نشرت صحيفة ” النهار ” اللبنانية دراسة قيّمة للصديقة الدكتورة درية فرحات حول رواية الدكتور عبد المجيد زراقط التي حملت عنوان ” طاحونة الذئاب ” ..
ومن أجل تعميم الفائدة نعيد نشر هذه الدراسة التي جاء فيها :
..” طاحونة الذئاب ”
” (مركز ليفانت للدراسات والنشر-الإسكندرية)
للكاتب والباحث اللبناني عبد المجيد زراقط،
هي رواية واقعيّة اجتماعيّة تتَّخذ أحداثًا من الواقع المجتمعي، ومنها تنشئ بنية روائية متخيَّلةَ تنطق برؤية كاشفة في مناخ المتعة الجمالية الروائية.
استطاع زراقط، في بداية الرواية أن ينقلنا إلى نكسة الخامس من حزيران من العام 1976، ويجعلنا نعيش ثنائية هي: انتصار اذاعات الأنظمة/ هزيمة جيوش الأنظمة، ما أتاح لنا أن نلمس العجز العربي الذي مازال يتراكم خيبات حتى اليوم. وفي الوقت نفسه، برزت الرّوح الحيّة المقاومة للشّعب الذي كان معطَّلا، وينتظر أن تأتي الفرصة، ويؤدّي دوره، والسّؤال كان واضحًا: كيف كان ممكنًا أن يتمّ الانتصار والشّعب معطَّل، وقواه الفاعلة في السّجون، كما سأل الصحافيّ الذي كشف حقيقة الحرب للأستاذ. تلك الهزيمة لم يعشها الجيل الذي كان في عمر الطّفولة اَنذاك، لكنه مازال يعاني من نتائجها.
يبدو واضحًا، كما تفيد قراءة الرواية، أن الذّئب الأكبر يتمثّل هنا، في هذا الواقع. من فضائه تنطلق الرّواية: كيان غاصب منتصر/ هزيمة أنظمة وعجزها وقمعها/ روح مقاومة ثاوية في ذات الشّعب المعطَّل…، وهو – أي هذا الشعب – من تُهدى اليه الرواية. جاء في الإهداء: “إلى الذين يقوون على الذّئاب”.
بين هذا الإهداء الذي تبدأ به الرواية وبين الإهداء الذي تنتهي به الرواية، وهو إهداء “نهى” للأستاذ الذي يحبها، ولا يعترف بحبّه لها صلة وطيدة. تهدي نهى الأستاذ رواية “اللّص والكلاب” لنجيب محفوظ، وتكتب على الصّفحة الأولى من الرواية: “لم يكن سعيد مهران لصًّا، لكنّ الكلّاب لم تتركه… أخاف عليك من الكلاب… “، فيقول: الاَن رأيتهم، يا… يا نهى !؟ الكلاب الذين طاردوا سعيد مهران غدوا ذئابًا يطاردون من لاتزال الرّوح المقاومة في أعماقه. ويكتسب اهداء نهى دلالته من كونها كانت تريد أن تحيا حياتها منعَّمة كما تريد، ولا تعنيها شؤون الوطن ولا شؤون الاَخرين، ولهذا لم يعترف لها الأستاذ بحبه.
في ضوء هذا الفهم، نقول: هذه الرّواية علامة/ دالٌّ على إدارة الذّئاب لطاحونة/ وطنٍ تستبدّ فيه “الطّغمة الحاكمة”، وتلك العصابات الغاصبة التي أنشأت كياناً غاصباً في قلب وطننا الكبير، مازال يواصل انتصاراته، ومازالت تلك الطّغمة تواصل عجزها واستبدادها…
في هذا الفضاء، تُروى سيرة القرية اللّبنانيّة الجنوبيّة، الكاشفة ثنائية جمال الطبيعة وغناها/ قبح العجز والاستبداد المفضيان إلى الحرمان… اللافت أنّ كلمة الذّئاب جاءت بصيغة الجمع، وهذا له دلالة سيميائيّة، تشير إلى كثرة هذه الذئاب التي أظهرت أنيابها، وقد أشار بطل الرّواية إلى المعادلة التي تسبّب كثرة هذه الذّئاب: “ذئب ينشب أنيابه عندما يقوى، ويجد السّاحة خاليّة” (ص 166).
تعدّدت أشكال الذّئاب وصورها، فنرى الذئب الأوّل يتمثّل بالبيك الذي أراد أن يستولي على حصان الأبجر “البيك يريد الأبجر… وأوامره لا ترد” (ص 89)، فكان هذا البيك هو الذئب الذي استقوى على محمد، وكانت النّتيجة هروبه وإعلان هزيمته عبر اغترابه وهجرته إلى الأرجنتين، وبات يُطلق عليه هناك ماماد. إنّ هذا الصّراع، وإن كان طمعًا في الحصول على حصان، لكنّه يدلّ على قضية جوهريّة ألا وهي هجرة اللبنانيين بلاداً جعلتها الذئاب غير صالحة للزّرع. واستمرّ الصّراع حتى بعد عودة ماماد ورغبته في استثمار أمواله: “البيك يلاحقني، بيك هذه الأيام حفيد بيك تلك الأيام” (ص 90)، فالأزمة مستمرّة وتطوّر الصّراع ليكون طمعًا في الحصول على أرزاق هذا المغترب ومشاركته في مشاريعه التي ينوي القيام بها تسلّطًا وتجبُّرًا.
والذّئب الثّاني تمثّل في تسلّط شركة “الرّيجي” ومن يمثّلها في السّيطرة على تعب المزارعين وجهدهم، فهذا المزارع إبراهيم يُسلّم التّبغ كما فرضت شركة الريجي، بعد فشل محاولة المزارعين في أخذ ما يستحقّون مقابل عذابهم، يقول: “صدّق أنّي رأيتها أنيابًا في أشداق ذئاب تهطل عليّ وتخترق صدري” (ص 166)، هزيمة جديدة سببتها الذّئاب التي ترسل أنيابها، فيتحكّم المرابون بأرزاق المزارعين.
ومن الذّئاب التي تقوى على النّاس ما له علاقة بالمخابرات التي تلاحق تصرّفات المواطنين، وتعرف عنهم كلّ شيء، وتراقب تصرفاتهم مع الفدائيين: “الجيش يلاحق الفدائيين، ومن يتعاون معهم… سؤاله عن علاقتي بأبي شكيب له معنى…ماذا قال له الرّجل الذي يعاديني عنّي؟”. (ص 169). وقد تمتدّ أنياب الذّئاب في السّلطة إلى “الدّرك”، فيلاحق دركيان أبا نايف لأنّه بنى القنّ من دون رخصة، فلا يكون الخلاص من التّوقيف والعذاب إلّا بدفع رشوة لهما، وتصل أطماعهما إلى كتب الأستاذ بطل الرّواية، فيأخذان بعضًا منها.
وثالث الذّئاب يتمثّل بعملاء السلطة الذين يحصون أنفاس النّاس، ويسمسرون…، فلا تُصرف تعويضات الاعتداءات ان لم يأخذوا حصتهم، فالتّعويض لا يأتي من دون سمسرة (ص 161). ومن الذّئاب قوى مستبدة تحكم مسار الحياة، فتعمل، على سبيل المثل، على تعيين الأستاذ بطل الرّواية في مدرسة قرية نائية، بعدما راح يسعى هو ورفاق له إلى إحداث تغيير، وأدرك هو ذلك، فقال: “من لا واسطة لديه تأكله طاحونة الذّئاب”، (ص 186). وهنا يبرز دور الفساد في تسيير شؤون البلاد، والمتمثل بالبرطيل/ الرّشوة لتحقيق الغايات.
الحبُّ لا يجد فرصه في هذه الطاحونة، فبعد أن يجمع هذا الشّعور بين الحبيبين المثقفين، يقوم الأب، ولسبب مذهبي، بوأد هذه العلاقة، يساعده على ذلك ما قامت به القوى المتحكّمة بإدارة البلاد، من إبعاد للأستاذ، ما حال دون تنفيذ ما تعهد به. وفي مقابل كلّ هذه الذّئاب، يعلن بطل الرّواية رغبته في الإصلاح، فهو يتمتّع بشخصيّة متمرّدة لا تقبل القيود، يمتلك فكرًّا نقديًّا لا يلتزم بقيد، لهذا يرفض الانتماء إلى أي حزب ما، وهو ناقد دائمًا لا يعجبه العجب، ولديه ثقة بنجاحه في أي أمر “هذا القدر أنا أصنعه” (ص 53)، لهذا نراه يواجه الذّئاب على طريقته، فكما جدّد قعدته في كرمه الذي استضاف فيه الجميع، كان يسعى إلى تغيير الفكر، وطريق النصر يكون عبر حرب التّحرير الشّعبيّة.
وفي مقابل الفساد الذي برز في الرّواية، نرى أنّ كلمة الإصلاح قد تواترت بشكل واضح، فإصلاح الأراضي الزّراعيّة يؤدي إلى إصلاح المدرسة وهو ما يعادل إصلاح الوطن “يستصلحها أبي ليكرّمها كما كرّم أبوه وجدّه الأراضي” (ص 186). فمشاكل لبنان الاقتصاديّة كثيرة منها: عدم التّوازن الاقتصاديّ بين مناطق لبنان، والازدهار في لبنان هو ازدهار الرّأسماليّة اللّبنانيّة المستفيدة من أموال السّيّاح العرب من الخليج، وحاجة لبنان إلى الإصلاح الإداريّ والتّخلّص من ظلم شركة الرّيجيّ، وحاجة القرى إلى إصلاح عدّة أمور. هذا هو ما يسعى إليه بطل الرّواية وظلّ ينشد التّغيير فهو “الحقيقة الوحيدة في هذه الدّنيا” (ص 93).
استطاع الكاتب أن يقدّم لنا رواية تحمل في طيّاتها أبعادًا اجتماعيّة، تهدف إلى مجتمع أفضل، ويجعلنا نتوافق مع ما قالته أمينة فإنّ الحناجر لا تصنع انتصارات… والدّموع لا تطفئ الحرائق ص 93، فالسّبيل هو بالعمل ومواجهة الذّئاب. واللافت أنّ زراقط في روايته قدّم عملًا فنيًّا متكاملاً، معتمدًا تقنيات السّرد، ومن أهمّها الاعتماد على تقنيّة الاسترجاع، إضافة إلى اعتماده على الحكايات التي تنوّع راويها بين البطل وشخصيّات أخرى من أبطال الرّواية، فكانت هذه الحكايات مكمّلة للبناء السّرديّ، ومنمِّية للحدث في الرّواية. واستخدم الكاتب الحوار الذي أظهر مكوّنات الشّخصيّات وشخّص نفسيتها، إضافة إلى استخدامه للوصف الذي رسم لنا صورة رائعة للقرية اللبنانيّة، وكان هذا الوصف قادرًا على تحريك مخيّلة القارئ فيشعر بأنّه في داخل المشهد، خصوصًا مع ما قدّمه من تعابير وألفاظ أعادتنا إلى أجواء القرية القديمة (ص 93)، وأحيت تراثنا المتغيّر الذي بات يتزيّا برداء العولمة.
وإذا كان زراقط قد كتب رواية بشخصيّاتها المتخيّلة نافيًّا انتماءها إلى السّيرة الذّاتيّة، فإن مخيّلة القارئ يمكن لها أن تحذف التّواريخ الحقيقيّة التي برزت في الرّواية محدّدة زمنها بحوادثها التي جرت، وسيرى نفسه في هذه اللحظات أنّه يعيش حياة البطل في زماننا الآن، فالذئاب ما زالت تدير طاحونتها، وما زلنا ننتظر الذين يقوون على الذّئاب