زاوية ” شهرياد الكلام ” باشراف منتدى شهرياد / لبنان :
عرش النفايات
ما عرفت النفايات لها عرشا، إلا في لبنان. دائما كانت فيه عامرة غامرة للناس في جميع المناطق والمدن والقصبات.
تسيل النفايات مع الأنفس و الأزمات. وتتحوط الشوارع، وتطل على البحر وعلى الجبل وعلى الشرفات.
تنادي على العالم، من برج الطائرة ومن برج المطار. تنادي على العالم، من الموانئ، ومن شاشات السفن والبواخر.
تلوح للعالم بمناديل السحب البيضاء، وبمناديل الغيوم السوداء.
ما تعشقت الأزمات والنفايات بلدا مثلما تعشقت لبنان. ولا تعشقت أرضا مثل أرض لبنان. ولا تعشقت جبلا ولا سهلا ولا شاطئا، ولا رابية ولا وديانا، بمثل ما تعشقت به، في لبنان.
ترى الأرصفة مجدولة بالنفايات. ترى الأقنية مترعة بالنفايات. ترى الحاويات تندلق بالنفايات.
ترى الدولة تجعل لها مطامر، في أجمل المناطق. وفي أجمل الشواطئ. وفي أجمل الساحات. تبرزها للناس، وللقادمين والزائرين. تجعل لها مطامر في قنن الجبال.
النفايات في كل بلدان العالم، تعالج في المنازل. وتفرز للحاويات، وتصنع في المعامل، وتحرق في الأفران، بلا كانت ولا كان.
أما في لبنان، فتظل على كيانها، تماما كما ولدت لقيطة، ورمتها عنها، الدور والقصور. يفخرون بها ويتفاخرون. يباهون بها ويتباهون. فهي اكياس دسمة عند الأغنياء. وهي مشلعة مثقوبة عند الفقراء.
ما عرف العالم شراء النفايات، إلا في لبنان. ولا عرف العالم الإتجار بالنفايات إلا في لبنان.
سوغوا للعالم أجمع، أن يرسلوا بطرود نفاياتهم السامة وغير السامة، إلى الوطن الصغير. تماما كما سوغوا شراء الأزمات، وشراء الذمم، وشراء الساحات.
ما هذا البلد العجيب، المطمور بالنفايات وبالأزمات من أول العصور. ما هذا الوطن العابق، بالروائح الكريهة التي تزكم أنوف الأهل. وتزكم معها، أنوف القادمين إليه، من المغتربين، ومن الأصدقاء: الزوار والتجار والسياح والمحبين.
رائحة كريهة، تنبعث من جنباته كلها، يمر بها المسؤول، فلا يأبه لها.
سألت عن ذلك مرة، حين رأيت مسؤولا يعبر مسيلا كريها أسود، من ترعة متداعية، إلى قصره في أعلى التل: كيف يكون له ذاك؟ فكان الجواب الأصم: إنما يعبر في مركبته الفارهة “المفيمة” و”المكيفة”، دون أن يشعر بها.
ماذا نقول لأبنائنا وأحفادنا و لزائرينا، حين يرون لبنان اليوم، غريق الأزمات والنفايات. ماذ نقول لأنفسنا، حين نرى المسؤولين والمتعهدين، لا يأبهون للكرامة المهانة ولا للوطن المهان.
نحن اليوم أحوج ما نكون، إلى فناني وتشكيليي القرن السابع عشر، والقرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، حتى يعبروا برسومهم وبفنونهم التشكيلية، عن هذة المسخرة التي إسمها الأزمات والنفايات في لبنان.
في لبنان وحده، يسمو الفن بالأزمات و بالنفايات، فتعالوا أيها الفنانون، فهذة هي فرصتكم الفريدة في لبنان، خلافا لكل العالم.
إرسموا ما تشاؤون، في الكوستابرافا، وفي الجديدة وفي برج حمود وفي الناعمة، وفي أعالي المتن وفي أعالي كسروان، وفي أعالي الإقليم.
إرسموا أعمالا تشكيلية، قد تباع بالملايين، عن مطامر طرابلس، ومطامر المنية والضنية ومطامر عكار. بل عن مطامر الكورة ووادي هاب، وأبو ميزان والنبطية وصيدا، وبعلبك وزحلة وصور. ولا تنسوا أن تزوروا لهذة الغاية مطامر البترون وجبيل وأنفة وشكا.
هنا في لبنان وحده، دون سائر البلدان، تجدون عرشا للمطامر، وعرشا للنفايات، وعرشا للكهرباء، محميا بعروش الزعامات.
لماذ كل هذا الإستهتار بلبنان وطن النجوم ووطن الجمال. لماذا كل هذا الخوف من “البعبع”، الذي باع الوطن الجميل، بخمس من الفضة وبحفنة من المال، وبحفنة من الدولارات.
لم يعد أمام المواطن اللبناني ما يخسره بعد اليوم. نهبوا الدور وعبثوا بالقبور، ورموا النفايات في الطرقات، وأغرقوا البلاد في الأزمات. وجعلوا كل شيء، كما يقولون، رهن التحويلات، حتى كانت على أيديهم، فنون المضاربات. ولوكانت المضاربة بالأزمات وبالنفايات.
تعالوا إذا، ندك فقط “عرش النفايات” من أساسه. فلا يصلح البنيان، إذا كان جاروره كما مجروره يغص بالأزمات. وإذا ما كانت حوائطه كما مداميكه، غرقى بالنفايات.
تعالوا ندك إذا، “عرش النفايات”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية