقبال حرب استخدم التّفاحة أيضاً في وجيزته المعنونة بـ»تخمة»، ولكنّه ينزاح بها عن الاستخدام الذي قدّمه البطران، وإن كان الأصل في الرّمز واحد. فرمزية التفاحة /الخطيئة في هذا النّص تلغي ما سبقها من الدّنس الأكبر لتصبح خطيئة صغرى أمام ما يرتكب اليوم من خطايا. فقد تحوّلت التفاحة من مفرد إلى جمع متنوّع أنواع التفاح. ونلاحظ هنا ذكاء القصّة الوجيزة في استدعاء الرّمز وتجاوزه في آن.
يعتمد حرب في قصصه الوجيزة على غرار نص «سكون» على تعالق الثنائيّات المتضادة كالصّوت والصّمت. فقد قام بتحشيد النّص بالأفعال الماضية للدّلالة على الرّكون والسّكون والتّوقف عن الحركة، ثم بفعل واحد في المضارع يصفق ينسف كلّ ذلك فيتحوّل الصّمت إلى موت والسّكون إلى حالة غياب. والمخاتلة هنا تكمن في تركيز الكاتب على جملة من الأفعال لتسريد الحالة ولكن هذه الأفعال وإن تعدّدت واستدعت اهتمام القارئ إليها لأنّها بدت مركزيّة إلا أنّ المركزيّة الحقيقيّة لا تكمن فيها، بل في فعل يصفق لما فيه من عنف وتحوّل مفاجئ يسلّط الضّوء لا على الماضي وإنّما على الحاضر والغد المليئين بالسّؤال. وهذا السّؤال ليس سؤال الموت الواقع، وإنما هو سؤال الحياة التي انقلب سكونها الى ضجيج وضجيجها الى صمت وموت، حتى ليصبح الحياة والموت حالة لا فقط وجوديّة وفلسفيّة إنما حالة واقعيّة أقرب إلى العادي منها إلى الخارق. واستراتيجيّة التّحويل هذه نجدها بشكل مماثل تقريبًا في نص «الحبل السريّ» لحسن البطران حيث يصبح الحبّ وهو الحياة وحبلها السّريّ موتاً، ويبقى أيضاً حبلها السّريّ. وبذلك يتجاوز الحبل السّريّ مهمته في الحفاظ على الحياة قبل الولادة إلى مهمّة جديدة في التّذكير بأنّ الحبّ في بعض الثّقافات مَهْلكة.
أما في نص جنّة ونار فقد توخى حرب إزدواجيّة الزّمان والمكان، حيث الزّمن جيلان جيل الأمّ وجيل الابن، والمكان مكانان الجنة والنار. غير أنّه احتفظ للزمان بسيرورته فكان الابن أكثر التصاقًا بتحوّلات الحياة وتغيرها وما تستدعيه من تحوّل في المفاهيم، لكن المكان يصبح حاملًا بوادر نسفه في ذاته. فالجنة التي تريدها الأمّ قائمة على النّقاب بينما تلك التي يريدها الابن تنهض على كينونة الإنسان وخياراته، والنار التي تهرب الأم منها ما هي إلا بيتها، حيث لا كينونة لها ولا وجود.
في ختام هذه الورقة الوجيزة حول استراتيجيات المخاتلة في القصّة الوجيزة نلاحظ أنّها شأنها شأن أنواع الكتابة القصصيّة الأخرى تعبر عن اليوميّ والملموس كما تعبّر عن المجرّد والفلسفيّ والفنيّ ولكنّها تسلك إلى ذلك طرقًا مغايرة بحكم ماهيتها الوجيزة والقصيرة، وبحكم ارتكازها أولاً وبالأساس إلى استدعاء المتلقي إلى تخومها، وكأنّ الشّكل القصير جدًا والمبنى الوجيز ليس إلا دعوة إلى القراءة والتأويل وهو ما يجعلها نصًّا لا نهائي القراءة. وإنّ الكلام عن المراوغة والكشف في القصّة الوجيزة يقتضي بالضّرورة الحديث عن القارئ الذي يتعاطى القصّة الوجيزة وعن ممكنات القراءة لديه. وإذا كان الرّأي غالبًا يذهب إلى القارئ العجول، فإنّ الرّأي الأسلم بنظري يحيط بالقارئ المتفكر. فالإيجاز بما هو ضيق اللفظ واتساع العبارة لا يتعلّق بما يريد الكاتب قوله بالضّبط وانّما يتعلّق بما يصل إليه القارئ استنادًا إلى مرجعيّاته من دون أن يقحمها على النص، بل انطلاقًا من النّص وبالعودة إليه.
النصوص المختارة للأستاذ محمد إقبال حرب
1 –سكون
عطس، حمدل، ومسح عينيه. سمع الباب يصفق واختفت أصوات الحاضرين.
2 –تخمة
لم يزل يكتب حكاية الذي طرد من الجنة لقضمه تفاحة. ولم يكتب حرفاً عن الذين يتخمون بأنواع التفاح والخطايا.
3 –جنّة ونار
قال لها طبيب العيون يجب أن تخلعي البرقع كي أقوم بهذا الكشف قبل العملية.
رفضت خلع النقاب رفضاً قاطعاً. نظر الطّبيب إلى ابنها مستنجدًا، حثّها ابنها على خلع النقاب فقالت: أتريدني أن أذهب إلى النّار. فردّ ابنها: وهل أنت من أهل الجنة؟
النصوص المختارة للأستاذ حسن البطران
1 –استحمام فوق عتبة
أجبرته على الاستحمام،
رفض إلا بعد قضم التفاحة، قدّمتها له في صحن، أكلها وطلب فراولة.
لا تملك فاكهة الفراولة، استبدلتها بجحة صفراء، تذكّر صاحبة الفستان الأصفر والعتبات النّافرة، أكل الجحة وقشرتها من دون أن يشعر..!!
2 –حبل سريّ
سمعت عنه،
جرت خلفه..
قربت منه توقفت الحياة..!
3 –لبس الحذاء معكوساً
انتظر كيف ينحر الجمل وإراقة دمه،
هرب الجمل
وأمر بإحضار قط…
ذبح القط..!
جميعهم صفقوا اعتبروها سنّة لم تحمل المرأة، كرروا صبغ التراب بالدم..!