جسد القصيدة وروح الإبداع
(قراءة في قصيدة الشاعر نعيم تلحوق)
أرشدتني القصيدةُ
الى مخدع الجَسَدْ ،
فتأنيتُ عنّي ،
ظنَّاً بأنّي ،
احتمالُ الأبد ْ…
الشاعر نعيم تلحوق
القصيدة الومضة..عنوان راود فكري حين قرأت أبيات الشاعر الشهرياد نعيم تلحوق.
بين الشاعر تلحوق والقصيدة فعل معرفة. ألمْ يقل الشاعر الفرنسي بول كلوديل: الشعر هو الفعل؟ والفعل الأول في حياة الإنسان هو فعل الكينونة المبني على المعرفة.
أرشدتني القصيدة..فعل ماض يعود إلى الأزل، إلى شجرة معرفة الخير والشر. تناول الإنسان منها تفاحة فعرف أنه عارٍ، واختبأ من وجه الإله. عرف أنه عاشقٌ امرأةً أغرته بالتمرّد، والسعي إلى المعرفة الكلية التي لا يحدّها منع أو زجر.
فعل أرشد متعدّ لأن القصيدة تعدّت المسموح والممنوع لتسرق النار وتهديها للشاعر في مساره الحياتي. والشاعر هو المتلقي، أسيرُ واقع مفعول به وسط مطرقة الفعل أرشد وسندان الفاعل القصيدة. ضمير متصل تقوده أنويةُ متكلم يعبُر من ذاتيته الضيّقة إلى بحر العالم الذي تحكمه الظلال.
والقصيدة الفاعل أنثى. فهل تكون رمزا لحواء التي أغرت آدم بأكل الثمرة المحرمة؟
فعل الإرشاد من جذر رشد، أي أصبح راشدًا، سيد نفسه. فهل هذا ما سعى إليه أبوانا الأولان، حين ارتكبا خطيئة الخروج على قوانين السماء؟ وهل المعرفة المنشودة تتضمن استقلالية معينة في إطار معصية هيولية القرار؟
أما الفاعل فهو القصيدة. والقصيدة قصد ومآل. فما غاية الشاعر من كتابة الشعر؟ أيكون القصد منه إعلان فعل تحرر أم عبودية لحرف ضاقت به الأهواء فانتحر؟ وأين موقع الشاعر من هداية الكلمة المعلمة القائدة في مدرسة الحياة؟
ثمة تعدية ثانية لفعل أرشد، بوساطة حرف الجر “إلى”. وهذا الحرف دلالته انتهاء الغاية المكانية. وهذا ما يقودنا إلى تناقض بين الإرشاد وغائيته. فالإرشاد فعل توعية فكرية هدفها التسامي بالإنسان والابتعاد به عن الخطيئة والضلال. ولطالما عدّ الشعراء الجسد رمزا لخطيئة الإنسان، يسير به نحو الهاوية.وإذا بالشاعر التلحوقي يخالف هذه المعادلة، ويحول الجسد إلى فعل خلاص؛ لأنه في مخدع الزواج الشرعي. والمخدع هو حجرة صغيرة للنوم، ومكان للاستتار. كما أنه مشتق من خدع أي استُميل بمظاهر براقة. والجسد هو الخادع والمغري. ذاك الجسد المرتبط بالأغراض والأهواء، كما وصفه الشاعر الجبراني:
والحب إن قادت الأهواء موكبه
إلى فراش من الأغراض ينتحر
ولكن الجسد المقصود في قصيدة الشاعر نعيم تلحوق لم يعد جسدا عاديا، أو جسد أنثى. إنه جسد الشعر، قالب القصيدة الشعري، صياغتها بلا وزن أو قافية، حرة متحررة ومحررة من عبودية القوالب المتحجرة.
قصيدة تلحوق، جسدانية الصيغة، روحية الزمن. أرشدته إلى حقيقة بنائها ومضة، لُمحا تكفي إشارتُها فلا مطولات ولا حشو ألفاظ وإضافات. وكانت نتيجة الإرشاد التأني والظن أنه بلغ الخلود، في شعره والإبداع.
بين الجسد والأبد اختلاف وائتلاف، يتقاطع بينهما الظن وخداع الذات. يظن الشاعر أنه، في قصيدته، قد بلغ الكمال والمطلق، وإذا بتفكيره هذا قبض ريح وسراب.وإذا الجسد المستتر في مخدعه كهف تسيطر عليه الظلال. أما التأني فهو نوع من اليقظة التي قال عنها الحديث الشريف:
الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
أما حرف الجر “عن” المرتبط بالفعل تأنّيت فيحتمل معنى البعد والمجاوزة. أي تجاوز الشاعر ذاته وابتعد عنها كي يصل إلى الظن والتقدير بأنه بلغ أقصى درجات الكمال.
بين أزلية الجسد وأبدية الشعر فيض احتمال. واحتمال الخلود هدف الشاعر ومرتجاه. فهل يكون الجسد جواد الروح؟ وما رسالة الشاعر؟
رسالة الشاعر كما نستشفها، من هذه القصيدة، هي رسالة معرفة وتأنٍّ وتجاوز. ترشده القصيدة فيعرف حقيقتها المصطفاة، يتأنى في قراءة أسرارها الوجودية والإبداعية، ويتجاوز الذات إلى فهم الخلود، بشكل أعمق وأرقى وأشمل.
نعيم تلحوق، أيها الشاعر البروميثيوسي، شعلتك وصلتنا، وعقابك آتٍ، لا محالة. ولكنك أديت قسطك للعلى فنم مرتاح الضمير، في مخدع شعرك الحر النمير.
# د. جوزاف ياغي الجميل