كشفُ الكَوامِنِ في ” همْسِ الأماكِنِ ”
(دراسةٌ في ديوان ِالشَّاعرِ وليد عبد الصَّمد الصادر عن دار فواصل في بيروت )
الجزء الثاني
الدكتورة : هزار أبرم – سورية
الدراسة الأسلوبية
لقد امتلك الشاعر ثقافة لغوية أدبية وذوقية أمكنته من التجوال والتأرجح في ملكوت شعوره وانفعالاته, فنقلها معبراً عن أدق تفاصيلها, بكل وضوحها أو غموضها, ودفئها أو برودها, صمتها أو صخبها, من خلال تقنية شعرية استخدم فيها الشاعر البنى اللغوية على مستوياتها كافة (الصوتي, والتركيبي, والبلاغي, والدلالي).
المستوى الصوتي: استطاع الشاعر توظيف بعض الظواهر اللغوية الصوتية بغية التأثير في المعنى وإعطائه بعداً خاصاً, سنحاول تلمس وظائف بعض هذه الظواهر, وتحديد معانيها وإيحاءاتها, وإسهامها في المعنى العام نحو:
- ظاهرة التكرار: فقد ورد التكرار على مستوى الكلمة, فمنح القصيدة امتداداً وتناغماً في شكل ملحمي, انفعالي متصاعد نتيجة لتكرار مفردة بذاتها، فأضفى بذلك على القصيدة قوة وصلابةً, كقوله في قصيدة ” ظالمة حروفي”(59):
كتبتها هجاءً وافتراقاً
كتبتها عتباً وانتظاراً
كتبتها لوعةً واحتراقاً
فالتكرار منح القصيدة توازناً موسيقياً محسوساً من خلال النظم الإيقاعي للمفردات في عدة أشطر منها, وكذلك الشأن في تكرار العناصر التركيبية الواحدة في تلك الأشطر نحو الآتي: ( فعل + فاعل + مفعول به+ حال) .
كذلك وردَ التكرار على مستوى الجملة فكان لهُ دورٌ تنظيمي ترتيبي في توكيد المعنى, والإصرار على إظهاره كقوله في قصيدة ” من أنت ؟ “(14) :
لست أدريكِ,
أتيتِ كفجر عيدٍ,
خلسة دخلتِ أيامي….
ولست أدريكِ,
صِرنا روحاً واحدةً, أنا وأنتِ,
فلم أدركُ لماذا أنا, ولماذا أنت ؟
- ظاهرة الجناس: فمن المعروف أن للجناس دوراً بلاغياً, ودلالياً, وجمالياً, فهو يضفي على النص عذوبة من خلال التماثل في الوحدات الصوتية, كما يمنح جرساً موسيقياً واضحاً من خلال تكرار الأجزاء المتماثلة, وهو أيضاً باعثٌ على تماسك المقطع في القصيدة, وتجلى ذلك في قصيدة “ تبغي”(65) : عيناها تبغي
وهي على الروح تبغي
جسدها لفافتي
الشغف يُشعلني
ليتها تقتربُ, وكما أبغي تبغي
تبرز براعة الشاعر هنا في قدرته على توظيف ثروته اللفظية في خدمة معانيه التي يقصدها, وذلك من خلال استخدامه لفظة واحدة للدلالة على عدة معانٍ كلفظة ” تبغي” التي أراد بها في ورودها الأول الدلالة على ( لفافة التبغ), والثاني ليدل بها على (الهيمنة والسيطرة), أما الثالث فقصد بها ( الرغبة والإرادة والتمني).
3- ظاهرة السجع : فمن شأن السجع أن يضفي على القصيدة نغماً موسيقياً, يتجلى بوضوح في حرص الشاعر على إظهار قصيدتهِ في أبهى حُلّة, وفي توفير جانب الإيقاع, ونلمس ذلك في عدد من القصائد منها قصيدة ” ثلاث نساء”(57) :
كيف أكتب النهابات
وفي فمي ثلاث نساء ؟
حمراء تتهادى,
سمراء تتلوى,
شقراء تتغاوى…
كيف السبيل, لأقرأ البدايات ؟…
في بحر الجميلات.
- ظاهرة الوقف: لعلّ أبرز علامات الوقف هي” الفاصلة ” التي تواترت بشكل ملحوظٍ في معظم القصائد, لِما لها من دلالات لغويةٍ تضفي على جانبها الصوتي بصمة تخلّف أثراً في نفس القارئ من ناحية, وتعكس في آن معاً الحالة النفسية للشاعر, وما يجول في فكره من ناحية أخرى, ونلمس ذلك في عدد من القصائد كقصيدة ” ظالمةٌ حروفي”(59), و في قصيدة ” سوسنة “(85), إذ قال: فما الحب
إلا وجدُكِ,
ظُنونًكِ,
آثام عشقًكِ…
أنثر حروفي لتبقى
خميرة العمر,..
فقد جاء الترتيب والتعقيب الذي أدّاه تواتر الفاصلة هنا ليدل على تراتُب بعض المفاهيم لدى الشاعر وأهميتها. فالحب هو الوجد, والظنون, وآثام العشق, والحروف خميرة للعمر.
– المستوى التركيبي: تتجلى الخصائص التركيبية للقصيدة في شعر وليد من خلال تركيب الجمل وتراوحها بين الاسمية والفعلية, والإنشائية الطلبية ( كالأمر والنهي), والأساليب الإنشائية غير الطلبية ( كالنداء والاستفهام والتعجب, والقسم), وكذلك الأساليب الخبرية.
التراكيب النحوية :
1- الجملة الاسمية ودلالاتها: تُعدُّ الجملة الاسمية شكلاً من أشكال التراكيب الإخبارية التقريرية التي يستخدمها الشاعر في أبياته ليؤكد من خلالها أفكاره وقناعته, وما يريد أن يوصله إلى القارئ من مثل قوله في قصيدة “ جهنم الأنثى”(88) :
هي للأنفاس حبلُ مْشنَقةٍ
هي للروحِ سكرةُ ندى
وممّا يسجَّل للشاعر أنّ جملته الاسميّة لم تكن على شكل نحويٍّ واحدٍ, بل جاءت منوعة التركيب, فزاد ذلك من تأثير الخطاب في المتلقي، ففي قصيدته “جهنم الأنثى ” نلحظ أنّ العنوان جاء جملة اسميّة بتركيبٍ فريدٍ, فهذا التركيب يمكن أن يؤول على أنّ (الأنثى) هي الخبر وهذا التأويل يفتح أفقاً عجيباً يجعل الأنثى عالماً يخبّئ المفاجآت الكثيرة، أو أن يكون الخبر هو(جهنّم), والشاعر قد جعل الأنثى مضافة إلى جهنم ممّا يؤكد ثبات تلك الحرارة الملتهبة من المشاعر الجياشة التي تمور في صدره. وفي قوله في قصيدة ” بريق قمر”(82) :
هي المطُر للأرضِ ترويها
هي الموج ُ للشطآنِ تقبلُها
هي الحريةُ للطيورِ تشدُوها
نجد النغمة الثلاثية نسجت بساطاً من الماديات والمعنويات دفعةً واحدةً مطر وموج وحرية, ومما زاد المشهد حيوية ختام الجمل الاسمية الثلاث بالفعل المضارع الذي يحمل ديمومة وثباتاً كما هو حال ثبات الجملة الاسمية، وهذا حسن التقدير من الشاعر، فلو جاءت تلك الجمل الثلاث على ترتيب مختلف لشتت انتباه المتلقي ولنقص منسوب التفاعل مع آهات وليد العطشان أبداً.
- الجملة الفعلية ودلالتها : لقد سادت الجمل الفعلية في معظم القصائد تقريباً, وبرزت من خلال أهم أركانها وهو الفعل الذي جاء بكل صيغه معبراً عن حالات الشاعر الشعورية, فأمّا الفعل (المضارع) فقد كان حضوره مكثفاً, وكان دليلاً على ارتباط الشاعر بواقعه الذي كان يجسّده بكل تفاصيله وأحواله, فاعتمد عليه اعتماداً كبيراً لأنه يرتبط بتجربته وبحاضره وبمستقبله, حتى أنه قد ترد أفعال قصيدة بأكملها بصيغة المضارع نحو قوله في قصيدة ” غار”(111) :
وتسألني عن الدفء!!
وهل من دفءٍ إلا في غار مقلتيها ؟
الشوق يقتربُ,
كسكون يسبقُ عاصفة
تحملُ ندىً يبللُ تراب العشقِ
ويروي عطش البساتين في عينيها,
وكذلك يرد الفعل المضارع الدال على المستقبل كقوله في قصيدة ” جنان العشق”(51) :
تبتعدين وأنت قريبة…
تبتسمين والعين تغرق
بنثرات الدمع القاتل,
ولست أقوى على الابتعاد بعد اليوم…
لن أستكين بعد الآن,
سأقترب من سور حدائقكِ
سأسبحُ في بحرِ عينيكِ.
فالأفعال المتلاحقة المتصدرة بالسين تنبئ أنّ في وجدان الشاعر وليد فرساً أو جواداً يتوق إلى الانطلاق، إنّ السين جعلت مشاعره وكأنها أسد يوشك على الفرار من قسورة تحبس أنفاسه، وهي المخلص له من الكبت في داخله, إنها الطموح المشروع من وجهة نظره, وهي سفر في بلاد لا مكان للمستحيل فيها، ولا يخفى ما في السين المضارعة للمستقبل من شهوة في التغني بالآمال العريضات التي تلمع بين عينيه.
وكذلك الحال في قصيدة ” شوق “(79), ومن شأن الفعل المضارع أن يهب النص حركة وحيوية مؤثرة, ويختزن طاقة الشاعر وتجربته القابلة للتجدد في كل قراءة, وخاصة حين عبَّر الشاعر عن معاناته الطويلة والمستمرة في التيه بالحب وآلام الشوق واستجداء اللقاء نحو قوله في قصيدة ” تيه”(37) مستخدماً فيها الأفعال المضارعة التي تدل على الاستمرار في الحال والمستقبل:
التيهُ فيها خمراً سقاني
تلعثم الفؤاد, وبالخفقان أضناني…
بين يديها طفلاً ألقاني,
بها أذوبُ كشمعةِ أشجاني
بقربها يضيع الوقت
كأنما اليوم بدءُ زماني…
أمّا حديث الذكريات بآمالها وآلامها وأحزانها وتفاصيلها, فكان الفعل ( الماضي), أداة الشاعر في التعبير عنها هو فتارة عبَّر الشاعر عن ماضٍ حزين, وتارة أخرى عبَّر عن ماضٍ سعيد, فقال في ماضيهِ الحزين في قصيدة ” أنين قلب” (49): لماذا …؟
يا مَنْ احتجزتِ معك الروحَ
خطفتِ المشاعر, رحلتِ بعيداً…
تركْتِني أنتشي بالجراح
بحثتُ عنكِ الأماكن…
لا جواب…
إلا صدى الآهات بصدري…
فالماضي في شعر وليد ماضٍ مفعم بالآلام والآمال بل يمكن أن نقول إنّ ثمة تناغماً بين سين المستقبل والفعل الماضي فالأولى نعني السين هي تعويض أو محاولة تعويض من الشاعر عن ماض فاته كثيره، فالحنين الذي غافله, والغضب الذي غازله, والدمع الذي سقيه وغير ذلك, جعله يحترق بالماضي الأليم، وهنا يأتي المستقبل بمنزلة المخلّص الأسطوري العجيب.
- الجمل الإنشائية الطلبية : جاء استخدام الشاعر للجمل الإنشائية الطلبية كأسلوبي الأمر والنهي ليعكس سلطوية وقوة مواقفه, وتعظيمه لذاته وفكره, واعتزازه بنفسه, وبدا ذلك من خلال استخدامه أدوات النفي نحو: ( ما, ليس, لا) مقترنة بالإنشاء الطلبي كما في قصيدته ” زرعتك قمحاً “(77) :
لا يغرنكِ أني حَملٌ وديعٌ
فلست سوى ثعلبٍ شريدٍ
ولا تهربي بي إليكِ سعياً….
يا امرأة … استفيقي من سباتكِ
زرعتُ صحراءك قمحاُ
فاعشوشب في الهشيم ناراً
في الواقع لقد تميّز إحساس الشاعر وليد بالعنف العاطفي في مواقف كثيرة، وأكثر ما نلمس ذلك أو نسمعه في الاضطرابات التي صورها أسلوب النهي العجيب فحين يقول: ( ولا تهربي بي إليكِ سعياً) فهو لم يقل جملة شعرية فحسب، إنها جملة شعرية تساوي قصيدة وكأنه يقول إن ما تفرون منه ملاقيكم!
كذلك لا يخفى الوقعَ الذي يحدثُه فعل (الأمر) بعد مجموعة من المتواليات اللغوية المشحونة بالنهي, إذ يأتي الأمر على صورة هدنة تنذر باستئناف المسير من جديد وقد يكشف الشاعر عن سلطوية وروحٍ استبدادية تجلّت بتعدد استخدام فعل الأمر في القصيدة الواحدة نحو قوله في قصيدة ” تكلمي”(12) :
تكلمي أطلقي العنان لمشاعرك
فليس في الحب خجلٌ…
اصرخي, وبأعلى الصوت قولي هجواً…
قولي غزلاً … يروي الظمأ
ونرى أن الشاعر أكثر من استخدام فعل الأمر بشكل لافت, ولم يكن مبعث هذه الكثرة دلالة على السلطوية أو الاستبداد والديكتاتورية فحسب, فقد خرج الأمر عن معناه للدلالة على الاستكانة, والاستجداء, والترجي, والتمني, والطلب, والاستغاثة, فمن دلالته على الاستجداء والترجي قوله في قصيدة ” منذ الأزل” (39): شقي عُباب البحر بأشرعة يديكِ
خذيني إلى قصرك المزروع
على ضفافِ أنهاري,
ومن دلالته على استغاثة وطلب قوله في قصيدة” أغرد هذياني” (42), وقد تعلو صرخة الاستغاثة والطلب كما في قصيدة ” مفنون” (46), وقد يجمع الشاعر بين الاستجداء, والاستغاثة والطلب معاً كما في قصيدة ” ملاك وشيطان”( 48) .
– أسلوب الاستفهام : من شأن الاستفهام الاستعلام عمّا في ضمير المخاطب, أو طلب حصول صورة الشيء في الذهن وما إلى ذلك, وقد يخرج عن معناه لدلالات أخرى ( كالتشويق, والإنكار, والتمني, والتعظيم, والتعجب, والتحسر والتوجع, والاستجداء, والعتاب, والتقريع) وغيرها.
فقد استخدم الشاعر الاستفهام في كثير من المواضع, وخرج عن معناه إلى معانٍ ودلالات مختلفة نحو( العتاب, والاستنكار, والتعجب, والاستجداء,..) وغيرها.
فدلّ الاستفهام على العتاب والحسرة كقوله في قصيدة ” منذ الأزل”(38):
آهٍ…آهٍ … لماذا تأخرتِ؟
ميعادنا مرسوم منذ الأزل !!
ودل على التعجب والدهشة كما في قصيدة ” أنتِ كل الوجد” (70), حيث عبّر عن اندهاشه وتعجبه من تلك المرأة التي استطاعت أن تختصر ماضيه, وحاضره, ومستقبله. وقد يتحول الاستفهام للتعبير عن حوار داخلي ومناجاة واستجداء (مونولوج داخلي) فيدل على معاناته وصراخ الذات من هزيمة وانكسار وتشتت, وقد عبّر عن ذلك في قصيدة ” من دونها” (66), وقد يدلّ الاستفهام على تعجب وتهكم في آنٍ معاً, كقوله في قصيدة ” غار” (111) :
وتسألني عن الدفءِ !!
وهل من دفءٍ إلا في غار مقلتيها؟
وكذلك ورد الاستفهام لطلب التخيير بين أمرين غامضين, إذ وقع الشاعر في حيرة من أمره, بين الوهم والهوى, وبين الداء والدواء, كما في قصيدة ” فيض الصباح”(87) وفي قصيدة ” جهنم الأنثى” (88) حيث قال : غضبتْ فإذا بها تقتربُ
جهنم الأنثى فيها تشتعلُ
منْ يُطفئ البركان
حين يثورُ وينفجرُ ؟
فالاستفهام لدى الشاعر جاء مختلفاً ألوانه، وقد اتسم بسمة بارزة كامنة في شخصيته, كشفها غير أسلوب من أساليبه، ولعل أقرب تفسير لهيمنة الاستفهام هو ابتزاز الحيرة في تفكيره ووجدانه، فالشاعر وليد رجل التقلبات الكثيرة والكبيرة, بل هو رجل التناقضات أيضاً، فبعض الشعراء نجدهم يستفهمون عن أمور تنتمي إلى محور واحد من التفكير, أمّا شاعرنا فكان في بعض مواقفه على طرفي نقيض، فأين قوله : (منْ يُطفئ البركان حين يثورُ وينفجرُ ؟) من قوله: ( ما السرُّ؟ لقاءٌ أم فراقٌ؟ فقد استخدم الشاعر أسلوب تجاهل العارف لينتزع اعترافاً من المرأة بأنها هي القادرة على إطفاءِ لهب الحريق أو إشعاله.
– أسلوب النداء: شكَّلَ أسلوبُ النداء ظاهرة أسلوبية بارزة في الأبيات, لِمَا له من جمالية في إضفاء ظاهرة التنغيم في كل مرة, ولِما له من دلالات كالتعبير عن المناجاة, والاستعطاف, والعتاب, وقد يقترن النداء بأداة استفهام نحو قوله في قصيدة ” أنين قلب”(49):
لماذا…
يامَنْ احتجزتِ معكِ الروحَ,
خطفتِ المشاعر, رحلتِ بعيداً,
تركْتِني أنتشي بالجراح ؟
وقد دلَّ النداء على تعظيم المنادى, وإعلاء شأنهِ كقوله في قصيدتهِ “غزلُ كلماتي” (60) :
يا كُلَّ امرأةٍ دَنتْ من شطآني,
يا كُلَّ امرأةٍ رسمتْ على أوتاري
يا كُلّني…
لقد ورد التكرار بالنداء في هذا المقطع الشعري, ليدل على أن ثمة وسواساً قهرياً يلحّ عليه, وسرعان ما تخلّص منه بكلمة واحدة جامعة فقال: يا كلّني.., فدلَّ هذا النداء على تعظيمٍ مطلقٍ لمكانة المنادى, وكذلك دلَّ النداء على عتابٍ واستسلامٍ نحو قوله في قصيدة” أغرّد هذياني” (42):
يا امرأةً اختصرتْ دنيايَ
ماذا فعلتِ بي ؟
لقد جاء نداؤه عميقاً حزيناً يناغي الروح التي تصافح بوحه وأنينه وآهاته، فالصياح الذي ولد من رحم مناداته يحمل عبق ماضيه وحاضره ومستقبله، فهو حين ينادي: ( يا امرأةً اختصرتْ دنيايَ ) إنما ينادي مجهولاً في لا شعوره, هو يبحث عن تلك المرأة التي يناديها في مخيلته، وليس عن جسد امرأة كما توُهم بعض قصائده، بل هو يبحث عن أنثى يذوب فيها روحاً, ويتّحد بروح تفهم آهاته التي تظهر حرقتها في كل نداء تصيحه عروقه.
المستوى الدلالي : إن اختيار الشاعر لألفاظ وتراكيب بعينها, يدل على امتلاكه تعدّداً لمجالات الاختيار اللغوي, وهذا متعلق بإحساسه ورؤيته, إذ تنشأ علاقة خاصة بين الشاعر واللفظ, فيؤثره على غيره ويختاره, فيشكل بذلك حقولاً دلالية, تنوعت تبعاً للموضوعات التي طرقها الشاعر فمن بين هذه الحقول الدلالية :
1-حقل عناصر الطبيعة: فمن الألفاظ التي وردت وشكلت حقلاً دلالياً نحو: ( أرض. نسمة, نور, قمر, الصحراء, الضحى, الصباح, السحر, الليالي, المساء, النهار, نجمة, الشمس, الشاطئ, بحر), فلم ترد هذه الألفاظ بمحض الصدفة, بل كانت كل هذه العناصر تشارك الشاعر مشاعره وأحاسيسه في كل تجلياتها, من شوقٍ, وحب, وتيهٍ, ويأس, ووحدة, وفرح, وغيرها, وقد وفّق الشاعر في توظيفها أفضل توظيف.
2-حقل الحزن والألم, والوحدة واليأس: حفلت القصائد بالعديد من الألفاظ, من أسماء, وأفعال, ومشتقات, وغيرها نحو:( تائه, شريد, صامت, هارب, مستكين, حائِر, تَعِب, جريح, قلق, وحيد, منكسر, عزلة, آهات, دمع, أنين, بكاء, أوجاع , يصرخ, يفتت).
ولا شك أن ذِكره لهذه الألفاظ كان مبعثه معاناته واستمرارها, ووحدته وضياعه, بل شدة انفعالاته وأحواله ومكنوناته النفسية التي تراوحت بين الهدوء والانفعال, أو بين الحزن, والصمت والاستسلام, والاستكانة, والعزلة, واليأس.
3-حقل الحب والعشق : لقد أجاد الشاعر في التعبير عن جملة عواطفه في الحب, وعذاباته, وشوقه, من خلال عدد من الألفاظ نحو( شغف, لقاء, شكوى, شوق, جنون, لهفة, عناق, بوح, مناجاة, هيام, توق, فراق, حنان, وجد, هوى, تنهيد).
4-حقل الخمرة والشراب: أورد الشاعر العديد من الألفاظ كالأسماء التي ترتبط بمجلس الشراب والخمر والسكر منها( أكواب, أقداح, كؤوس, سكر, تيه, ثمالة, سَهَر, نشوة, انتشاء, نبيذ), ومن الأفعال: ( تخمّر, شرب, تعتّق, سقى, رشف, تاه, ثمل).
5-حقل معاناة الحبّ وعذاباته : شهدت حياة الشاعر مرحلة عصيبة من المعاناة في علاقته مع الحب والمرأة, فعبّر عنها بعدد من الأفعال الدالة على هذه المعاناة وشدة عذاباته نحو: ( نذوبُ, تُفتت, تُخمدُ, تكوي, تنْهشُ, تحرقُ, تُشْعلُ, يقْتًلعُ, تجتاحُ, تتلاشى, تنفجرُ, يُمزّق, تثور), وغيرها.
6-حقل المرأة وما يتعلق بها: لقد عَرضَ الشاعر لوصف المرأة وصفاً مباشراً, فذكر العديد من الأسماء التي تشير إلى أعضاء جسدها من مثل:( خصر, عينين, وجنتين, خدين, مقلتين, غمازة, وجه, شفاه, يدها, جسدها, شعرها, قلب), ونرى أن ذكر الشاعر لأسماء أعضاء جسد المرأة, يؤكد مدى اهتمامه بأدق تفاصيلها وأثر ذلك في نفسه, كما تعبّر هذه الألفاظ والمترادفات عن فكره التحرري وثقافته.
المستوى البلاغي : لعلّ ثقافة الشاعر وعمق تجربته الشعرية, جعلته قادراً على توظيف جملة من التقنيات الفنية في تأملاته الشعرية مثل: الرمز الذي تجلى في عدد من القصائد نحو:( وميض (80), وعطور(105), ونهدة حائر(109), والحوار الذي يُعد من أساسيات الحداثة, وقد تجلى بنوعيه المباشر, وغير المباشر, وكذلك المحسنات البديعية كـ (الطباق, والجناس, والسجع), والصور البيانية كـ ( التشابيه, والاستعارات بنوعيها التصريحية, والمكنية, والكناية).
فأما الرمز: فتجلى في قدرة الشاعر على توظيف اللغة الإيحائية في محورين :
- التقاط التجربة, والحالة الشعورية في أرق حالاتها.
- التماس الإطار الشعري المرن الذي يستطيع استيعاب المشاعر بطريقة غير مباشرة.
ويمكن للرمز أن يستغرق قصيدة بأكملها, كما في قصيدة “عطور”, ويمكن أن يرد في القصيدة ليزينها تزييناً فحسب مختزلاً طاقة شعورية فذّة قد سيطرت على الشاعر في موقف من المواقف.
فمن المعروف أن ( الوردة الحمراء) شكلت رمزاً تقليدياً في الموروث القديم وما زال يدل على الحب والعشق, فأما الرمز عند الشاعر فلم يخرج عن هذا الإطار, بل كان ينسجم معه انسجاماً جميلاً, إذ جعل الشاعر العطر وهي رائحة الورود والزهور رمزاً للنساء في قصيدة “ عطور” (105), فقال: عاقرتُ من الأزهار ثُلث قرنٍ
ولم تثملني العطور
أرتشف أريجها في كل كأسٍ
أنتقيها كيفما استدرتُ…
كيف أرتوي وداخلي عَطشٌ
لروضٍ أقطف منه الحبور؟
وأما الحوار: فتجلى بنوعيه المباشر وغير المباشر, وقليلاً ما كان يلجأ الشاعر إلى الحوار الداخلي الذي تجلى عبر وقفاتٍ عديدة مع الذات تكشف عن مكنونات الشاعر الشعورية والفكرية سواءٌ تلك التي أراد أن يوصلها, أم التي عبرت عن ذاتها, كقوله في قصيدة ” لو تدري” (106) :
تدللتُ عليها, ولم أغازلها
فاحتارت كيف تعاتبني!
أببعدٍ… أم بجفاء ؟
ضحكتُ فغضبتْ,
ونور الخجل محياها, لو تدري أني
إذا ما نزفت دمعة من مقلتيها,
لغيّرت خارطة الكون
وجعلتها منديلاً أمسح به
ما سال على وجنتيها…
وأما الحوار المباشر: فبدا الحوار عفوياً مع بدء اكتشاف الشاعر للمرأة, حين راح يسألها سؤال الحائر, بل المتعجب في قصيدة ” من أنت؟ “(14), وفي قصيدة ” جربيني” (64), وفي قصيدة ” خيانة”(95), وكذلك في خطابه لها في قصيدة ” تكلمي”(12) :
تكلمي… أطلقي العنان لمشاعرك,…
اصرخي وبأعلى الصوت…
قولي هجواً… قولي غزلاً…
- الصور البيانية: لقد جسّد الشاعر تجربته الشعورية عبر مراحلها المتعددة, وعبّر عنها في صورٍ عديدة تبرز موقفه من كل مرحلة بكل أبعادها الفنية والإنسانية, وذلك لارتباطها الوثيق بمعاناته وأحزانه وتيههِ, وقد تمثلت هذه المعاناة في ذلك الحشد اللافت للصور الفنية التي أملتها عليهِ تجربته للدلالة على قوة وشدةِ هذه المعاناة من ناحية, وقدرته على تجسيدها من ناحية أخرى, مستخدماً (التشابيه, الاستعارات بنوعيها التصريحية, والمكنية, والكناية)
إن أهم ما يميز الأسلوب التصويري الفني للشاعر وليد هو تداخل وحشد عدد من الصور في مقطع شعري واحد, وأحياناً في بيت واحد, كما في قصيدة ” أغرّد هذياني” (42), وفي قصيدة ” تيه”(37), ونلمس أوضح شاهدٍ على تراكب التشابيهِ وتداخلها في مقطع شعريٍ واحد في قصيدة ” لم أتعب” (28): فحُبكِ سيدتي
سلبني شخصيتي…
أضنى حنيني,
أعمى نظري…
مسح ذكرياتي
أودعني سجن العيون.
إذ نلحظ أربعة تشابيه بليغة متتالية, أتبعها الشاعر بتشبيهٍ بليغ إضافي (حبك…أودعني سجن العيون), وفي سياق استخدام الشاعر للتشبيه البليغ نجده لجأ إلى استخدام بلاغة أشد حين استعان ( بالتشبيه البليغ الإضافي المقلوب), لما فيه من إثارةٍ للقارئ أو المتلقي تجعلهُ يتخيل المعنى على درجتين متتابعتين, فالأولى: الدرجة الأصلية ( التشبيه البليغ العادي), والثانية: الدرجة التي تحول إليها بَعدَ القلب والإضافة, فلم يكتف الشاعر بذلك فحسب, بل ربط صوره الشعورية بعددٍ من ( التشابيه الإضافية البليغة), وذلك في قصيدة واحدة أو مقطع شعري واحدٍ كما في قصيدة ” جهنم الأنثى” (88), و في قصيدة ” وهج ” (96) إذ قال :
البَوحُ فيها وهجُ تجدد
هي القصيدة والقافية لقاء
شغف الشعر
ينسالُ خمراً نرتويه (استعارة مكنية )
يمشي بنا عتمة ليلٍ…. ( استعارة مكنية )
وإلى بحرٍ ينادينا ( استعارة مكنية )
يلاطف الروح الحائرة فينا ( استعارة مكنية)
فهنا تستوقفنا جملة من صور فنية حسيّة تتراسل فيما بينها الحواس, فبوحُ الحبيبة المسموع ما هو إلا ضياءٌ مُتجددٌ ينتشر ألحاناً عذبةً, وقصائد شعرٍ تنساب لذة وحلاوة من خمر العشق, فهذا الضياء المشعّ من جمال حديث المحبوبة أنار عتمة ليلهما, وكأن الشاعر يستلهم ليل امرئ القيس ولكن ليله كان ساحراً خالياً من الهموم فقاده إلى بحرٍ تلاطفُ أمواجُه روحَيهما الحائرتين وتزيل الهموم عنهما, على حين أن أمواج بحر امرئ القيس كانت تزيد همومَه هماً إثر همٍّ.
أما ختام القول : فثمة سمة بارزة حاضرة جامعة لديوان الشاعر “همس الأماكن”, وهي وجود المرأة واقعية كانت أم مجازيّة, فأما الواقعية فهي تلك المرأة التي يكتمل بها الرجل وجوداً, وروحاً, وسلاماً, وطمأنينةً, وملاذاً, وحياةً, وأما المجازّية فتجلت في كيان الوطن بجامع الأمن والأمان والحب والحنان والوجود.
Thanks for finally talking about > الجزء
2 من دراسة د. هزار أبرم حول ديوان الشاعر وليد عبد الصمد ( كشف الكوامن في " همس الأماكن "
) – ميزان الزمان < Loved it!
my homepage :: https://alancarlsonmd.com