..لمناسبة العيد الوطني الجزائري الذي يصادف اليوم , ننشر قصة قصيرة من وحي استقلال الجزائر , للكاتبة الجزائرية حفيظة ميمي , والتي كانت قد نشرتها عام 2007 ضمن مجموعة قصصية تحمل عنوان ” ممنوع قطف الأطفال ” وحازت على المرتبة الاولى في مسابقة للقصص القصيرة .
هنا النص :
بأجـنحــة أجنتــي.. حريتـي أو جنتــي..!
بقلم : حفيظة ميمي
مدخل :
وإذا الجنين سئل
بأي ذنب وأمه قتل..؟!
قال: لأنني أنمو في أحشائها كالبصيرة،
وأتفتح كالمقل..!
تسقيني بذرة سلام،
وحين تحين مواسم الثورة
تطرحني مليون بطل..!
فهل هناك أخطر من امرأة،
تحمل في بطنها يقيناً
له ملامح الحرية،
وشكل الوطن..!
*** 1 ***
لا أحد يدري لماذا اختاروا قريتهم هذه المرة، ليمارسوا فيها الجنون.. أوقفوهم في طوابير طويلة طول النهار، حارة حرارة شمس الصيف الساطعة التي ألهبت رؤوسهم.. فتشوهم، دققوا في وثائقهم، وفي ملامحهم وفي وجه الشبه بين الورق واللحم، وبين الحبر والدم..! فتشوا جيوبهم وجلودهم وحتى خلاياهم..! لماذا لا يخلون سبيلهم إذن ؟! أوَ أخرجوا القرية قاطبة فقط ليحلو لهم العـثو في الأرض فسادا على كلا الصعـيدين.. يعـذبون ويقتلون هنا.. ويكسرون ويدمرون هناك.. ما أشد ما يقع على هذه الرؤوس، مما يزيد في اشتعـالها.. بريئة الشمس من الظلم الواقع عليها هنا وهناك.. ويتساءلون: أيبكون على الأرواح أم على الديار..؟! أتراهم إلى منازلهم عائدون..؟! هل يجدونها ؟! في أي الأحوال ستخلفها الأيادي العاثية، وأصحابها لا يؤمنون إلا بشمولية الظلم، الذي يمس كل شبر من البلاد وكل خلية من العـباد وكل ذرة من المؤونة والعـتاد لا مجال للتجزئة عندهم، بل لا مجال للترفع.. الظلم أيضا عليه أن لا ينحط إلى دنايا الأمور، مستويات هو، وهم رغم ادعائهم الحضارة إلا أنهم منحطون في كل شيء، وأساليبهم حقيرة وهابطة جدا.. يخلطون السكر بالملح، والزيت بالصابون، واللبن بـ ( … ) اللعـنة عليهم من شياطين دنسوا نعـم الله بنجاستهم..! غريبة جدا مواقفهم، لماذا يحقدون عليهم وعلى كل أشيائهم؛ أثاثهم، ملابسهم وحتى طعامهم..؟! لماذا يثير “الكسكسي”(1) أعصابهم إلى هذا الحد..؟ أوَلأنه يؤكد أن تراثهم عريق حتى على الموائد، تراث لا تنافسه معـلباتهم الجاهزة وأكلاتهم الباردة..! فيصرون أكثر على محوه بذات الأساليب، تحت النعال مع التراب و الحصى..! الموت موتان هكذا أرادوه.. والجوع موت آخر أو أشد..! بل ظلم أهل القربى أمر.. قوادهم يتبعـونهم كظلال من الشحم و اللحم، لكنها بلا دم.. أداة متحركة متكلمة بل مترجمة، في أيديهم يمارسون بها كل ما يبغـون مقابل فتات البيوت، و من اعتاد على الفتات لا يشبع..! زوجاتهم توصيهم كلما هموا بالتحول إلى ذيول لأسيادهم في غارات الجنون:
– أريد هذه المرة قرطا وأساور، أحذية للصبية وطنجرة كبيرة لم تعـد التي عندنا تكفي للولائم.. ولا تنس” ملاية جديدة”(2) سأزور أختي في المدينة الأسبوع القادم..!
مصائب أهل عند أهل فوائد..! فهل يحسبن أنهم خارجون للتسوق.. أم لأكل لحوم اخوتهم نيئة، مستمتعـين بنكهة التذوق..؟!
من يبقى في بيته يقتل..! ومن يخرج منه ولم يترك الباب مفتوحا يقتل..! ومن أرهقه التعـب وقعـد يقتل.. ومن.. ومن.. ! عن أي شيء يبحثون ؟! لو كانت إبرة في كومة قش لعـثروا على ألف..! لكنهم فتشوهم وأعادوا تفتيشهم وتفتيش منازلهم.. دققوا في وجوههم وفي بيوتهم وفي وجه الشبه بين التجاعيد و الطين.. بين ماء العـيون ومياه البير(3) وحتى بين انحناءة الظهر والجدار..!
- منذ متى تسكنون هذه الدار..؟!
حتى حيواناتهم بحثوا عن أصلها وفصلها..كم باضت هذه الدجاجة..؟ ما اسم هذه
العـنزة..؟ ولماذا ينهق الحمار..؟ ربما صوته كان كلمة سر للثوار.. أو نوع من أنواع الإنذار..! ممنوع إقتناء الكلاب وذكور البقر، الثور اسم مشتق من الثورة..! وغرامة مالية عن كل رأس.. ثم صححوا بل ضاعفوا المبلغ بعـدد الأرجل.. طيور كانت أو ذوات أربع..! وإذا ساورهم الشك في نواياهم.. أسقطوهم بالرصاص..! أساليبهم حقيرة وقذرة جدا.. يشنون حربا حتى على الدواب..! أين إدعاءاتهم؛ جمعـيات الرفق بالحيوان..؟! والمحافظة على البيئة وخضرة المكان..؟! وهم يدمرون كل شيء في طريقهم، الشجرة والحجرة.. بحثا عمن أشعـل فتيل الثورة..! دمروهم بالأسلحة المتطورة، لكنهم في المقابل أشعـلوا في رؤوسهم حرب الأعصاب.. فأصبحوا يشككون في كل شيء، الوسوسة داخلتهم.. وإذا حدثت عملية فدائية في الجوار.. تعـلن حالات الطوارىء والاستنفار.. وتشغـل صفارات الإنذار.. يصبحون كالكلاب المسعـورة، يقلبون القرية على رأسها ولا يقعـدونها..! يحلو لهم أن يوقفوها على ساق واحدة طول النهار.. الكل يخرج والكل يقف، والكل ينتظر من أفواه الجبناء القرار.. و يطول الإنتظار.. أشعـل الظلم في رؤوسهم النار..! وأشعـل في رأس”أم الخير” الجنون..فهي لا تخرج مع الخارجين ولا تقف مع الواقفين.. تترك بابها مفتوحا لكنها لا تترك دارها أبدا.. تقابل الباب وتغـزل الصوف.. تراقب كل شيء بصمت رهيب.. نظرتها شاردة في الفراغ وكأنها لا تعي ما حولها.. هي لا تخافهم، ربما هم الذين يخافونها، يظنون أن بها مس من الجنون خطير، أصاب عقلها بعـد مقتل وحيدها..! لذلك هم اسقطوا عنها العـذاب.. لا شفقة عليها أو رحمة بها، بل لأن لعـبتهم الجنون.. والمجنون لا يتذوق العـذاب، يفقدهم متعة اللعـب..! ثم إنها نالت قسطها من جنونهم بل وأكثر..! لكن كنتها “حورية” وحدها تدرك أنها غير مجنونة، فبشرى الحفيد الذي على الأبواب أعاد لها صوابها الذي لم يكن ليعـود إلا بعـودة الأمل في مستقبل جديد .
*** 2 ***
لا أحد يدري لماذا اختار جميلة قويتهم، اختارها هي دونهم جميعا.. ليمارس معها، بل فيها جنون الجنون.. وهو ينزل على حين غفلة كالصاعقة على رأسها.. يلكز ببعـض سلاحه هذا الانتفاخ البائن من جسدها بعـنف صائحا :
- أهذه البطن مزيفة..؟!
خرجت الآه من فم الوجع قبل فمها قوية مدوية، تعـبر عن ذاتها أن “لا” فحملها حقيقي وطبيعي مائة بالمائة.. وإلا لما كانت لكزته أحدثت فيها كل هذه الزلزلة..! لكن ذلك لم يكن ليبرءها أو يشفع لها.. بوحشية الرجل الحجري جرها من ضفائرها إلى ساحة التفتيش أمام جميع من ألهبت الشمس رؤوسهم، بل أشعـل الظلم ما بقي من عقولهم..! وأخذ يطرح أسئلته بعـنف الصفع والركل.. دون أن يهتم بإجابات النفي التي كانت تكررها كالببغاء وكأنه لا يسمعها.. صدى كلماته و رجع لكماته كان يطغى على حبل اللاءات الرقيق الذي تشبثت به بكل قوتها.. تظن أنه وحده سينجيها.. لكنه كان أوهن من بيت العـنكبوت، تقطع سريعا مع تقطع أنفاسها اللاهثة.. فهي لم تكن تعـلم من الأمر شيئا غيرأن حملها غيرمزيف..!
- أين تخبئينها..؟ نقود الثورة.. مناشير الثورة.. أسلحة الثورة.. الثورة.. الثورة..
ولم تعـد تسمع غيرها، وهي تسقط منهارة على أرض هذه الثورة.. تحمد الله أن ثورته هدأت أخيرا.. لكنه ما فعل إلا ليذيقها ثورة أخرى..
- أنتن نساء الأوراس(4) مشكوك في أمركن أكثر من الرجال.. تختبئن وراء هذا الزي الذي يلفكن من الرأس حتى أخمص القدمين بحجة التقاليد والدين لتلعـبن لعـبتكن.. لكن تأكدي اللعـبة أصبحت مكشوفة، انتهى..! لم تعـد تنطلي على أحد خدعة الحمل المزيف المدجج بالأسلحة.. ولا الرضيع المقمط بالمناشير.. ولا قربة الماء المعبأة بالنقود.. وكسرة الخبز المحشوة بالرسائل ولا ، ولا.. !
سكت قليلا ثم أردف وهو يتأمل جسدها الممزق قبل ثيابها.. والبطن المنتفخ يطل في تحد..
- إذن حملك هذا حقيقي..؟!
- نعـم..!
خرجت من فيها كالتنهدة، تحمل الكثير من الألم جراء اعتدائه المجنون.. كما يحمل بعـض الأمل.. فتأكده من حقيقة حملها يعـني نجاتها، وتشبثت مرة أخرى بالفكرة الواهنة..
وأفرجت شفتاها عن شبه ابتسامة مكتومة وهي تسمعه يؤكد مزاعمها التفاؤلية..فهاهو حلم النجاة بدأ يتحقق..
- أصدق بأن حملك حقيقي.. فأنت بريئة، لكن..!
وتراجع الأمل أميالا إلى الوراء.. وارتعـشت فرائس الحلم فتقطعـت سريعا أوصال الفكرة الواهنة وهو يواصل كلامه فاصلا بينه بهذه أل (لكن ) التي أكد عليها كثيرا، تراه لماذا يصر عليها..؟!
- بريئة أنت لكن هي لا..!
قذفها هكذا في وجهها دفعة واحدة، ليضاعف من حيرتها: تراه يقصد من..؟! ولم تنتظر طويلا، لتتبدد هذه الحيرة إلى رعب تكاثف بسرعة حتى سدّ عين الشمس.. لم تعـد ترى شيئًا وظلمة كلامه تلفها من رأسها حتى أخمص قدميها، لكن ليس في زي أوراسي جميل.. بل في جحيم من تفصيله وحياكته هو..! وليس على مقاسها هي.. بل على مقاس الحقد الذي يسكنه هو..! وفقدت صوابها وهي تسمع كلاما مجنونا يستحيل أن تدخله رأسها، ترفضه أذناها.. ليت لعـنة الصمم تنزل عليها اللحظة لتحررها من قذائف كلماته التي راح يفجرها في رأسها واحدة تلو أخرى..
- بريئة أنت، لكن هذه البطن لا..! مذنبة هي بل مجرمة.. وعليه فإننا نبرئك أنت ونعاقبها هي.. نحكم عليك أنت بالحياة، ونحكم عليها هي بالإعدام..! هل تعـلمين لماذا ؟ لأن هذه البطن قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي زمان.. وعلينا أن نبطل مفعـولها قبل فوات الأوان.. من أجل الصالح العام فأنت لا تعـين حجم الخطورة التي تحملين..! البطن دائما خطر كبير، هي سبب مآسي الإنسان.. لولاها لعـمّ السلام، وأنتم قوم لا تحسنون إلا الأكل والإنجاب..! بيوتكم كبطونكم خاوية إلا من”الكسكسي” الذي فاق حجمه ذرات التراب وكومة الأطفال الذين فاقوا عدد الجراد..كيف استطعـتم الفتل(5)..؟ بل كيف استطعـتم الوضع، حبة، حبة.. أم بالجملة..؟!
وعلى حين غفلة أخرجها من جوف كابوسه، بصفعة ألهبت الشمس فدارت حول نفسها لا أحد يدري كم من الدورات.. أشعـلها وأطفأها عدة مرات.. لفها وعراها، ثم من جديد راح يلفها بالظلمة التي يحسن إسدالها من فمه :
- هذا الإنتفاخ يثيرني، هذه البطن تتحداني، لماذا تطل عليّ هكذا..؟! أوَ تحسب أنها ستنتصر علي..؟! هيهات.. أن تكون الغـلبة لقبضة من العـجين والحشرات..! سأخرج هذا الخليط الغـريب، الذي يعـمر أحشاءك، لتري بأم عينيك كم هو دنيء وعفن..؟!
كان كلامه كحقده دهاليز متشعـبة، يلفظها الواحد منها إلى الآخر الأكثر غورا
وعتمة.. فيزداد القرع على دف الخوف في أعماقها.. وتتكاثف الظلمة من حولها.. غابت الشمس.. وما من شمعة أمل تقود خطاها إلى بر الأمان، وسط ليل دهاليزه المعـتمة التي أصر على أن تدخلها زائرة من نوع خاص، متلذذا بالتفرج عليها، وهي تتخبط في داخلها.
- هذه البطن تخبيء خطرا كبيرا يجب أن نخرجه..! بل تخبيء مجرما خطيرا يجب أن نعاقبه..!
أسلمها إلى رعب الدهش، أو إلى دهش الرعب، وهو يتلذذ بالشرح وسيتفيضه.. فيفيض بها طوفان الجزع.. ليغـرقها أخيرا في كلمة واحدة وهو يلتفت إلى معاونيه مزمجرا كالرعد :
- هيا أخرجوه..!
وسقط القلب المعـلق.. إلى أحشائها ! ليزيد من نبض هذا الإنتفاخ البائن من جسدها وكأنه فعـلا تلك القنبلة الموقوتة التي بدأ العـد التنازلي لانفجارها.. بل هو انتفاخ آخر تحسه أكبر وأضخم هو الذي إنفجر، رأسها.. فسقطت مـغـشيا عليها، لتفيق على… خبير هو في أساليب الشد والإرخاء، يصاعد من فزعها إلى القمة حينا ويسقطه إلى الهاوية، إلى ما دون الصفر حينا آخر.. يتلاعب بترمومتر القلب المفزوع كالطقس المتقلب، يريها النهاية تركض إليها ثم تتراجع في تردد إلى الوراء.. إلى ما قبل البداية، فتداعب أوتار قبلها اليائس أنامل الأمل من جديد.. فهل هناك حقا أمل..؟! هل استعاد هذا المتلبس بملامح البشر بعـض إنسانيته المغـيبة، لترمي هذه الأخيرة بعـصاها، فيبطل السحر ويتحول الشيطان إلى إنسان مثلنا، يلكزه الضمير فجأة كما لكزها هو في بطنها..؟! أيعـقل أن يتراجع عن قراره..؟! أم تراها لعـنة الصمم التي تحققت..؟! الآذان تكذب علينا أحيانا..! لا،لا.. هي سمعـته جيداً يقول:
(مهلا ، مهلا..!) فالضرير لا يبحث إلا عن النور، وهي رأت هناك في الأفق البعـيد شيئا يلمع وسط الظلمة، نقطة ما.. لا بأس، وتشبثت من جديد بها، تشبثت بفرصة التمهل..!
- مهلا ، مهلا..!
لكنه لم يتوقف عندها بل زادها ظلمة.. ليسّد عليها كل الثقوب التي قد يتسرب منها الضوء، طمس كل شيء وهو يلهو قائلا..
– نحن شعـب نؤمن بالعـدالة والحق، و بالتالي لن نعاقب هذا الذي في بطنك إلا إذا تأكدنا من إجرامه، علينا أن نفتش شرايين دمه، هل تحمل دماً سليماً، أم دماً ملوثا بجراثيم الوطنية وحب الحرية..؟! فعـدوى الفكرة المجنونة “تحرير الوطن” استفحلت فيكم، حتى غدوتم كالأشباح، مرضى أنتم..! ونحن شعـب نؤمن بالصحة وشعارنا : “الدم السليم في العـقل السليم” ولا تهمنا الأجساد.. لأن الدم إذا كان فاسدا، أفسد العـقول وأصبحت تؤمن بالمستحيل..! ولا نريدكم أن تؤمنوا بما لا يمكن تحقيقه، تتعـبون عقولكم ليس إلا.. تصابون بالجنون..! لذلك نحن نؤمن بالوقاية أكثر من العلاج ، نريد أن نقيكم شر الأمراض الخطيرة التي انتشرت فيكم كالطاعون.. ولنبدأ من سن مبكرة.. ما قبل الولادة هذا أفضل وطبعا لن يتأتى لنا ذلك إلا إذا أخرجناه..!
واستدار دورة الموت كالسكين الحادة قطعـت كل شيء من الجذور..
- هيا أخرجوه..!
و ركض القلب اليائس في كل الاتجاهات.. كالطير المذبوح تخبط في زنزانة الظلم الذي كان في أبشع صوره.. وهو ينشد في آخر لحظاته أي منفذ أو مهرب، لكن لا مفر.. الصدر يضيق، الأنفاس تختنق والنبض يتوقف، لم يعـد يجدي معه تقلب الطقس.. ووحده الجسد بقي غارقا في الدم الذي أثبتت كل التحاليل أنه مفيد في الشرايين كما في الأرض..!
وتعالت قهقهات لا إنسانيتهم، من أعماق الذئاب كانوا يعـوون.. وهم يفترسون البطن بمن يحملها وبمن فيها.. ترفعـت البطن وتحدت.. فانتصرت عليه بل عليهم جميعا، ارتقت إلى السماء متحررة من كل قيد.. وهبطوا هم إلى أسفل السافلين، إلى حضيض الحقد وقيوده.. إلى سجن الحيوان الذي في دواخلهم.. والذي راح يملي على قائدهم نزواته من جديد …
- جميل التعامل مع المجهول، يروق لي كثيرا كشفه..! بل لذيذة لعـبة المستقبل هذه..! هيا أخرجوا كل الحوامل من بين الصفوف، سنريهم كيف يكون مستقبلهم ، بين أيدينا نقبض ماضيهم وحاضرهم والآن سنستولي على مستقبلهم..!
لعـبة قمار كانت، مارسوها بكل همجية.. ذكر أم أنثى، على كم تراهن..؟! وبقرت البطون كالبطيخ الأحمر واحدة تلو أخرى.. ودكّت الصفوف دكاً.. من فقد وعيه، من فقد عقله، ومن فقد روحه.. فالصدمة كانت أكبر من كل تصور..! ولم تنته لعـبة الدم إلا لأن الحوامل انتهين سريعا، لم يكن إلا ثلاثة في القرية كلها الواقفة على ساق واحدة منذ الفجر.. وإن كانت ثالثتهن أفسدت عليهم اللعـبة لفظت أنفاسها قبل أن يقربوها..! وهل يضر الشاة السلخ بعـد…! لكنهم تمنوا لو أن كل الأهالي حوامل حتى الرجال والأطفال منهم.. ليواصلوا لعـبتهم إلى ما لانهاية.. فقد كانوا عطشى إلى الدم كالجحيم يطلب: هل من مزيد..؟! هل من مزيد..؟! وخاب ظنهم، لكنهم تفرقوا منتشين كمن ثمل من الكؤوس الحمراء.. كؤوس دم الأبرياء..!
*** 3 ***
لا أحد يدري لماذا اختارهم القدر شهودا على الجنون في أفظع نوباته..! وقفوا في طوابير طويلة طول ظلم الإنسانية.. حارة حرارة الدماء التي روت الأرض لا لشيء إلا لتزيد من غلائها.. كما أن لا أحد يدري كيف قفلوا راجعين، غير مختارين كان لا بد أن يرجعـوا..كيف استطاعوا ذلك لا أحد يدري، عقولهم غائبة وعيونهم شاردة ألم يمارس فيها الجبناء الجنون..! لم يفكروا كيف سيجدونها بيوتهم..! لم يفكروا من أين سيحصلون على النقود لدفع الغـرامة المتزايدة.. وقد ضاعت أقراط الذهب وأساور الفضة.. ضاع كل ثمين من الديار..! لم يفكروا أين سيطهون “كسكسي” العـشاء.. بل كيف سينقون حباته من حبات التراب لإسكات جوع الصغار..! لم يفكروا في شيء غير أنهم عادوا من الجنون سالمين أشكالا فقط كالهياكل الفارغة، أما دواخلهم فهي محطمة دامية، و رؤوسهم مشتعـلة حتى ما بعـد الغـروب..! ورغم ذلك، الكل عرف لماذا اختاروا قريتهم وجميلات قريتهم وأجنة جميلاتهم.. لكن “حورية” كانت تعـرف أكثر منهم.. ضغـطت على بطنها بشدة وكأنها تخاف أن يسرقها أحد منها.. تنفست الصعـداء وحمدت الله أن لعـبتهم القذرة انتهت قبل أن تفضحها بطنها بالإنتفاخ أكثر..! وهي تردد في داخلها :
- سأبشر خالتي”أم الخير” بعـودتنا سالمين أنا والحفيد.. أليست هي القائلة :”عندما ننجو من الموت، كل شيء قابل للتعـويض، والذي أنجب لم يمت..!” مغـفلون، هم يظنون أنهم قضوا على مستقبلنا.. إذا كانت أجنة جميلات القرية قد حملنهن على أجنحة النور إلى الجنة، فإننا بهذا الجنين وبأجنة كل الحوريات الأخر..حتما سنطير إلى الحرية..!
بقلم : حفيظة ميمي (الجزائر)
من مجموعتها القصصية التي تحمل عنوان:
“ممنوع قطف الأطفال”
الصادرة في إطار سنة الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007