متحف الفساد
قبل الشروع في تأهيل مرفأ بيروت، أقترح بتأبيده خائرا منهارا، هاويا إلى الأرض. منكس الرأس، مشلع الأبواب. محطم السقوف. كسيحا. مبقورا مدفونا مقبورا. وحوله الأفنية والأبنية الخربة المهدمة.المتهاوية على بعضها كالعصف المأكول.
أقترح أن تبعث الأمم كلها، بمهندسيها، و بفنانيها. وبرساميها وتشكيلييها وبمصوريها وبسينمائييها. وكذلك بعباقرة الرسم الأسطوري، والرسم التجريدي، والرسم الواقعي. أن يرسلوا إلى جميع الأكاديميات للرسم والتصوير والفنون: يدخلون إلى “مرفأ بيروت” في ذكرى المئوية، ليبدعوا منه “متحفا عالميا” للخراب وللفساد. يجسد العباد والبلاد، بعد مائة عام، من تأسيس الكيان اللبناني، على الحرية والسيادة والإستقلال.
لا يدعو هذا الإقتراح للإستخفاف به. فقبل أن يدخله أي عامل، أو أي ماسح للأضرار الناجمة عن هول الإنفجار، يجب أن يدخله الفنانون، ليؤبدوا البرهة الفاسدة أولا. وليؤبدوا تاليا، الواقعية اللبنانية الإسرائيلية العالمية العصرية للجنون. حتى تكون عبرة لمن إعتبر. وحتى تكون ساعة في مرفأ بيروت، أدهش من ألف ساعة للجنون. لا أقول هذا الكلام جزافا. فقد تعرضت محطة سكك الحديد في ميامي- فلوريدا، لنكبة عظيمة، في أوائل القرن الماضي. فتحولت عنها السلطات، ودعت جميع أكاديميات الفنون، للنزول إليها، وتخليدها. ولا تزال حتى اليوم مقصد الزوار وأهل الفن، يبدعون فيها كل يوم.
ليس هناك أعظم من الفن، لتخليد الفساد الرسمي اللبناني، في مرفأ بيروت وخارج مرفأ بيروت.
وأنا أقترح أن يخلد مرفأ بيروت، مائة عام من الفساد في لبنان. فيبدع الفنانون صور الفساد في القصور الرئاسية. وفي الوزارات. وفي الإدارات العامة. وفي الإدارات المستقلة.
يبدعون صور الفساد في المؤسسات التربوية كلها: المدارس والثانويات والجامعات، العامة منها والخاصة.
يبدعون صور الفساد في المستشفيات بعامة والقطاع الصحي كله بخاصة.
يبدعون صور الفساد في قطاعات النقل، وقطاعات الإستهلاك.وفي مستودعات التخزين، حتى للطحين. وفي النقابات والأحزاب والجمعيات. ودور الاندية والملاهي، وحدائق ورياض الأطفال، ودور الايتام والشيوخ والعجزة، وسجون النساء وسجون الأحداث، فكيف بسجون أصحاب السوابق، من كل الأعمار.
يبدعون صور الفساد في المشاريع العامة: يرسمون السدود المائية المتهالكة التي لم يمر عليها الزمن. ويرسمون البنى التحتية لبيروت وطرابلس وصيدا وصور، وكيف تهترئ قبل أن يمر عليها عقد من الزمن. يرسمون معامل الكهرباء على الفيول والغاز وآبار المياه ومضخات الماء الأبيض. ومضخات الماء الاسود. ومطامر النفايات.
يرسمون سكك القطارات، ومجاري الأنهار والشواطئ والمرامل والكسارات. يرسمون بوابات وارصفة وعنابر المطار.
يرسمون كذلك الحدائق العامة وحدائق البلديات، وأرصفة المدن والقرى، وأحياء النزهات. يجعلون لها أجنحة في مرفأ بيروت، مرفأ الفساد.
يرسمون المعابر الشرعية. والبوابات والنوافذ المنافسة، غير الشرعية. يرسمون المرافئ الخاصة للطوائف والأسر وأهل السلطة وأهل الحكم والبواخر واللنشات.
يرسمون الأنهار والجسور والمصاب. يرسمون المشاعات والقلاع والمقالع. يرسمون الترسيم الملغوم، في الحقول البحرية وفي مزارع شبعا وفي الحاصباني وقرية الغجر والناقورة، وفي وادي خالد، وفي البقيعة وفي حنيدر وقرحا وكنيسة و أكروم. يرسمون البواخر الملغومة والحقائب الملغومة والمستوعبات والمخازن الملغومة.
ترسيم الحدود في لبنان، وحده، يمزج بين الفساد المحلي والفساد الخارجي، وفساد الأمم الأنيقة، وفساد أمم الخيش، وأمم العشائر والقبائل و الجنجاويد.
متحف للفساد في مرفأ بيروت، يجعل له الفنانون أجنحة، لفساد سائر المرافئ والمرافق، العامة منها والخاصة وشبه المستقلة.
عنابر تجريدية وحاويات رومنسية، وجداريات وغرافتي، وتماثيل لرجال الفساد، منذ الإستقلال حتى اليوم في ذكرى المئوية، هي أحوج للبنان تعبيريا، من جميع ألوان وأنواع الهبات و المساعدات، بمناسبة الزائر الفرنسي، إيمانويل ماكرون. ألم يكن لبنان إختراع فرنسي. ليته يسائلهم، كما ساءل عمر بن الخطاب، أبناء زهير بن ابي سلمى:
مر عمر بن الخطاب بأبناء زهير بن أبي سلمى، في الموسم بعكاظ، فقال لهم: ماذا فعلتم بالحلل السندسية التي أهداها الهرم بن سنان لأبيكم. فقالوا: أبلاها الدهر. فقال عمر: ولكن الحلل الشعرية التي أهداها الهرم لأبيكم لا يبلوها الدهر( قصائد زهير في الهرم).
في برهة التهديد بزوال لبنان بفساده، أحرى بمثقفيه أن يردوا، بمتحف للفساد في المرفأ، لأنه يجسد حقا الفساد المحلي والخارجي.
تقاطع فساد التاجر والفاجر. تقاطع فساد الشقيق والعدو والصديق. تقاطع فساد لبنان وفساد الأقليم وفساد ما وراء البحار. تقاطع فساد لبنان، مع كل أنواع الفساد، حتى كاد يغرقه. حتى ليكاد يزيله من التاريخ.
أفلا يكون لنا في ساعة مندم؛ ساحة ، مساحة، متحف للفساد.
# الكاتب د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية