المفارقة بين الصّدم والإدهاش
ينبني النصّ الشّعريّ بقصد تحقيق المفارقة. هذا القصد على بيانه القطعيّ، وجزمه الرّيبيّ، بات، في خلدِنا، في حكم البداهة، لا لشيء إلّا لأنّنا نروم المفارقة في أبعادها القصيّة، وتجليّاتها الحدسيّة – التّفكريّة.
بيد أنّ مناط الخَلْط يبرز في ما أجرؤ على تسميته بالتّحوير المفهوميّ، وأعني، تحديدًا، الخلط بين قدرة المفارقة على الصّدم، وقدرتها على الإدهاش.
الحقّ أنّي لن أعرج إلى باب اللّحمة المنطقيّة، ودور اللبنات العقليّة في تكوين نصّ شعريّ متماسك، ذلك بأنّي سأفُرِد مقالًا منفصلًا أتناول فيه هذا الجانب. لذا سأكتفي برصد التّفرقة التي أراها بيّنة وضروريّة بين الصّدم والإدهاش.
الواقع أنّنا إذا استعرضنا السّياقات التي يُستخدم فيها فعل صدمَ، لألفيناها كما يلي:
صدَمَ يَصدِم ، صَدْمًا ، فهو صادِم ، والمفعول مَصْدوم. صدَم الشَّخصَ/ صدَم الشَّيءَ: ضربه ودفعه. صَدَمَ الشَّرَّ بِالشَّرِّ : دَفَعَهُ، صَكَّهُ. صدَمه بالقول: أَسْكَته. صدمَه أمرٌ: أصابه ونزل به فجأة فأثَّر في نفسه. صَدَمَتْهُ الْحَقِيقَةُ : فَزَعَتْهُ، فَجَأَتْهُ. (قاموس المعاني).
بهذا المعنى، نجد أن تأثيرات فعل الصّدم، هي في جلِّها، تأثيرات سلبيّة. قل كذلك عن تقنيات الصّدم في كثير من القصائد التي تطالعنا.
حقيقة الأمر أنّ الصّدم يعمل وفق الآليّة نفسها التي يعمل الإدهاش بمقتضاها، أي التّركيز التامّ على عنصر القفلة في المقطع الشّعريّ. بيد أنّ الصّدم حالة سلبيّة، تحريك مجانيّ للمشاعر، تسطيح لعلاقات الأشياء، تحوير غير مسوَّغ للعناصر، والحقائق الكونيّة، والظّهورات العاطفيّة، والحضور الذهنيّ، والتّفتيق الخياليّ. الصّدم تحريك مستكين، وتفعيل معطوب، لآليات الرّصد المكين، والفكر الرّصين.
كي لا نبقى في إطار التّجريد، لنضرب أمثلة خطّها الشّاعر نزار قبّاني، مع العلم أنّه لا يُجسِّد وحده تقنيات الصّدم التسطيحيّة، بل يشترك مع شعراء آخرين في تسطيح الوعي، وتقليص فعاليّة التّخيّل والترقّب:
“حتّى حبوب النّوم تعوّدت مثلي على الصّحو فلا تنام”
“حين أحبّكِ تكفّ الأرض عن الدّوران”
بوسع القارئ أن يغرف ما يشاء من الأمثلة المشابهة على امتداد دوواين شاعرنا المذكور، وشعراء آخرين. لكنّنا سنكتفي بإيراد هذين المثالين من أجل تبيان غرضنا من الصّدم. إذا أنعمنا النّظر في الجملة الأولى، لألفينا، على الفور، لعبة لغويّة رام شاعرنا من خلالها خلق حالة صداميّة في داخلنا، ونعني قلب الأدوار: إذا كانت حبوب النّوم معدّة لتنويم الأشخاص غير القادرين على النّوم، فإنّ معاناة الشّاعر جعلت الحبوب نفسها تفتقد ماهيّتها، أي قدرتها على إحداث الفعل التّنويمي. بيد أنّ الخطأ المفهوميّ يكمن هنا في كون الحبوب المذكورة لا تحدث الفعل لذاتها بقدر ما تحدثه للآخر، وعليه، فإنّ تأثيرها الغيريّ في ارتداده إلى ذاتها لا يعني كسر نمطيّة العلاقة بما يُشكّل ماهيّة المفارقة. أضف إلى ذلك أنّ المفارقة التي تهدف إلى خلق أنماط علاقات جديدة تتمتّع بشيء من المصداقيّة والاستشرافيّة واللاتوقّع المقرون بالإمكان، لا تتوفّر شروطها ها هنا، ولا في السّطر الآخر. إذ أيّ مفارقة في اقتران فعل الحبّ بتوقّف الأرض عن الدوران؟ هل تقتضي ضرورة الحديث عن توقّف الزّمن، والشعور الكليّ بحضور الحبيبة وحدها أن يتمّ تطويع القوانين الكونيّة لخدمة الأهداف الذاتيّة؟ حقيقة الأمر أنّ العكس هو الصّحيح، أي كيفيّة تطويع الملكات الإدراكيّة والخياليّة والتفكريّة الأنسيّة في خدمة الكشف عمّا استتر، وفضح ما احتجب من التجليّات الكونيّة، وانحجاباتها.
على المقلب الآخر، يتجلى الإدهاش بوصفه نتاجًا لمفارقة قادرة على إحداث قطيعة مع تراث طويل من التوقعات المبنيّة على الحضور الفاعل لقوانين نفسيّة وطبيعيّة، وحتميّات ظنيّة، وافتراع سبل كشف جديد عن مناطق مجهولة يمكن أن تستبدل حتميات جديدة بأخرى قائمة، وهكذا دواليك.
يحضرني في هذا السّياق قول أدونيس:
“عندما أسلمتُ نفسي لنفسي
وساءلتُ ما الفرق بيني وبين الخراب
عشت أجمل ما عاشه شاعر:
لاجواب”.
إنّها المفارقة في أبهى حللها، والإدهاش الذي يتجلّى في أرقى تجلياته. هنا نعثر، بوضوح، على قلب للمفاهيم التقليدية، قلب صارخ لنزعة الفهم المقرونة بالإجابة. أدونيس يقرع بابًا آخر للفهم الإنساني، ويُفرغ، على طريقة غبريال مارسيل، هشاشة الوجود القائمة على أولويّة إيجاد أجوبة نهائيّة ودامغة، ويحلّ محلّها منظورًا مختلفًا يروم الكشف عن بنية السّؤال نفسه، وحتميّة التوالد التسآلي في جمالية البوح المعقود على استحالة الكشف النهائي، وتركّز جماليّة الكشف الوجودي في الإمساك بتلابيب السؤال والإيغال في مساءلة السؤال نفسه.
بإمكاننا أن نورد أمثلة كثيرة برع فيها شعراء آخرون كالماغوط، ودرويش، وغيرهما، لكنّ سياق البحث يقتضي المقاربة لا الرّسوف.
وعليه، ينبغي لنا السّعي إلى تناول التّجربة الشّعرية تناولًا صادقًا وشفّافًا، أي السّعي إلى إيلاء التجربة الشعوريّة، والمكابدة العاطفية، والنزعة الوجودية، بعدًا جديًّا ذا غاية التزاميّة تكمن في تفتيق المحجوبات، وتأويل الظاهرات.
بوجيز العبارة، الإدهاش كنتاج منطقيّ للمفارقة، هو تقنية تحفيزيّة، غير مجانيّة، تتيح شحذ العقول، وتعبئة الخيال، وكسر التوقع غير المقرون بهشاشة اللهو اللفظي، والألاعيب المعنويّة الفارغة.
ربّما سأل سائل: أين الومضة من كلّ هذا؟
الإجابة ببساطة شديدة: الومضة هي المعادل الشّعريّ للمفارقة في أبهى تجلياتها الوجزيّة والتكثيفيّة، كما أنّها تمثّل السعي الحثيث إلى تكريس الإدهاش المقرون بالعمل التفكريّ، والخياليّ، والفلسفيّ، والوجوديّ، والإنسانيّ، بعيدًا من التّسطيح، وبعيدًا من إفساد الذائقة الشّعرية التي تنساق رويدًا رويدًا وراء الصراخ المنبريّ، والمجاملات الزائفة.
# بقلم : د. باسل بديع الزين/ ملتقى الأدب الوجيز
( تنشر المقالة بالتزامن مع جريدة البناء في بيروت )