عالم الطباشير
عندما كنّا أطفالًا على مقاعد الدّراسة كنّا نظنّ لجهالتنا أنّ المعلّم قاسٍ بلا قلبٍ أو مشاعرَ ، نعم كنّا نأكل العصيَّ ونهابهم ونرتجف خوفًا ووجلًا في المرحلة الابتدائيّة ؛ لتتحوّل إلى نقمة عارمة عليهم في الصفوفِ الإعداديّة كردّة فعل على الكبت والأذى . ففي سنّ المراهقة يبرز العنفوان والرّفض والاحتجاج على الظّلم والطّغيان .
فلا يدع الأطفال فرصة للسّخرية من المعلّمين والاستهزاء بهم كلّما سنحت لهم الفرص. فلا يقع في براثنهم إلّا المعلّمون الطيّبون.
كان لنا معلمٌ طويلٌ جدًّا، وكان نحيلًا كالخيط، صوته بالنّسبة لنا كطفلٍ ابتلع في أحد الأيّام بيضة، وما زالت عالقة في حلقه. كنّا نزعجه بضحكاتنا اللاإراديّة. ولكن لا أدري ما هو السّبب الّذي كان يدفعنا للضّحك كلّما كان يدخل إلى صفّنا عند غياب أحد الأساتذة .
كانت تجتاحنا موجات ضحك بمدٍّ دون جزر، حتّى تكاد مرارتنا تنفجر .
كان يحاول أن يضرب كغيره فيرفع العصا ويلوّح بها عاليًا مرارًا وتكرارًا دون أن يضربنا .
ذلك الأمر المُضحك المُبكي، كنت ورفيقتي الّتي لا تُنسى (إسلام) نجلس على المقعد ذاته وبمجرّد دخوله لا أدري ما هو الغاز الّذي يرشّه حتّى تنتابنا هذه النّوبات اللاإراديّة من الضّحك.
ربّما لأنّه يتمتّع بروح طيّبة جدًّا تمنعه من أن تمسَّ العصا جلودنا الّتي ماتت الأعصاب فيها من شدّة الألم من قبل معلمينَ كانوا بلا رحمة أو غير جديرين برتبة شرف معلّم !
.. لا يتمتّعون بأساليب بناء جسورٍ من الأمان والحبّ والثّقة بينهم وبين الشّتلات الّتي أؤتمنوا على رعايتها، وفنون التّواصل والتّربية.
أمّا اليوم وقد انقلبت الأدوار وبتّ معلّمة، وأصبحت أُدرك معنى أن تكون معلّما بما يترتّب على هذه المهنة من أمانة وشقاء وضمير حيّ وتفان بلا حدود. ومهما تلقّوا من أجور فهي لا تفي جزءًا بسيطا من جهودهم .
عذرًا أستاذي الفاضل عن كلّ ضحكة آلمتك .
كنت الأستاذ الوحيد الّذي إذا حمل العصا ضحكنا، وما فزعنا وبكينا وتجرعنا الألم النّفسيّ قبل الجسديّ..
عذرًا أستاذي لكلّ دمعة ذرفتها في الخفاء شفقة علينا ورأفة ورحمة …
عذرًا لم أكن أعلم بأنّك تسهر لساعات طوال وأنت تقوم بالتّحضير للدّروس الّتي سنلتهمها بدون عناء كوجبة جاهزة ومجانيّة على طبق من ذهب ..
عذرًا على كلّ دمعة ذرفتها بسبب افتراء أحد التّلامذة، وحضور أهلهم إلى الإدارة ليشتكوا عليك كأنك مجرم فارٌّ من وجه العدالة ..
عُذرا على بضعة دراهم لا تساوي وقوفك على قدميك، ونحن قعود وأنت تتألّم بصمت …
عذرًا أستاذي لم أكن أعلم بأنّك كنت تنسى أن تأكل، أو تدخل المستراح، لم أكن أعلم أنّك تموت عطشا، ولكنّك تسهو عن الشّرب حتّى جفّت كليتاك، وضمرت …
عُذرا على استهزائنا من سُعالك لم أكن أعلم أنه بسبب استنشاقك اليوميّ لغبار الطباشير …
لم أكن أعلم أّنك مريض تعاني من الدّوار والحُمّى رغم ذلك تجرّ قدميك مرغمًا..
عُذرًا فلم يكن لك الحقّ بالمرض فهي ليست من البنود والحقوق .
حتّى ضمان الطّبابة لم يشملك. فأنت رجل لا يحقّ له أن يمرض…
عذرا لإهانات واتّهامات بالتّقصير والفوضى، وليتهم شعروا بالألم الّذي يعتريك …
وإذا غفلت يوما وفجأة حضر (المفتّشون) ونسفوا تاريخك المجيد وعطاءك الجزيل كمن غزل كنزة من الصوف ونسلوا لك خيوطًا من روحك حتّى آخر قطبة، كأنّك مجرم فرّ من العدالة وأثبتت إدانته… متناسين تاريخك المجيد …
يحاسبونك على بضع دقائق إذا تأخّرت، ويحسمون يومك، ولا يتغافلون عن ساعات طوال تساهر اللّيل وأنت تحضّر وتخطّط ذهنيًّا وكتابيّا، وتصحّح، وتحرّر وتدبّج لنا الإرشادات والتوجيهات الحكيمة …
مُهداة إلى روحك معلّمي العزيز
أرجو أن تغفر لي، فأنا لم أكن أدري ماذا أفعل .
# تلميذتك المُحبِّةُ: عُلا محمود بيضون