فشل الدولتجية
عصر الإنحطاط في لبنان، سبق عصر النهضة. كلا العصرين كان في ظل بني عثمان. وأما النقاد فمايزوا بين عصر الولاة، وعصر الإمارات وعصر المتصرفية. صنف النقاد الأدب قبل الحرب العالمية الأولى، إلى أدب الإنحطاط، وإلى أدب النهضة، وتركوا لبعد الحرب الأولى، ظلال الحداثة. جعلوا الأدب الحديث، معطى غربيا بالكلية. عزوا ذلك لإفادة الكتاب والأدباء، من التيارات الأدبية الحديثة الوافدة من الغرب، إن مع المهاجرين، أو مع الوافدين، من المهاجع الغربية.
لم ترق هذة التثصنيفات لكثير من النقاد. حتى قال قائلهم: إن بين شعراء العصر الجاهلي، من هو أكثر حداثة، من شعراء العصر الحديث.
إستند هؤلاء النقاد، إلى الأثر الأدبي نفسه، وإلى ثقافة الشاعر وأيدلوجيته الثقافية.
لا ينسحب مثل هذا التصنيف، على الحكم في لبنان، ولا على الإدارة فيه. فهو لم يبرح عصر الإنحطاط الذي نعيبه، عند بني عثمان، وكذلك عند بني الإفرنج، وحتى عند بني الأخوان وحتى عند بني لبنان.
كان اللبنانيون يحيلون عجزهم السياسي والإداري والإقتصادي، إلى ولاة أمورهم، تماما مثلما كانت بلدية طرابلس، تحيل فسادها في الإدارة والتنظيم، إلى هيمنة الأخوان. غادر الأخوان طرابلس في يوم واحد، ولم تصلح أحوال طرابلس، بعد كل هذة الأعوام.
كان اللبنانيون يشكون دائما الهيمنة السورية، على قطاعات الدولة وإداراتها ووزاراتها، وشؤون إنتخاباتها وتعيناتها، والحفاظ على مصالحها ومرافقها ومنشآتها. كانوا يعلقون كل أثمالهم البالية والمتسخة على المشجب السوري.
خرج الأشقاء السوريون في يوم واحد، ولم تعد الحياة اللبنانية بعدهم إلى الحياة الطبيعية.
ما عرف اللبنانيون يوما، الحفاظ على الدولة بعد الإستقلال. ولا عرفوا بنيان دولة تراعي شروط الحداثة وشروط الديمقراطية وشروط العدالة بعد الإستقلال.
كانوا مثل النمل، يهدمون ما يبنون. كانت وزاراتهم و إداراتهم، جحورا منخورة من الداخل. يفتك بها جماعات النمل فتكا عجيبا. كانت مثل بيوت اللصوص، بل مثل كهوف الحرامية.
كانوا يحيلون إهتراء الوزارات و الإدارات و المصالح شبه المستقلة، إلى عبث المتآمرين، وإلى تدخل الطارئين، وإلى تآمر المتآمرين.
راقت للبنانيين نظرية الإستقواء بالخارج. فقالوا بها، حين تذهب الرياح بهم، وحين يقتلعون من مراكزهم، وحين تخرب البصرة في ولايتهم.
ما عرف اللبنانيون السبيل إلى إصلاح نفوسهم. ولا إلى إصلاح عقولهم. ولا إلى إصلاح أيديهم. ولا إصلاح ذات البين بينهم.
كان همهم، جمع المال، ولو على حساب البلد. ولو على حساب أهل البلد. ولو على حساب الدولة وحقها بالمال العام. ولو على حساب لبنان الولد.
كانوا طيلة عقود دولتهم، كما قال الجاحظ: “من أهل الجمع والمنع”. فما نشأت لديهم منشأة حديثة، إلا أفسدوها.
إنظروا إلى المخافر وهياكلها، وإلى السجون وأوضاعها، وإلى الجامعات وأوصافها، وإلى المدارس والثانويات. وإلى للطرقات والأوتوسترادات، والنافعة، والجمارك، و… و… و…
لسوف نترحم على القدماء، لأنهم كانوا أرحم منا، بنا. فما دخل السوس إلى أخشاب الدولة، ولا دخل النمل إلى رمولها، ولا أشعلت الغربان النيران في طاقاتها، وفي عماراتها، وفي مرافقها، وفي عماراتها.
كثيرون اليوم يقولون بزوال لبنان. يعزون ذلك لفشل دولته بعد تجربة قرن من الزمان.
أفلا يشعر الحكام والظلام، بمهانتهم، وهم يؤنبون في العلن على لسان الزوار من أهل الشرق ومن أهل الغرب، على ما جنت أيدهم على الوطن.
غابت الدولة العثملية عن لبنان، وظلت “الدولة الدولتجية”، معششة في نفوس اللبنانين، ولا ندري متى نتمكن من الخروج إلى مناعة القطيع.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية
# زاوية “شهرياد الكلام ” باشراف منتدى شهرياد الثقافي في لبنان .