لا أشبه الأنثى بشيء!!!!
كان أغلبية رفاقي من الصبية الأشقياء .
فعندما كنت أرتدي تنورة كنت لا أعود إلى البيت إلا وهي ممزقة ومليئة بالثقوب ..
كنت أتسلق الأشجار وأقود الدراجة الهوائية وألعب كرة القدم والتنس والقفز من أعلى الدرج ،كنا نضع بساطا على الدرج ونتزحلق، ونشن حربا ونتراشق بالأحذية ، ونقامر بلعبة ” الغلل ” تلك الكرات البلورية الصغيرة التي كانت تمثل ثروة بالنسبة لي.
يا لشقاء هذا الجيل الذي لم يحظَ بطفولةٍ شقية !
لم تسلم من شرورنا لعبة : القفز على الحبل ،الحرب والنار ،العواميد الأربعة ،الأكس، إشعال الحرائق ،وتدليك السيارات المركونة بالطين ،وثقب الإطارات ..
كان لجدي سيارة قديمة الطراز كانت مهجورة تحت شجرة الليمون الضخمة كنت أجلس خلف المقود وأمثل بأني أقود ويصعد الجميع إليها .فتقول هدى وهي تمسك سكينا تقشر ليمونة سرقناها من الشجرة :أنا عندما أكبر سأتزوج ملكا إذا أكملت تقشير هذه الليمونة.. يا لحظك العاثر يا عزيزتي لم تصدق الخرافة فلقد تزوجت برجل لا يشبه الملوك بشيء وما لبثت أن طلقته وعاشت حياتها وحيدة.
أما تلك الشجرة فمن حاول أن يقطف حبة نال نصيبه من الجلد. كنا ننتظر غياب جدي ونشن غاراتنا عليها ونتلذذ بمذاق الليمون الأخضر. إن لنكهة الليمون المسروق طعم خاص!
في كل خريف عند نزول الليمون الأخضر إلى الأسواق أتذكر تلك الشجرة الضخمة ورائحتها العطرة وجلساتنا تحت ظلالها الوارفة واحتفالاتنا الصاخبة اليومية ، كنا نجمع نقودنا ونشتري السكاكر ونقوم بطقوسنا ومهرجاناتنا التي تتخلل عروضا للأزياء والغناء والرقص والتمثيل .
لطالما كانت قصة شعري كالفتيان ،ملابسي بنطال جينز وقميص ،حتى مشيتي كعنتر ، وقفتي المتباعدة الأرجل ،كنت أتماهى بوالدي بكل حركاته وسكناته ، رغم أنني كنت أحب أن ألعب أدوارا متعددة فأقلد أمي وأرتدي ملابسها التي تتدلى على الأرض لصغري أو أجرب المشي بنعلها المرتفع فتنهال عليي بالصراخ والتأنيب “لقد أفسدت نعالي” أو أقوم بتلوين وجهي بالمكياج فأبدع برسم مهرج زاهي الألوان .
حتى أبي لم يسلم من مماهاتي له . أذكر حتى أنني حلقت ذقني فقمت بوضع المسحوق على وجهي وأنا أشعر بسعادة عارمة ، وكن من المدخنين للسجائر سرا رغم أن والدي لم يكن مدخناً يوما وعبدا لسيجارة ، فقد كان إدماني من نوع آخر , إدمان بلا دخان وبلا نيكوتين ومتوفر بالمجان وله تأثير المورفين ، فكان صديقي وملاذي الآمن في البيت والمدرسة وأثناء النوم واليقظة ..
كان إصبع الإبهام في يدي اليمنى، يغنيني عن الطعام , و كان يشعرني بالإطمئنان ويفرز دماغي هرمون السعادة في أي وقت إحتجته كنت أجده ! لم يتخلى عني يوما .
رغم أن الجميع كانوا ينهالون عليي بالشتائم لكي أتخلى عنه بعدة طرق , مرةً يضعون عليه الحرّ ومرة يضعون بذور القهوة ويدعون أنها من براز القط لكي أشعر بالقرف إلا أن حبي وإخلاصي كان يتفوق على محاولاتهم
كان أبي يتسلل إلى فراشي فيخرج اصبعي من فمي خشيةٌ على أسناني من التشوه ، أو أن تدخل الميكروبات إلى فمي فكنت أخبره لا تقلق يا أبي سأقوم بغسل يدي جيدا بالماء والصابون .و أقوم بتقديم براهين لأدحضها وأرفع عنه التهم .
أخبرتني والدتي بأن عمتي حين كانت تقطن معنا في بيت جدي بأنها كانت من تواطأت مع إصبعي لكي أبقى هادئة طوال الوقت . أدمنت إصبعي لدرجة امتناعي عن البكاء والطعام فكنت لا أشعر مطلقا بالجوع وكنت نحيفة جدا وأمتنع عن الطعام فتسبب ذلك بإصابتي بفقر الدم ، كان وجهي شاحبا دائما ، وكان الناس عندما يشاهدونني برفقة والدتي يتهمونها بالتقصير والإهمال فتغضب في البيت وتوبخني لأنني مصدر إحراج لها .
كان يدخلني إلى عالمي الخاص في حالة من الهدوء والسكينة .
لم يكونوا يدركون قيمته بالنسبة إلي . كان يمثل الأمان الذي افتقدته ،كان صديقي المخلص الذي لم يفارقني أبدا فكان دوما يمدني بالطمأنينة
كان أمي التي استبدلتها به .ربما كان حليبها لا يشعرني بالشبع ولا بالأمان .
لطالما رددت أمي على مسامعي أنت سبب تشوه جسمي ، لم أكن أريد أن أحمل بك ،لا تقولوا هذه الكلمات لأطفالكم فهم نتيجة نشوة لم تلبث إلا بضع دقائق .حكمتم عليهم بلعنة الحياة .
لا تنجبوا أطفالا تعجزون عن محبتهم ، أرضعي الحب لطفلك قبل الحليب أشبعيه من العاطفة حتى لا يبقى جائعا طوال حياته ..
ومن الإهتمام بحاجاتهم العاطفية قبل الفيزيولوجية .
لا تزرعوا بذورا ثم تدعونها بلا ماء تموت لحظة ولادتها عطشى…..
# ( الكاتبة علا محمود بيضون / لبنان )