مذكرات الأديبة والإعلامية الجزائرية حفيظة ميمي
مع الروائي الجزائري الكبير الطاهر وطار
في ذكرى رحيله العاشرة
.الجزء -1-
بقلم : حفيظة ميمي
ما زلت لا أصدق أن عشر سنوات كاملة مرت على رحيل عمي الطاهر ؛ الروائي الجزائري “الطاهر وطار” رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان.. وعهدي به قريب جدا وهو يصعد السلم ويعلق لوحاتي على جدار الجاحظية باحترافية وحب كبيرين رغم أنني خوفا عليه كنت مهووسة لحظتها بسنوات عمره التي قاربت الثمانين علها تتداعى فوق السلم ويسقط.. فكنت أترقب والخوف يسكنني وكان هو وكأنه يقرأ الجزع في عيوني رغم أن ظهره الذي كان يقابلني وهو معلق على السلم الخشبي العتيق بين الأرض والسماء فيقول مطمئنا ومازحا بجدية:
-هيا ناوليني اللوحة الأخرى.. فالوقت لا ينتظرنا.
فأسرع ملبية وفي خلدي نوايا الطيور المغردة ؛ من مثلي فنانة تشكيلية تمر لوحاتي على يدي عمي الطاهر واحدة تلو الأخرى يعمدها ببركته فتزهر على الجدران قصائد شعر وحكايا وأزهارا ملونة كقطعة من الربيع المستعار إلى داخل جدران الجاحظية العتيقة التي تعاني الرطوبة والتشقق.. وحتى عندما إكتشفنا أن إحدى اللوحات كسر إطارها لوحة “الحالك والملاية” وهي كبيرة الحجم نوعا ما 60×80 سم مع إطار خشبي ضخم؛ كيف تصرف حينها بسرعة وأرسل اللوحة إلى نجار مختص عالج كسرها وعادت ليعلقها بنفس الحماسة وقد جبر كسرها الى يومنا هذا كلما أطل عليها من الخلف وأجد تلك الخشبة المضافة إلى كاهلها تزيدها وزنا ومتانة أترحم عليه.. كما جبر عمي الطاهر يومها كل كسوري ومسح تعبي وإرهاقي أنا المسافرة من باتنة إلى الجزائر العاصمة ليلا لأصل مع الساعة الرابعة والنصف صباحا ومعي حمولة لوحات تكفي لبناء منزل.
سألني: لماذا لا تستأجري شاحنة للوحات وتأتين أنت معززة مكرمة.
قلت : سعر الشاحنة من باتنة إلى العاصمة غال جدا.
فرد : لا تقلقي الجمعية تدفع الثمن.
فقلت : لا داع سأتصرف.. فأنا متعودة على الطريق وعلى حمولة اللوحات.
قال : لا بزاف عليك حوالي 700 كلم ليلا ومعرض بأكمله.
لكنه عندما عرف المبلغ المعمول به وقتها تراجع هلعا؛ هذا يكفي لحمل أثاث رحيل منزل بأكمله يا ابنتي.. وخضع لرأيي أخيرا ؛ جانب خاص بالحافلة الباتنية التي أتعامل معها والعائلة لسنوات حيث تم إستغلال الجانب المخصص (للباقاج) لأمتعة السائقين الذي أفرغ خصيصا للوحاتي (35 لوحة) بكل الأحجام والألوان والأشكال.
لكن عمي الطاهر سألني للزيادة في الإطمئنان عن الساعة التي أصل فيها فقلت : حوالي الرابعة والنصف صباحا فقال:
ستجدينني عندك في الوقت بالضبط.
وصلت الحافلة في وقتها المحدد ووصلت ولوحاتي أخيرا إلى العاصمة مع الفجر.. أخذت قسطا من الراحة مع الإتفاق مع سائق الحافلة ببقاء حمولة اللوحات في مكانها إلى بزوغ الصبح حتى يمكنني التحرك في وضح النهار.. رن هاتفي عدة مرات فكل فرد من العائلة يريد الإطمئنان بنفسه على وصولي سالمة، عندما رن الهاتف مرة أخرى قلت مباشرة نعم وصلت فلا تقلقوا.. فجاءني صوت غريب يقول لي سأكون عندك بعد 20 دقيقة بالتمام فاستغربت من محدثي؟ عمي الطاهر..؟! يا للمفاجأة عمي الطاهر يتصل بي على الساعة الرابعة والنصف صباحا و يحضر في الموعد قال : لا لقد تأخرت خمس دقائق فأعذريني.. وحين قلت: لماذا تتعب نفسك يا عمي الطاهر.. قال : لا يمكنني أن أترك امرأة غريبة وحدها في الليل.. ألا يوجد في العاصمة رجال نحن أيضا شاوية نحن أيضا إرقازن ( رجال بالشاوية).
الجزء -2-
في المحطة البرية “الخروية” بالجزائر العاصمة أركب عمي الطاهر كل لوحاتي في سيارته وإهتم بها واحدة واحدة وكأنه يتعامل مع كائنات حية سواء في صندوق السيارة الخلفي أو الأخرى التي أخذت لها مقعدا مريحا في الخلف وراءنا وأقلنا إلى مقر الجاحظية بعد أن أشبع نهمه في الحديث بالشاوية مع السائق الذي تعاون معه في حمل اللوحات وبقيت أنا أتفرج كملكة فلم يسمح لي بالتدخل قط؛ ولمن لا يعرف عمي الطاهر فهو يحب سماع الكلام بالشاوية مستمتعا برنين اللهجة في أذنه ولو كلمة واحدة لا يكل ولا يمل في طلب ذلك من كل القادمين من الجهة.
تم تعليق اللوحات كل الصباحية وما تلاها من المساء إلى غاية إفتتاح المعرض والأمسية الأدبية لتقديم كتابي “ممنوع قطف الأطفال” مجموعتي القصصية الأولى و”باسم صاحب الإبتسامة الجميلة” وهي مسرحية تعليمية موجهة للأطفال تتحدث عن نظافة الأسنان مرفقة برسومات توضيحية بريشتي، شخصياتها خيالية مثل الفرشاة ومعجون الأسنان والسوسة.
وهما الكتابان الصادران في إطار سنة الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007م لكنهما صدرا بتأخر كبير وبالضبط مع بداية سنة 2008م
ولذلك كان الوقت مناسبا لتقديم الكتابين الجديدين بعد أشهر قليلة فقط من صدورها في مارس 2008 مع بقاء المعرض الفردي الخاص لأكثر من شهر.
إنشغالي بالعمل والتحضيرات للموعد الهام والمصيري بالنسبة لكامل مسيرتي الأدبية والفنية معا جعلني أنسى أمر الصديقة التي لم أتفطن لغيابها إلا حين غادر عمي الطاهر وإطمأن على أن المعرض الذي تزواج مع جدران الجاحظية في حالة من العشق اللوني الجميل لكامل اللوحات (داير ساير) ونال إعجابه وقسطا كبيرا من إنبهاره.. وبقيت أنتظر الصديقة التي لم تأت لا في الصباح ولا في المساء ولا حضرت الإفتتاح ولا.. وتلك حكاية أخرى دفعت ثمنها غاليا فقد بقيت الوقت كله تحضيرا للإفتتاح بترتيب بعض التفاصيل الصغيرة والقضاء على كثير الإرتباك الذي راودني فالموعد مهم جدا ستحضره الصحافة بكل وسائلها المكتوبة والإذاعة والتلفزيون ثم إن مواعيد الجاحظية الثقافية لها وزنها على الساحة الإعلامية.. فلم أتفطن إلا والوقت قد فات على الغداء الذي لم يهمني كثيرا رغم أنني لم أذق طعاما لقرابة 24 ساعة أي منذ أن كنت في بيتنا في باتنة؛ يا لكرمك يا باتنتي..! لكن ما كان ينقصني فعلا هو فنجان القهوة وتغيير ملابس السفر.. وشاءت الأقدار أن أفتتح الأمسية الأدبية ومعرضي الفني وأنا صائمة وبنفس الثياب التي أهينت أثناء السفر والعمل خلال تعليق اللوحات وذلك فقط لأن صديقة خذلتني..! قالت سكرتيرة بالجاحظية من أين إقتنيت فستانك؟ فقهقهت في سري لكنها حين عرفت السبب قالت: لقد كنت رائعة شكلا ومضمونا وأداء.. ونجح اللقاء مائة بالمائة فلا تهتمي بشأن لباسك حتى لا يعكر صفو نجاحك..فعلا فهي لم تبالغ ولم تجامل فقد ضحكت أسارير عمي الطاهر لنجاح اللقاء فوق كل تصور كما ضحكت أسارير عمي لعروسي(عبد الحميد لعروسي رئيس الإتحاد الوطني للفنون الثقافية unac)الذي إستدعاه عمي الطاهر لتقديمي فنيا في الجلسة الإفتتاحية للجمهور الذي كان منتشيا بضيفته الأديبة والفنانة التشكيلية وكنت أنا سعيدة بفني وأدبي وسعيدة أكثر بعمين رحمهما الله؛ أحدهما في الأدب والآخر في الفن هذا الأخير الذي في مجمل حديثه المسهب عني وعن أعمالي الفنية ومدارسها وألوانها وإنتماءاتها الميمية البحتة كشف سرا من أسراري قائلا: إنها بكاية من طراز خاص فلا تغرنكم شجاعتها وصمودها وقوة تحملها وفعلا أجلت دموعي إلى الليل وأنا أوضب قميصي بالماء إستعدادا للقاء مباشر في برنامج صباح الخير يا جزائر (صباحيات) بالقناة الجزائرية الثالثة كما بث الخبر في نشرة الثامنة وتناولته كثير من الوسائل الإعلامية.. ولولا عمي الطاهر الذي لا يعرف حنيته وإنسانيته العالية إلا من تعامل معه عن قرب لبت ليلتها في العراء.. فقد تدبر أمر مكوثي بالفندق ووبخني لأنني لم آكل شيئا إلى ما بعد الخامسة من ذلك اليوم أي بعد نهاية اللقاء رغم التعب والسفر وهرج الإفتتاح والصحافيين قائلا: لماذا لم تخبريني فقط؟ فقلت في سري أنا امرأة لا تقول جعت.. فأنا حفيدة جدتي لأمي الشاوية الحرة التي لم تأكل 12 يوما في الدوار وقت فرنسا وكانت طوال المدة تشرب من الغدير.
لكن المهم هو اللوحة التي ستمنح للجاحظية مقابل المعرض الفردي فقد كان هذا واحدا من شروط العرض في الجاحظية وهو أن يترك الفنان لوحة هناك للذكرى والعرض الدائم؛ بصمة يتركها الفنان بأنه مر من هنا ؛ مر من الجاحظية وما أدراك ما الجاحظية وقتها..! إضافة حقيقية في سيرة الفنان أو الأديب.. وقد كنت حضرت لعمي الطاهر مفاجأة وهو البورتريه بألوان مائية بلون الحناء وهو بأسلوب خاص بي.. لكن عمي الطاهر حضر لي مفاجأة أخرى في المقابل دون أن يدري بشأن البورتريه وهو رغبته بلوحة أخرى حد الوله للوحة “بلقيس” وهي تصور ساقا موشوما بالحناء والوشم تكشف عنه صاحبته ربما لعبور الجدول أو البلور لا الماء لذلك أسميتها بلقيس.. كان يبدو مصدوما أو حزينا حين أعلمته بشأن البورتريه الذي أعجبه كثيرا فوجد نفسه بين خيارين صعبين لكن من غير المعقول أن يرفض البورتريه الخاص به من أجل الساق ولا هو بالطماع الذي يأخذ لوحتين معا.. طلب على الفور تكبير اللوحة وعمل إطار خاص لها وتعليقها بمقر الجاحظية قاعة المحاضرات وأخذ اللوحة الأصلية إلى منزله لأنها كانت بحجم صغير 30×40سم.. في حين عادت لوحة بلقيس إلى الإعلامية الكبيرة نفيسة لحرش التي فتنت بها فقلت لها مازحة: إن لك نفس ذوق عمي الطاهر..!
وظل بورتريه عمي الطاهر المكبر يطل علينا من الجاحظية حتى بعد رحيله رحمه الله وأسكنه فسيح الجنان؛ نعم الرجل والأب والإنسان فنم قرير العين عمي الطاهر طهر الله مقامك حيث أنت الآن.
حفيظة ميمي
إعلامية وأديبة وفنانة تشكيلية
من الجزائر 🇩🇿
ملاحظة : بورتريه الروائي الطاهر وطار
بريشة :حفيظة ميمي