خاص زاوية ” شهرياد الكلام ” بإشراف منتدى شهدياد الثقافي :
كتب د. قصي حسين :
مرفأ الغموض
مرفأ بيروت، عشية الرابع من آب 2020، أحيل بثوان إلى عمل فني تشكيلي بالغ العنف والحزن. إلى تشكيل الغموض.
مشهد الغموض، مرفأ تشكيلي يختزل جميع حروب الإقليم. ويختزل جميع جروح الناس في لبنان ويختزل جميع أنواع الهشاشة والركاكة في الإدارة. ويختزل جميع أنواع الفساد والتسلط والتشبيح والبلطجة على الأرصفة وفي العنابر والمستودعات. وفي السفن والبواخر والناقلات.
مرفأ هالك برسم ذمم الدول. وبرسم ذمم السياسيين والأحزاب وبقايا الميليشيات، وأعمالهم القذرة لسنوات وسنوات.
منذ التأسيس للحرب الأهلية، في القرن الماضي، حتى برهة الإنفجار ببيروت ولبنان والإقليم والعالم، بعد خمسين عاما، مرفأ بيروت، مرفأ الغموض هو هذا.
ميناء بيروت مرفأ تشكيلي غامض للإنقلاب على ماضيه وحاضره، حيث كان مرسى الناس والتجارات والتواصل، بين الأقطار، بل بين القارات الخمس كافة.
إنفجر مرفأ بيروت، تماما كما إنفجرت الكورونا بالناس وبالأوطان وبالبلدان.
لم يعد ميناء بيروت يطيق نفسه. كما لم تعد الطبيعة تطيق نفسها. فاض بما فيه من تجاوزات، مثل أتون. مثل بركان.
ترى الأعداء اليوم خرسا من شدة الهول. وترى العملاء خرسا من شدة الهول أيضا.
ما هذا الرابط، بين جميع أنواع الأعداء والعملاء والعمالات ، على أرصفة الميناء، يفخخون البحر، ويتراجعون عنه لحظة الإنفجار.
ميناء بيروت اليوم، مرفأ للغموض. تشكيل فاسد و متآمر وعميل. وتشكيل قطط و ذباب، و ذئاب وكلاب وعواء ومواء.
رأئحة مؤامرة ما عرف لبنان مثلها، في تاريخه القديم والحديث. رائحة موت في مرفأ الغموض، ما عرفته بيروت في تاريخها. ولا عرفه الإقليم في تاريخه. ولا عرفته الإنسانية في تاريخها.
موت يخرج لأول مرة من جحيم الماء، يقذف بالعصافير واليمام والحمام، إلى أعنان السماء. يطير الناس مثل أجنحة الأساطير. تطير الصخور مرفرفة، مثل قلاع الموج في السماء. تطير البواخر والمراسي والصواري، مثل إنفجار القلوب الملأى بإهراءات الدموع، وخزانات الدماء.
تطير الشرفات. تطير الأسواق. تطير المنازل . تطير الحدائق. ويحط على نواصي الحكام وسماسرة المرافئ والمطارت وبوابات العبور والأوطان، السمك الفزع الطائر القتيل.
مرفأ بيروت، أوضح ما يكون اليوم، عن لبنان. البلد المفخخ، ينتظر التطاير في صاعق جديد.
يشغل الحكام، يشغل اللجان، يشغل الإدارات ويشغل السفارات: يستدر المعونات. ويذهب عاريا من اللحم، ومن إكليل الورد مثل القتيل.
ميناء بيروت تشكيل لعنف مؤامرة. ميناء بيروت تشكيل للجهالة وللنذالة، وللعمالة وللعتو. تشكيل لأنواع من القتل والموت والإنمحاء. ميناء بيروت تجريب لأنواع من السلاح الجديد.
ميناء بيروت، تحويل لمعنى الحرب من جديد.
لم تعد تليق بنا الحروب القديمة. لم تعد تليق بنا الجبهات والمعسكرات والبنادق والقنابل والصواريخ والمدرعات والطائرات. لم يعد يليق بنا العزل، ولا الحوائط ولا الحواجز، ولا بوابات العبور، ولا الأسلاك الشائكة ولا المكهربة، ولا كواشف الليل، ولا كلاب البوليس المدربة.
ميناء بيروت تشكيل جديد. يدشن عصر محرقة جديدة.يدشن عصر الحرائق الغامضة. يدشن مرفأ الغموض.
ميناء بيروت، في برهة الإنفجار اللئيم، تشكيل جديد لفن جديد. تشكيل لحرب غامضة جديدة. تشكيل لحرب وحرب وحرب. وألف حرب أخرى. ميناء بيروت يدشن عصر جديدا: عصر غموض الحروب.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية