لا أذكر من طفولتي إلا بعض الصور والأصوات والروائح هي ما تبقى لي.
من أين أبدأ بالذكريات السعيدة أم الحزينة ؟
يقال بأن الذكريات الحزينة هي التي تترسخ في الذاكرة ويسهل استحضارها . بحثت عن ذكريات سعيدة ولكن دون جدوى !
سأبذل مجهودا أكبر علني أجد .
نعم ها هو جارنا عدنان يحملني وأنا طفلة يرميني عاليا في الهواء ثم يلتقطني ..
أين أنا ؟شرفة مليئة بأحواض الأزهار حجرها صخري تتوسطها بركة ونافورة مياه.
ما هذا الصوت ؟ إنه عصفور داخل قفص يعزف بمنقاره موالا يطرب السامعين.
كم هو مفعم بالحياة ! رغم احتجازه داخل قضبان حديدية , كيف له أن يشدو هذه التراتيل وهو معتقل ؟ هو يبكي أويناجي ربه ؟ ما تراه يتبتل قائلا ؟
ليتني أمتلك خاتم سليمان ليعلمني منطق الطير .
كنت ما أزال صغيرة جدا عامين لا أكثر , رويت لأمي مرة أنني أذكر جيران بيت جدي في رأس النبع ..أصابتها الدهشة وقالت : كيف تذكرين وكنت صغيرة جدا !؟
كنت أنادي عدنان ب “عدمان” لصغر سني فتقول أمه “بعيد الشر ” .. كان ابنها الوحيد على ما أظن .
كم كان الناس طيبين في تلك الحقبة كانوا يتزاورون ويتسامرون ..أبواب بيوتهم مشرعة دوما لاستقبال الضيوف بقلوبهم قبل بيوتهم بلا تصنُّعٍ أو كلل .
كانوا قلبا واحدا لا يفرقهم أحزاب ولا معتقدات ولا أديان .
.. بيت جدي كان يتوسط حي رأس النبع في وسط مدينة بيروت في شارع بشارة الخوري , هو بيت قروي يتألف من طابقين يعتليه سقف من قرميد .. نوافذه خشبية بيضاء وقضبان حديدية شكلتها أيادي فنان بإمعان تعتبر آية في الفن والابداع …أما الشرفة فتتدلى منها أنواع عديدة من الورود والنباتات فتزيد من جمال المنزل ورونقه وتعطيه أنفاسا دافئة وروائح عطرة ..
بالقرب من بيت جدي يقطن” آل أنطون “كان بابهم دوما مفتوحا أذكر أنهم كانوا يمتلكون بيانو وكانت تتكئ في أحدى جوانب الشرفة أرجوحة كنا نتسلل إليها أنا وأختي الكبرى فيستقبلانا بحفاوة عارمة ويقدمان لنا قطعا من قالب الحلوى. كم كان شهيا ومزينا بإتقان!
كم كان الناس يعيشون بسعادة بالغة لا تؤرق مضاجعهم الهموم والكرب !.كانوا متحابين لا يجمعهم دين واحد ولكن يجمعهم مبدأ واحد وهو الإنسانية .
على رغم تعدد أديانهم وطوائفهم إلا أنهم كانوا مثالا يحتذى للعيش المشترك .ليت دولاب الزمن تعطل عن الدوران ليته توقف هناك .
جدتي توفيت عن عمر يناهز الأربعين عاما توفيت ليلة عيد الأضحى أثر انفجار في الدماغ , فتيتم أبي باكرا ليغرق في صمته المزمن ووحدته وحزنه الأبدي .
..أما جدي فلم يسعفني الزمن حتى أتعرف عليه بشكل كاف , فقط هو يحفظ لي بعض الذكريات في جيوبي.
كان عمري ثلاث سنوات يوم وفاته هو اليوم ذاته الذي صادف فيه ولادة أختي, فأعطيت اسمها المشتق من اسمه ” عبد الغني”فكانت “غنى”إكراما لذكراه ،وقد نال من اسمه نصيب فكان كريما ،عطوفا ،طيب الأعراق .
كانت أختي الكبرى تخبرني كيف كان يضع على كل اصبع من أصابعها قرشا .
ليلة ولادة أختي أخبرتني أمي بأنها كانت تعاني من الآم المخاض والولادة , وفي الليلة نفسها مات عصفورنا , وفي الليلة ذاتها قضى جدي نحبه ، وانتقل إلى جوار ربه . في نفس اليوم سلم كتابه وفي نفس اليوم فُتح كتاب جديد .
روح تتوارى وروح تبدأ رحلتها الشاقة ….. .
..إنه ” بيت جدي ” ..
( علا محمود بيضون/ بيروت )