كتاب الحب
(قراءة في قصة “وقلت أحبك”للأديب جميل ميلاد الدويهي)
إني أحبّكَ هكذا، متوتّراً، متحرّراً، وأمامَك الأسوارُ… هذا العيدُ عيدُك… فابتدئْ بالرقصِ…
وادعُ الجائعينَ إلى الغَداءْ
وامسحْ بثوبكَ ما نزفتَ من الدِّماءْ!
زغردْ هنا
فجميعُ ما عمّرتَه يبقَى هنا
ومدينةُ الموتى
سيأخذُها الهواءْ.
جميل الدويهي (وقلت: أحبّكِ – 2002)

وقلت أحبك..عنوان قصة، كتاب، حياة. إنها حياة الأديب الدكتور جميل الدويهي.
بين القصة/ الإبداع والحياة المعتقة بالإيمان رسالة تبدأ بها الكلمة، ولا ينهيها العمر وإشراق الآهات.
إني أحبك هكذا…وتأكيد الحب لا يحتاج إلى برهان. إن سكت الكاتب تنطق الحجارة.
كيف يولد الحب، في النفس الأبية المتخمة بالعطاء؟
أليس الحب عطاء الذات، وبذلها بلا حدود، أو سدود؟
أليس الحب، في مفهوم الدويهي، توترا، وتحررا، بحثا عن جلجلة تسكر فيها أمواج القلب، وتيارات المشاعر؟
من هو المقصود بالحب، السجين في قلعة التوتر، أمام أسوار تقف حاجزا بينه وبين الانطلاق؟
وأين موقع الأديب من الأسوار، داخل المدينة الفاضلة أم خارجها؟
أتكون الأسوار عقبة أمام الحب، أم حماية للحبيب، من هجمات الأشرار والغزاة؟
أسئلة تبحث عن عمقها، في مواجهة مفتوحة بين الأنا/الفداء والأنانية الخرقاء.
أن نحب الآخر، كما هو، سر الحب، وجذوته التي لا تطفئها رياح اللامبالاة.
أن نحب الآخر، بلا شروط، منبع الحب، بل عيده اللامتناهي، في مسيرة الحياة.
من هو هذا الأنت؟ وكيف يصبح هو العيد والفرح الأكيد، في رحلة الأمنيات؟
هذا العيد عيدك، بل عيد الحب، فلترقص الهنيهات، وليبدأ العرس الحقيقي، عرس المدى المفتوح، على مروحة واسعة من الاحتمالات.
هي الوليمة السماوية يدعو إليها الأديب، في فيض من المشاعر يسكنها الجنون الحنون. وليمة يدعو إليها الجياع، وأي جياع؟
إنه الجوع إلى الحب، والفرح. جوع تنزفه الدماء على صليب الفداء.
والثوب؟ رمز ملوكية تمسح نزف القلب وجرح الحرمان. فهل يكون الثوب رداء المعلق على صليب الآلام؟
والدماء؟ رسالة السماء إلى الإنسان، في صراع بروميثيوسي لا ينتهي. تنزف من كبده المدمى بالشوق إلى تحدي سلطة القدر، في سبيل الإنسان.
هو العطاء بفرح، يدعو إليه الدويهي. عطاء يشبع الجارٰين في الإنسان: نفسه والجسد، على الرغم من النزيف الداخلي، نزيف قد يكون توجعًا على حال الشريك، في مأساة الوجود.
زغرد هنا. لأن كل شيء ما خلا الله باطل، على حد قول الشاعر الجاهلي، لبيد بن ربيعة. وكل ما تبنيه يبقى على هذه الأرض الفانية.
في فلسفة الدويهي مدينتان. إحداهما مدينة الموتى. مدينة تحيلنا إلى رواية الأدبب المصري حسن الجندي، تدور أحداثها حول مخطوط الرحالة أحمد بن اسحق، يصف فيه مدينة ضربها وباء قضى على أهلها جميعا. إنها عالم ال”هنا” الفاني، بمحدوديته وسرابيته والهباء. والرحالة ابن اسحق تجسيد للأديب الدويهي نفسه، وقد أدرك أن رحلته، في المكان والزمان، ليست إلا غرقا في غربة قاتلة. فكل ما يبنيه هنا، في الغربة، قصور مبنية على رمال. والعودة إلى هناك، إلى الوطن، إلى دار السعادة الخالدة، هي كامل الرجاء.
وهكذا تظهر المدينة الثانية، مدينة ال”هناك” غير المعلنة، الفردوس الحقيقي. وقد نفهم بهذا الفردوس الوطن الغالي، لبنان، الجنة المشتهاة.
مدينة الموتى هي مدينة الولادة/الموت، مدينة أبي العتاهية، حيث يقول:
لِدوا لِلمَوتِ وَاِبنوا لِلخَرابِ فَكُلُّكُمُ يَصيرُ إِلى ذَهابِ
لِمَن نَبني وَنَحنُ إِلى تُرابٍ نَصيرُ كَما خُلِقنا مِن تُرابِ
أما مدينة الأحياء فهي مدينة المحبة والعطاء والفداء. ،مدينة مثالية تجسد حُلم الفلاسفة، وتعلن إزِالة الشَّر وتعميمِ الخَير الأسْمى.
مدينة الموتى هباء، يزيلها الهواء؛ لأنها ليست مبنية على أسس الحب والعطاء. أما المدينة الخالدة فهي مدينة السماء.
جميل الدويهي، أيها الفيلسوف التائه بين غربتك والوطن، بين أرض الشقاء والفردوس الذي طردت منه بفعل ذنب الآباء. اسمح لنا أن نخالفك الرأي، هذه المرة. فما عمَرته “هنا”، أي هناك، ( وال هنا أو ال هناك نسبيان، بحسب إينشتاين) من إرث فكري سيبقى خالدا ، مدى الأجيال. والمحبة التي يزخر بها قلبك وأدبك والعطاء هي الهواء/الإوكسيجين الذي يتنفسه أصدقاؤك والقراء وحيث المحبة/ العطاء/الفداء لا موت، ولا غربة، أو هباء، بل حياة، وسعادة، وسماء.
# بقلم ; د. جوزاف ياغي الجميل
