..كتبت الشاعرة لوركا سبيتي حكاية مؤثرة من النمط السردي تستأهل النشر والتوثيق ..وهنا الحكاية :
#جدتي
هذا وقد كانت خديجة امرأة ممشوقة القامة بكتفين عريضين وعنق طويل ،ملامح وجهها خاصة جدا لا تلقاها في وجوه أخرى..بشرة بيضاء تبرز زهرية عند اعلى الوجنتين.. شفتان رقيقتان.. أنف أقلم وعينان بلون البن.. رائحتها تشبه الربيع بوروده جميعها وحين ترتدي عباءتها المطرزة تبدو كأنها ضيفة من مملكة ما تزور القرية.. ولكنها كانت من السكان الأصليين الذين سكنوا وانتموا الي هذه الأرض الصغيرة.. شيء ما فيها كان يميزها عن جيرانها.. شيء يشبه شجرة عالية او حافة عالية او فلنقل غرورا محببا.. فكانت حين تريد أن ترد ب “لا” وكي تؤكد بشكل قاطع رفضها، تقول جملتها الشهيرة:أنا بنت الأرزوني، ام أكرم، وتكمل ما تريد أن ترفضه… كأن على السامع ان يقبل بهذه الحِجة وان يتخيل هذا الأرزوني رجلا ساحرا قويا او ربما شيخا وجيها! .. وقد يكون ابو علي الذي سبق واخبرتكم بأنه حين توفي عن عمر المئة عام وجدوا في خزانته، المليئة ببدلات واحذية وقمصان بألوان واقمشة مختلفة، علبا معدنية مليئة باللوز والجوز والصنوبر والزبيب، قد يكون رجلا ليس عاديا… وانا اتذكره جيدا وقد كنت طفلة أزور بيت جدي لأمي، لأسلم على جدتي ام علي او كما كنا نسميها “الأرزونية”.. وكي اشتري خس افرنجي من خسات الحديقة التي كان يعتني فيها الأرزوني جيدا..ام علي الختيارة الجميلة بحدقتين قزحيتين وثغر مبتسم دائما برغم كل ما مرّ.. لقد كانت الحياة فعلا قاسية.. او ربما كانت الأيام حينها صعبة على الجميع.. تجاعيدها تخبر قصصا كثيرة وكذا هي.. فقد كانت كتابا مفتوحا تستطيع أن تفلفش أوراقه وتقرأ ما تريد ساعة تشاء، وربما ورثتُ هذه الصفة عنها، فالجدات يسكن عتبات الروح، كلهن، منذ حواء والى آخر جدّة..
ام علي لم تنجب “عليا”.. ولا غيره.. بل أنجبت تسع بنات تفتحن كما الزهرات في منتصف الربيع.. رحمة،خديجة،عزيزة، ام حسين، أمينة، زينب، مريم، زهرة، نعمات.. ولم تنجب صبيا واحدا..ربما حملت به واجهضته وربما ولد ومات كما كنت اسمع وشوشات النساء وانا صغيرة، سمعتُهن مرة يقلن”عندا قرينة بتقتل الصبي”!! وحين سألت امي عن ما معنى قرينة..كان جوابها عبارة عن توبيخ ووعد بأني لو تدخلت مرة أخرى بموضوع اكبر من عمري، ستعاقبني بالضرب.. ومن وقتها لا أعرف ما معنى قرينة، واتدخل بكل شيء واعتبر ان كل ما أراه واسمعه يعنيني! المهم وكي لا استطرد كثيرا، كبرت الفتيات وكان لكل واحدة منهن قصة تُروى.. ولكن قصتنا اليوم عن خديجة، ام أكرم، جدتي!
لقد ورثتُ عنها قامتها الوارفة وطلتها الجذابة،وايضا قلقها المرضي وسرعتها المرضية ايضا في إتمام أعمالها..جدتي وحتى اخر عمرها ظلت تطبخ ما لذ وطاب، اكل صعب بالعادة ويتطلب جهدا ووقتا تراها قد اطفأت النار تحته في الصباح الباكر.. لقد كانت تستيقظ باكرا جدا وهذا كما نعرف من عادة كبار العمر، ولكن هذا كان عادتها طيلة عمرها، فالوقت عندها لا يتسع وعليها ان تستغل كل لحظة فيه وان تكمشه من اوله.. حركتها السريعة تدوخك..فتسأل نفسك هل انت بطيء ام المرأة لديها فرط حركة، ولكن قبل أن تلقى الجواب، تكون قد قدمت لك فنجان قهوة بلون عينيها وبرائحة كفين تحملاّ الكثير الكثير..
أحبت خديجة محمد جارها الشاب الجميل والأنيق الذي شبّهته حين أخبرت صديقتها عنه، بعمر الشريف، أحبته كثيرا ورفضت كل العرسان الذين تقدموا لخطبتها من أجله.. قال لها والدها:ما عنا بنات تحب…ومنعها من الذهاب إلى المدرسة كي لا تتعلم كيف تكتب رسالة لحبيبها.. .ولكنها أصرت على حبه وذهبت فيه إلى أقصى مطارح في دواخلها ..لم يكن شابا عاديا ولا تقليديا ولا تابعا ولا مقلدا ولا خاضعا.. لم يقبل ان يحده حد ولا حتى نفوذ والده ومكانته الإجتماعية في القرية.. الحاج علي أحمد.. المتدين جدا و الكبير الشأن. وواحد من اهم وجهاء الضيعة والقرى المجاورة والذي عمل أولاده بالشأن الديني فكان كل واحد منهم ذو مقام بالنسبة لأهل القرية.. الا محمد، أصغر إخوته، الذي احب خديجة واحبته.. خرج من السرب ومضى وحيدا إلى حيث وجد فرحه..فقد عمل مع قوات الطوارئ حينها فتعرف على ثقافات مختلفة وعادات جديدة على مجتمعه وكان متقدما عن اترابه بالمعرفة وتقبل الآخر المختلف ونظرته للحياة وكيف يريد عيشها.. تزوج خديجة وانجبت منه تسعة اولاد اكبرهم امي..
ولكن ذاك الرجل الكريم النفس الواسع الخيال القارئ البارع الذي ما زال حتى الآن يقرأ الجريدة يوميا، والمعتدّ بنفسه كثيرا ذهب ابعد مما كان يجب أن يفعل فدفع الثمن غاليا جدا.. فحين اعتاد على شرب الخمر حتى الثمالة ولم يتوقف.. رفضه ابوه وأهله..ولم تقبله زوجته التي حملت على كتفيها مشاكل الحياة وهمومها وحدها..ذهب رجل احلامها مع الريح ولم يعد.. فصارعت لوحدها من أجل أن لا يحرم أطفالها العيش الكريم.. لقد كانت الأم والأب معا.. قست نعم..بكت نعم.. خافت..قلقت وأقلقت الاولاد. نعم.. وضعت قوانين صارمة للتربية نعم.. ولكنها لم تتركهم لحظة..ولم تفكر ابدا بهجرانهم.. ولم تسأم من تربيتهم.. بل اشتغلت في الخياطة فخاطت العتمة بالضوء والبرد حاكت له شالا صوفيا.. والخبز اليابس بللته بدموعها كي تطعمهم..فكانت حتى الرمق الأخير مقاومة.. وشرسة حين يتعلق الأمر بأولادها.
… رجع ابو أكرم بعد غيبته الكبرى فحضنته وجددت عهدها معه واحبته مجددا.. وكبرا معا وهرما.. عانقته وعانقها حتى وفاتها..لن ينسى جدي ما فعله بها.. بكاؤه يشي به .. ولن ينسى طعم مربى التفاح والتين التي كانت تعدها خصيصا له وتضع فيها بدل السكر اصابعها الجميلة… حين ناح على قبرها وباح قال لها:انتظرك بعد عشرة أيام لتأتي وتأخذيني.. لا تتأخري يا ام أكرم يا بطلة!