المرأة الجزائرية بين الثورية والنضالية في فن القصة القصيرة في الأدب الجزائري
قراءات تحليلية في قصة: “بأجنحة أجنّتي؛ حريّتي أو جنّتي”
من المجموعة القصصيىة “ممنوع قطف الأطفال”
للقاصّة الجزائرية: حفيـظــة ميمـــــي
بقلم الشاعر الناقد: زيـــاد الحمدانــــي (العــــراق)
قلّما تخلو النصوص الأدبية الجزائرية بمختلف ألوانها وتعدداتها من الإشارة إلى المئوية النضالية التحررية لشعب الجزائر سواء في الشعر أو السرديات النثرية كما في القصة والرواية والخطابة والمقالة وغيرها من الفنون الأدبية، وفي حقيقة الأمر فإن معظم هذه المؤلفات والوثائقيات استلهمت الروح الثورية والبطولية التي شهد لها العالم أجمع بقدسيتها وشدة ضراوتها وهي حرب التحرير النوفمبرية ضد الاستعمار الفرنسي، رغم أن تاريخ الشعب الجزائري عبر عصوره حافل بالمآثر والبطولات، حتى في فترة الإستدمار الفرنسي الغاشم والذي دام زهاء 130 عاما، ومنها ثورة عام 1945 والتي كانت ممهدة لقيام حرب التحرير الشاملة.
تلك الثورة التي انطلقت أولى شرارتها في ولاية سطيف إبان الحرب العالمية الثانية، والتي نادى أحرارها بالحرية والعمل بالمواثيق الدولية التي نادت بالحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، وسرعان ما امتدّت إلى باقي بقاع الأرض الجزائرية وبلغت ذروتها تضحية وإباءً في سطيف وبجاية وخراطة التي شهدت أبشع جرائم الحرب التي يندى لها جبين الإنسانية جمعاء إلى منتهى التاريخ ومداه، على يد مغول العصر وتتار العصور الهمجية الوسطى لأوربا، قوات فرنسا المستدمرة التي انحطّت إلى أسفل الدرك اللا إنساني والوحشية طيلة فترة احتلالها للجزائر على مدى 132 عاما حتى تمرّغت أنوفهم بوحل الهزيمة والعار تاريخا وواقعا سيلاحقهم مدى الزمن..
وقد لا نجد متسعا لذكر أسماء جلّ الأدباء والشعراء الذين وثّقوا من خلال نصوصهم الأدبية تاريخ الثورة والتحرير والنضال المستميت لأجل الاستقلال والحرية في عهد الاستعمار وما بعد الاستقلال وإلى يومنا هذا، ومن أبرز من كتب ووثق الكثير والغزير من التاريخ الجزائري المعاصر عبر الروايات والقصص والشعر منهم شاعر الثورة مفدى زكريا والروائي الطاهر وطّار ومحمد ديب وعبد الحميد بن هدوقة وواسيني الأعرج ومن وثّق كاتبا وناقدا مثل الأستاذ محمد حربي ومن الروائيات كالكاتبة أحلام مستغانمي وزهور ونيسي.. وأسماء كثيرة ارتقت صروح الفكر والأدب عربيا وعالميا نقف أمام إبداعات أقلامهم وقفة الإعجاب والفخار.
القصة القصيرة الموسومة (بأجنحة أجنّتي؛ حريتي أو جنتي ) للقاصّة الجزائرية حفيظة ميمي وبالرغم من كون القصة القصيرة توظّف الاختزال والإيجاز مع توظيف العنصر الترميزي والمجازي في البنية السردية نظرا لطبيعة هذا اللون القصصي الذي يختلف عن القصة والرواية من حيث العناصر والأركان والنسيج الدرامي ومساحات المشاهد والحوارات وغيرها إلاّ أن القاصّة أجادت في الاستحواذ على المساحة الضيقة واستغلالها لفرض خطابها القصصي العميق بحرفنة أدبية فطنة عبر توظيفها عناصر الترميز والمجاز والإظهار والإيحاء العميق لما بين السطور عبر الدلالات والإشارات العميقة التي يمكن استيحائها من خلال القراءات المعمقة الدقيقة.
بدءاً من العنوان؛ عنوان المجموعة ” ممنوع قطف الأطفال” الذي تتجلى من خلاله مسارات وإشارات عديدة، مجاز يعطي صورة الأزهار وإيحاء للطفولة، ثمرة المستقبل، والجيل القادم للتحرير والبناء والنهضة وإعادة حضارة وتاريخ الجزائر وإيحاءات أبعد رؤىً وأكثر عمقا كما سيتضح في معرض النقد والقراءة لإحدى قصص المجموعة: “بأجنحة أجنتي؛ حريتي أو جنتي” والتي استهلت القاصة في مطلعها بنصّ نثريّ مكتنز بالترميز والتضمين والاستعارة والجناس إذ تقول:
وإذا الجنين سُئل.. بأي ذنبٍ وأمه قُتِل ؟
بادئ النص واقع استفهامي، تضميني استعاري، ثم تسترسل إجابة على لسان الجنين إلى أن تقول:
لأنني أنمو في أحشائها كالبصيرة وأتفتح كالمقل..!
تسقيني بذرة سلام، وحين تحين مواسم الثورة؛
تطرحني مليون بطل..
فهل هناك أخطر من امرأة تحمل في بطنها يقينا؛
له ملامح الثورة وشكل الوطن..؟!!
لتلج بعدها القاصة “حفيظة ميمي” متن السرد القصّي في قصتها إذ تقول:
(لا أحد يدري لماذا اختاروا قريتهم هذه المرة ليمارسوا فيها الجنون..؟!
أوقفوهم في طوابير طويلة طول النهار.. حارة حرارة الشمس الساطعة التي ألهبت رؤوسهم.. فتشوهم، دققوا في وثائقهم، وفي ملامحهم وفي وجه الشبه بين الورق واللحم، وبين الحبر والدم.. فتشوا جيوبهم وجلودهم، وحتى خلاياهم..! لماذا لا يخلون سبيلهم إذن..!؟)
مباشراتية قصّيّة دون تقديم اتّسمت بالواقعية ونقل الصور والمشاهد بحقيقتها المجردة، وثّقت جرائم الاحتلال وجنونه وهوسه بالقتل والتلذّذ بممارساته دون وازع من ضمير.. فمن القتل الوحشي إلى بقر بطون الحوامل وقتل الأجنّة حتى وصل بهم الأمر أن يكون الرهان بين الجنود على زجاجة نبيذ على أن يكون الجنين ذكر أو أنثى، إلى جرائم الاغتصاب الوحشية وحرق الإحياء في الأفران لا لشيء، إلا ليمارسوا جنون القتل وحرب الإبادة بكل ما يندى له جبين الإنسانية.. ناهيك عن التلاعب بأرواح الشعب وممارسة حرب الأعصاب الخبيثة حتى في طرق استجوابهم أو تعاملهم مع الأفراد دون تمييز بين شيخ أو عجوز أو امرأة أو رجل أو طفل رضيع أو حتى لو كان حيوانا أو جمادا أو نباتا.. والصورة التي وثّقتها القاصة في قصتها واحدة من عشرات الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها مغول العصر فرنسا ضد الشعب الجزائري، ولا مناص من ذكر جريمتهم النكراء التي ارتكبوها بحق المعتقلين في صحراء رقان حين ربطهم وفق مسافات محددة ليستقرئوا نوع ومدى تأثير الانفجار النووي الذي أجروا تجاربهم فيها عليهم حسب الأبعاد والمسافات والتي لازال رجعها وتأثيرها السلبي على السكان إلى يومنا هذا.. الجريمة المستدامة شاهد على وحشية وهمجية دولة نسبت لنفسها اسم بلد الحرية..!!!
في ص1 والتي تستطرد سردا وتوصيفاً تقول القاصة:
(لا يؤمنون إلا بشمولية الظلم الذي يمسّ كل شبر من البلاد وكلّ خلية من العباد وكلّ ذرة من المؤونة والعتاد، لا مجال للتجزئة عندهم، بل لا مجال للترفع.. الظلم أيضا عليه ألا ينحط إلى دنايا الأمور، مستويات هو…! وهم رغم إدعائهم الحضارة إلا إنهم منحطّون في كلّ شيء، وأساليبهم حقيرة وهابطة جدا؛
يخلطون السكر بالملح، والزيت بالصابون، واللبن بـ …..)
رسالة توثيقية لممارسات مدّعي الحضارة والحرية والإخاء، فرنسا بلد الحرية التي مارسها مغولها ضد الشعب الجزائري بكل وحشية وجنون ومجون..
(لعبتهم الجنون، والمجنون لا يتذوق العذاب، يفقدهم متعة اللعب…) ص1.
وكأنهم لفرط وحشيتهم يتلذذون بعذاب الأبرياء والأحرار، وبصرخات النساء والأطفال، يتلذّذون حدّ الثمالة وفقدان كل حسّ وشعور آدمي وإنساني..
بل حتى في طريقة استجوابهم وتحقيقاتهم مع الأهالي..
(منذ متى تسكنون هذه الدار..؟! حتى حيواناتهم بحثوا عن أصلها وفصلها..
كم باضت الدجاجة..؟ ما اسم هذه العنزة ؟ ولماذا ينهق الحمار ؟ ربما صوته كان كلمة سر للثوار.. أو نوع من أنواع الإنذار.. منوع اقتناء الكلاب.. وذكور البقر؛ الثور اسم مشتق من الثورة..!)
كل هذه الممارسات الجنونية وأكثر مما ذكرت القاصة، كان يفعلها أولئك الأوباش.. ليثبت أمرين :
الأول وحشية الاحتلال والثاني قوة وصلابة الشعب الجزائري وثوار الأحرار الذين أذاقوه مرّ العار والهزيمة وصنوف الخوف والرعب الذي ترجمته تصرفاتهم الجنونية ليعبر عن مدى شعورهم بالخسران والرعب.. حتى من حجارة الجبل وفتات الأرصفة..
بقر البطون وتمزيقها وممارستها كلعبة رهان جنونية وقتل الأجنّة واغتصاب النساء إحدى جرائمهم البشعة التي وصمتهم بالعار إلى أبد الآبدين وقد وثّقت القاصة الكاتبة: “حفيظة ميمي” هذه الجرائم أروع توثيق عبر أسلوبها القصصي المميز فهي تقول في ص2 :
(لا احد يدري لماذا اختار جميلة قريتهم؛ اختارها هي دونهم جميعا ليمارس معها، بل فيها جنون الجنون، وهو ينزل كالصاعقة على رأ سها يلكز ببعض سلاحه هذا الانتفاخ البائن من جسدها بعنف صائحا :
( -أهذه البطن مزيفة..!؟
خرجت الآه من فم الوجع قوية مدوية تعبّر عن ذاتها أن “لا” ، فحملها حقيقي وطبيعي مائة بالمائة، وإلاّ لما كانت لكزته أحدثت فيها كل هذا الزلزلة.. لكن ذلك لم يكن ليبرؤها أو يشفع لها..
وحشية الرجل الذي جرها من ضفائرها إلى ساحة التفتيش أمام جميع من ألهبت الشمس رؤوسهم، بل أشعل الظلم ما بقي من عقولهم..)
-أنتنّ نساء الأوراس مشكوك في أمركنّ أكثر من الرجال، تختبئن وراء هذا الزيّ الذي يلفكنّ من الرأس حتى أخمص القدمين بحجة التقاليد والدين لتلعبن لعبتكن.. لكن تأكدي، اللعبة أصبحت مكشوفة.. انتهى..! لم تعد تنطلي على أحد خدعة الحمل المزيف المدجج بالسلاح ، ولا الرضيع المقمط بالمناشير، ولا قربة الماء المعبأة بالنقود، وكسرة الخبز المحشوة بالرسائل.. ولا .. ولا….)
جانب أساسي وسرد تصويري وتفصيلي من جوانب النضال الشعبي ومؤازرة الثوار يظهر العمق والبعد الستراتيجي والوطني الذي كان يمد الثوار بروح النصر والعزيمة منذ بداية حرب التحرير.. هذه الصورة المشرقة جعلت النصر واضح المعالم منذ بداية حرب التحرير، وعلامة فارقة في انحطاط تاريخ المحتل وغطرسته ووحشيته..
( -أصدق بأن حملك حقيقي، فأنت بريئة، لكن…!
بريئة أنت، لكن، هي، لا..! قذفها في وجهها دفعة واحدة، ليضاعف من حيرتها ..
-تراه، يقصد من..!؟؟؟
لم تنتظر طويلا لتتبدد هذه الحيرة إلى رعب تكاثف بسرعة حتى سدّ عين الشمس.. لم تعد ترى شيئا وظلمة كلامه تلفها من رأسها حتى أخمص قدميها، لكن ليس في زيّ أوراسي جميل بل في جحيم من تفصيله وحياكته هو، وليس على مقاسها هي، بل على مقاس الحقد الذي يسكنه هو..!
-بريئة أنت، لكن هذه البطن.. لا..! مذنبة هي.. بل مجرمة.. وعليه فإننا نبرئك أنت ونعاقبها هي.. نحكم عليك أنت بالحياة، ونحكم عليها هي بالإعدام..!! هل تعلمين لماذا؟ لاأن هذه البطن قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي زمان.. وعلينا أن نبطل مفعولها قبل فوات الأوان.. من أجل الصالح العام، فأنت لا تعين حجم الخطورة التي تحملين..) ص2.
الخطاب الروائي بلغ وتجاوز حدود العمل الدرامي والميلودرامي المعروف في فن الأدب القصصي والروائي في أسلوب القاصة “حفيظة ميمي” في القصة، بل وقد أصبح أشبه بعمل يوثّق حقبة من تاريخ جرائم الحرب ضد الإنسانية، فمن خلال ما اطلعنا عليه من البيانات والمذكرات المقدمة من المعنيين آنذاك وأنظمة الحكم العربية والعالمية ومنظمات حقوق الإنسان ورجال الحقوق والقانون وغيرهم من إدانات لمثل هذه الأعمال لكن لم يأتِ ذكر جرائم بقر البطون وقتل النساء وفلذات أكبادهنّ وأجنّتهنّ وبهذه الوحشية والهمجية، وكأن القاصّة تعيد وتوثق هذه الأعمال القذرة لتندرج ضمن فقرات جرائم الحرب التي مارسها المحتل الفرنسي بكل جنون، ومن ثم إبراز الصورة بلغة خطابية وقصّية درامية للقارئ في الوطن وخارجه وأمام الرأي العام العربي وكأن لسان حالها يقول: (كي لا ننسى..!)
في صفحات القصة تسترسل الكاتبة في سرد المعاناة وحجم التضحيات وبشاعة الجرائم ومرتكبيها بتوصيف دقيق وفي الحقيقة نقل الصور والممارسات عبر جمع وتوثيق وعن ألسنة شهود العيان ومن عاصر وعاش كل التفاصيل بدقتها.. تقول:
(سأخرج هذا الخليط الغريب الذي يعمّر أحشاءك، لتري بأمّ عينك كم هو دنيء وعفن..!
كان كلامه كحقده، دهاليز متشعبة يلفظها الواحد منها إلى الآخر الأكثر غوراً وعتمة..
هذه البطن تخبئ خطرا كبيرا يجب أن نخرجه، بل تخبئ مجرما خطيرا يجب أن نعاقبه..!
أسلمها إلى رعب الدهش، أو إلى دهش الرعب وهو يتلذّذ بالشرح ويستفيضه فيفيض بها طوفان الجزع ليغرقها أخيرا في كلمة واحدة وهو يلتفت إلى معاونيه مزمجرا كالرعد:
-هيا أخرجوه..!)
إشارات دلالية غزيرة (خليط غريب)، (مجرم خطير).. تلك الأجنّة التي نجت من مقاصل الإعدام والبقر والوأد كانت القنابل الموقوتة والأشد ثورية وخطرا.. كانت وقود الثورة والشهب التي أحرقت المستعمر بنيران حربها.. ذلك الجيل الذي نشأ ما بين عامي 1945 و1954م بدء حرب التحرير والاستقلال.. بدء الوقت الذي تمرغت فيه رؤوس وأنوف المستدمر الغاشم بوحل العار والذل والخوف ورعب النساء الأوربيات وبنات الذوات.. سحقوا رؤوسهم بالمداس و(البصطال) العسكري.. لم يستطيعوا إبطال مفعول القنابل الموقوتة التي أذاقتهم طعم الجحيم نفسه..
(تعالت قهقهات لا إنسانيتهم من أعماق الذئاب؛ كانوا يعوون وهو يفترسون البطن بمن يحملها، وبمن فيها..!
-جميل التعامل مع المجهول، يروق لي كشفه، بل لذيذة لعبة المستقبل هذه..! هيا.. أخرجوا كل الحوامل من بين الصفوف، سنريهم كيف يكون مستقبلهم بين أيدينا، نقبض ماضيهم وحاضرهم والآن سنستولي على مستقبلهم..!
(لعبة قمار كانت.. مارسوها بكل همجية.. ذكرٌ أم أنثى..؟! على كم تراهن..؟!
وبقرت البطون كالبطيخ الأحمر واحدة تلو الأخرى، ودكّت الصفوف دكّا.. من فقد وعيه ومن فقد روحه، فالصدمة كانت أكبر من كل تصوّر…!!! ) ص3
المرتكزات الأساسية الثلاث التي حددتها القاصة في المطلع والعنوان:
الثورة / الحرية / المرأة
وسنأتي على تفصيل كل مرتكزٍ ورد في النص القصّي بعد بيان العناصر التي وظّفتها في بنيتها القصصية فقد أشبعت النص ترميزا عميقا من خلال البنية السردية للقصة وأحداثها التي تدور في إحدى قرى وقلاع الثورة والبطولة في كل شبر من أرض الجزائر.. مبينة بأسلوب الإدانة الوحشية للاستعمار وجنونه وبدائية نهجه وتجرده من كل قيم الإنسانية والقيم السماوية والأعراف الدولية إذ تقول في ص2 :
(وجه الشبه بين الورق واللحم، وبين الحبر والدم..)
بريئة الشمس من الظلم الواقع عليها هنا وهناك… (إشارة للعبودية والجحيم والانحطاط الفرنسي المستعمر، في حين أن الشمس رمز للحرية)
ثم تستطرد في قولها : (لماذا يثير الكسكسي أعصابهم إلى هذا الحد..؟! أوَ لأنه يؤكد أن تراثهم عريق حتى على الموائد ؟ تراث لا تنافسه معلباتهم الجاهزة وأكلاتهم الباردة، فيصرّون على محوه بذات الأساليب تحت النعال مع التراب والحصى…!)
العلة ليست في نوع الطعام فالإشارة هنا أبلغ وأعمق من هذا الصنف، إنه التراث والتاريخ والحضارة، التمسك بالقيم الوطنية، التشبث حتى الموت بالأصالة والقيم الوطنية والعربية والإسلامية.. التمسك بالهوية، بالثقافة، والتشبث بالجذور، وهذا ما حاول الاستعمار الفرنسي عبر قرن وربع من الزمن أن يستأصله دون جدوى، بل دون أن يشعر فقد ساهم في التمسك والتشبث أكثر بكل هذه القيم والتي قادت إلى الحرية والاستقلال.
وقد أجادت وأبدعت القاصة “حفيظة ميمي” إبداعا عميقا في تصوير كل هذه المعطيات من خلال الترميز والمجاز عميقيّ الإشارة والدلالة في استرسالها السردي :
(دققوا في وجوههم، وفي بيوتهم، وفي وجه الشبه بين التجاعيد والطين، بين ماء العيون ومياه البير، وحتى بين انحناءة الظهر والجدار..)
كما لا نغفل عن الإشارة لعميق ترميزها وإيحائها العابر للزمن حتى بعد الاستقلال ونيل الحرية في قولها ( معلباتهم الجاهزة وأكلاتهم الباردة..) أفكارهم المسمومة التي حاولوا دسّها وجلبها عبر البحار والتي حاولوا من خلالها طمس الهوية الإسلامية والعربية لشعب الجزائر بشتى الطرق والوسائل.
ولم تغفل القاصة في معرض قصتها؛الإشارة إلى المواقف التي يندى لها الجبين الحر لخنوع أهل القربى سواء من الداخل أو الخارج الإقليمي الذين ارتضوا لأنفسهم الذلّ والعار والتبعية بعد أن باعوا أنفسهم لقوى الظلم والظلال والاستدمار إذ تقول في إشارتها إليهم:
(الموت موتان.. هكذا أرادوه، والجوع موت آخر أو أشدّ، بل ظلم أهل القربى أمرّ.. قوّادهم يتبعونهم كظلال الشحم واللحم، لكنها بلا دم.. ومن اعتاد على الفتات، لا يشبع..!!!)
لا شك أن في كل شعوب العالم هناك فئة ترتضي الذلّ والخنوع والمهانة لأجل أن يرضي أسياده على حساب وطنه وأبناء وطنه وجلدته، لقاء حفنة ممسوخة من العار المادي على أن يعيش أبدا عبدا وضيعا وتابعا رخيصا لا قيمة له.
اللازمة والركن الآخر الذي أشارت إليه القاصّة هو الثورة والحرية .. الوطن.. وقد تكررت هذه اللازمة بضعة مرات إشارة منها على التأكيد والتوكيد على الاستمرارية حتى تحقيق النصر وطرد المحتل .. ولم تغفل الإشارة إلى منبر الثورة وشعلتها الأولى التي انطلقت شراراتها أول الأمر إلى قلاع الأوراس وجبالها الشمّاء.. من خلال ترميزها للمرأة الأوراسية والزي الأوراسي، مزج حضاري وتاريخي وإشارة انطلاق الثورة..
الركن الأساس في القصة هو (المرأة ، وجرائم قتل الأجنّة وبقر البطون..!) وقد جسّدت شخصيتها من خلال البطلة (أم الخير) وقد يبدو للقارئ هنا أن القصة شكلا ومضمونا تعبر عن واقع الشعب إبان الاحتلال والاستعمار والمقاومة والاضطهاد ولا تعدو أن تكون كسابقاتها من القصص والروايات التي تصب في أدب الثورة والمقاومة، وهنا أوافق القارئ فيما يرى فهي قصة توثق بواقعية مجريات الأحداث الدموية إبان الاستعمار الفرنسي وتقع ضمن أدب المقاومة، لكن المغزى والمحور الخفي بين السطور إلى جانب الثورة والكفاح، هو(المرأة)، ولا يختلف اثنان في كون المرأة رمز العطاء والخير والحب والتكاثر.. فيض لا سبيل لحصره.. المرأة في قصة (بأجنحة أجنّتي؛ حريتي أو جنتي ) هي الأم والزوجة، المناضلة، الصابرة، والثائرة.. هي الفدائية في الرعيل الأول..
إذ بيّنت نمطين من إشكال المرأة إبان الثورة :
المرأة الثائرة / المرأة الداعمة للثورة .
فالأولى هي التي شاركت في معارك التحرير وفي جبهات القتال عبر الجبال، والأحراش والمدن، والقرى، في السهول والوديان، وهي المرأة الثورية.
والثانية التي جاهدت وناضلت عبر وسائل عديدة يمكن اعتبارها خط الدفاع والدعم اللوجستي الحيوي لديمومة الثورة ونجاحها عبر معارك التحرير.. ومن خلال قراءاتنا لتاريخ الشعوب نجد أن هناك خط مشترك بين المرأة الفلسطينية والمرأة الجزائرية في تاريخهن النضالي والكفاح المسلح ضد الاستعمار.. ونالت ما نالت من أساليب القمع والتعذيب والقتل ما تنوء عن حمله الجبال ولم تتراجع أو تنحني..
كِلا المرأتين في الجزائر وفي فلسطين أعطت وضحّت لأجل الحرية والوطن، بالنفس وبكل غالٍ ونفيس وذاقت من ويلات الاحتلال ونتائجه الكثير، بل لو أنصفنا في الحكم نجد أنها تحملت أعباء الحروب والأحداث عبر عصور التاريخ أكثر مما تحمله الرجل المقاتل، فحجم المسؤولية الملقاة على عاتقها أكبر وأعظم مما يخفى في الطروحات الفكرية أو الثقافية أو الأدبية أثناء وبعد الحروب والأهوال، وهنا إشارات واضحة ودلالات لا تقبل الشك كما جاء في خاتمة القصة التي تحمل الأمل في قولها:
(لكن “حورية” كانت تعـرف أكثر منهم.. ضغـطت على بطنها بشدة وكأنها تخاف أن يسرقها أحد منها.. تنفست الصعـداء وحمدت الله أن لعـبتهم القذرة انتهت قبل أن تفضحها بطنها بالانتفاخ أكثر..! وهي تردد في داخلها:
سأبشر خالتي”أم الخير” بعـودتنا سالمين أنا والحفيد.. أليست هي القائلة: عندما ننجو من الموت، كلّ شيء قابل للتعويض.. والذي أنجب، لم يمت.. بهذا الجنين، وبأجنّة كلّ الحوريات الأُخر.. حتما سنطير إلى الحرية…)
كل شيء قابل للتعويض.. والذي أنجب لم يمت.. إشارات إلى: أثناء وبعد معارك التحرير.. قد تنتهي معارك الرجال، لكن معارك الأم والأخت والزوجة والحبيبة لن تنتهي، فحجم المسؤولية مستمر حتى الأنفاس الأخيرة.. هي من ستناضل لإعالة الأطفال وتربيتهم والمجاهدة لكسب قوتهم وأرزاقهم.. هي من ستربي وتحكي وتحفظ تاريخ الرجال.. وستظل حربها قائمة.. الجدلية التي فرضها الواقع في فلسطين والجزائر ما بعد الاستقلال إلى أين آلت.. المرأة الفدائية التي شاركت بالقتال والتضحية ونالت الشهادة كأخيها الرجل.. هل حظيت بمكانتها التي تستحق في الدولة والمجتمع، بل وحتى في النظرة الدونية في المجتمعات العربية قاطبة، إذ لم تزل السلطة الذكورية السائدة في المجتمعات العربية.. ولم تزل المرأة تناضل ضمن سلسلة معاركها اللامنتهية من أجل الحرية والمساواة..!
إشارات ودلالات عميقة توجهها القاصة “حفيظة ميمي” في قصتها، وفي خاتمتها عودة إلى العنوان (بأجنحة أجنّتي؛ حريتي أو جنّتي) الذي يقول كل شيء إما النصر والحرية أو الاستشهاد والجنة لا خيار ثالث بينهما.
أدب المقاومة، وتوثيق وقائع التاريخ وأحداثه بصبغة قصصية وروائية سلّطت الأضواء عالية على جرائم القتل الوحشية والقطف والاستئصال.. للطفل والمرأة.. حاضنة الأجنّة ورمز الخصب والعطاء وديمومة الحياة.. وللثورة التي خلّدها التاريخ بكل ما وسعت من حجم التضحيات لنيل الحرية والاستقلال فاستحقت واستحق شعبها لقب بلد الملايين من الشهداء وليس المليون ونصف المليون شهيد.. إنها الجزائر.. ويكفي أن نقول إنها الجزائر أيها العالم كله…!!!
بقلم : الشاعر والروائي والناقد
زيـــــــاد الحمدانـــــــــــي (العراق )