تناولت حقيبة السّفر وراحت تختار ما تريد أن تحمله معها إلى بلاد الغربة ، فوقفت حائرة ماذا تحمل معها غير الهموم
وأصوات الجائعين الثّائرين في الشّوارع؟
فكّرت بوالدها المريض الذي بلغ سنّ التّقاعد لتوّه حيث تمّت حفلة تقاعده في المستشفى بدلًا من البيت الذي أكمل بناءه بعد خمسةٍ وثلاثين عامًا من الكدّ والكفاح، بين معاناة التشرّد والتّهجير في الحرب الأهليّة وبين طموحه الذي ذهب أدراج الرّياح.
لقد أتمّ تعليمها وأخويها فرعاهم وأمّهم ولبّى حاجاتهم قدر المستطاع، وحان دورهم الآن ليكونوا إلى جانبه وهو يشهد تساقط شعره الخريفيّ ليستعيض عنه بذقنه الثّلجيّ، وصفرة سحنته التي أذبلها تعب السّنين فصارت شاحبةً كأوراق تشرينيّة تنتظر المصير..
فتحَت خزانة والدتها لتختار ثيابها التي أودعتها فيها يوم أتت لتقيم عند أهلها قبل السّفر بعد أن توقّف عمل زوجها وراحا يقتاتان من مرارة الفقر والحرمان وهما لا يزالان عروسين لم يمضِ على زواجهما أكثر من شهرين ما أجبره أن يسافر عساه يقي عائلته غالة العوَز والحرمان ،
فاستوقفها المشهد واعترتها رعشة ألم نفسيّ أصابتها في الصّميم وهي ترى ثوب طفولتها الذي كانت أمّها لا تزال تحتفظ به فهو أوّل فستان لأوّل “شعنينة” لها كانت أمّها تحبّه كثيرًا وقد عرضته لها مع جهاز عرسها قبل زفافها.
أمسكته ،عانقته ،قبّلته، وضعته في حقيبة السّفر وفي نيّتها أن تحمل معها طفولتها ولم تكن تدري أنّ الطّفولة لا تعيش إلّا في مهدها ،ولم تكن تدري أنّها تحمل معها أجمل ذكريات أمّها وأحلامها.
فتحت خزانة والدها كي تأخذ معها ولو ياقة قديمة من ملابسه قد تضمّخت بعطر أنفاسه، أو منديلًا تقدّسَ بعرق جبينه فرأت لعبتها التي رافقت طفولتها تتصدّر واجهة ثيابه، عانقتها بلهفة ، بلّلتها بدموعٍ يائسة، بائسة وهي تفكّر كيف ستترك والدها الذي لا يكاد يتوقّف عن القول: يروح يموت ال ما عنده بنّوت”
انهمرت دموعها غزيرة ، اعتصر الأسى قلبها..
فلو كان سفرها يخضع لخيارها لرفضته..
لو كان لتحسين أوضاع مادّية لتخلّت عنه، لكنّ سفرها كان قسريًّا..
طفلها يكبر وهو لا يعرف والده وصباها يذوي بين والديها المريضين وزوجها الذي تخلّى عن والديه اللذين قد غرقا في الدَّيْن من جرّاء تعليمه كي يؤمّن مستقبله ويضمن شيخوختهما..
وهو يعاني شوق الغربة وحرمان عطفهما وشهوة الأبوّة لإبنٍ لم يكحّل عينيه بمرآه مذ أبصر نور الحياة، وهي حائرة متعبة..منهكة..
مرهقة ،كيف ستترك أخويها اللذين حضنا شقاوتها وهي البنت الوحيدة المدلّلة بينهما؟لملمت بقايا ذاتها المبعثرة بين الأشجان والأحزان، فأنقذها من شرودها بكاء طفلها الذي ربّما شعر بتعاستها فأحبّ أن يشاركها في مهرجان الدّموع.
حملته بقلبٍ كسير وعطفٍ كثير..نظرت إلى براءة وجهه، إلى رجاء عينيه؛ أيمكن أن تختار والديها وتبقيه يتيمًا ووالده يشتاق كلّ ليلة إلى سماع بكائه أو همس أنفاسه عبر الهاتف ليتزوّد منها عزيمة الإرادة فيتحمّل قساوة الغربة ومرارة العيش والعمل؟
أم تنقذه وتترك والديها ثكالى وابنتهما في قيد الحياة؟
الثّورة تشتدّ أوارها، والليرة يشمخ دولارها..
فتجنّ الأسعار ويجنُّ معها جشع التّجّار ،والنّفوس تنهار ،وحجر الكورونا قد جعل الليل بلا نهار…
بطالة.. جوع..تشنّج نفسي.. خوف.. قلق..كآبة.. وهي صفر اليدين إلّا من بقايا فتيفات ليراتٍ لا تكاد تكفي أَوَدَ بضع لقيمات لا تسكت زقزقات عصافير بطن خائرة. جمعَتْ حقائبها ،
أُنجزت معاملات سفرها للّحاقِ بزوجها.
واقترب موعد رحيلها بعد إعلان الحكومة فتح المطار أمام الوافدين والمسافرين..
تقرّر موعد إنطلاقِ طائرتها فازداد خوفها..
ستصبح بعد ساعات يتيمة الأهل والوطن دفعة واحدة..
جلست بجانب والدها، انحنت تقبّلُ يديه تودّعه ثم أعطته قفّازين طبّيَيْن وطلبت منه أن يرتديهما
فاستغرب طلبها واعترض عليه وهو المحجور في المنزل لا يخرج منه حذرًا من “الكورونا” التي تجتاح العالم، فابتسمت كعادتها وأصرّت على ذلك، وكعادته لم يرفض لها طلبًا فهي ابنته الحنون(قريد العش)الصغيرة والوحيدة بين صبيّين.
دقائق… وراحت تنزع القفّازين من يديه، طوتهما برفق ووضعتهما في حقيبة يدويّة صغيرة لتشمّ ما علق من عطر يديه في غربتها فتنعش أنفاسها..
ها هو الوقت يعلن ساعة الصّفر..
حملت طفلها، فاقترب منها والدها وأخذ الصّبيّ الذي اعتاد أن يستيقظ على صوت مناغاته الذي طالما أسكن وأسكت عنين آلامه وأوجاعه، ولم يكن لينام قبل أن يطبع فوق وجنته قبلة يزفر فيها كلّ تنهّدات عمره، وضمّه بين ذراعيه والدّموع تبلّل لحيته البيضاء حتّى لتخال نفسك أمام عنفوان صنّين في ذوبان ثلوجه ، وتمتم قائلًا : لقد اغتالوا مستقبل شبابي حين اقتطعوا منّي حقوق راتبي ، وسرقوا أحلام شيخوختي، وحرموا أذنيَّ أجمل كلمة انتظرتها طوال عمري كي أسمعها من حفيدي وهو يناديني “جدّو”.
وغامت عيناه بضباب الدّمع الكثيف، وأجهشت أمّها المريضة بالبكاء والتي طالما كتمت حزنها الذي يعصر فؤادها وهي ترى فلذة كبدها تستعد للإنسلاخ عنها للمجهول..
موقف مؤثّر كانت الإبنة تعيشه كلّ يوم وتستبق مشاهده في خيالها، تترقّبه وهي عاجزة عن ردّ القضاء المحتوم الذي فُرض عليها وعلى الكثير من اللبنانيّين الذين عاش الوطن في قلبهم، لكنّهم عجزوا أن يعيشوا في قلب الوطن.
# الكاتبة عايدة قزحيّا / الجزء 1 من مجموعتي القصصيّة “قلوب مهاجرة ” .