قراءة في رواية :”سماء صالحة للرقص” للشاعر المبدع: ناصر قواسمي..
بقلم د. ريمان عاشور
***********************************
١- توطئة:
حين تنتصب قاماتنا في زقاق تحت أشعة الشمس منذ الصباح الباكر حتى غروبها.. يمكننا ببساطة الاختلاف حول طول ظلِّنا أو قصره أثناء عبور الزمن فوق قاماتنا وقت تحرُّك الشمس في السَّماء ببطء من مشرقها نحو مغربها إلى أن تودِّعنا..
لا شكَّ أنَّ تناوب الزمن علينا سيرينا الظلَّ في طوله متباينًا بين مرور الدقيقة والأخرى..
إلا أننا لن نختلف ألبتة حول أنَّ خيوط الشمس في امتدادها من السَّماء لمعانقة قاماتنا المصلوبة تحتها ستخلِّف ظلًّا .. أيًّا كان طوله.. حين نختلف في رؤيته كلٌّ من زاويته ..
تمامًا كما أنَّنا لن نختلف حين يكون الجمال قابعًا وراء زجاج برَّاق وهو متأهِّبٌ مستعدٌّ للحكم عليه دون اختلاف حول جماله المستحقِّ للتأمُّل والنظر نحوه نظرة داهشة..
كما هي تلك الدهشة التي تخلِّفها رواية (سماء صالحة للرقص) الكلمة تلوَ الكلمة والسؤال تلوَ السؤال..
٢- بين دفتِّي الرواية:
ثمَّة نصوصٌ تضجُّ بالجمال وإن جاء جمالها مُستعذِبًا جلْدَ المتلقي وكيَّهُ حين يعرِّي الحاضر ويرقص على سوءته، ويفجِّر ألف سؤال وجوديٍّ فينا..
حين يستحضر معنى رؤية الواقع وقد تكوَّر على الورق وراح يتدحرج ببطءٍ مقيتٍ على جروحنا وآلامنا وأوجاعنا.. على قهرنا وقلَّة حيلتنا.. على غربتنا واغترابنا..
على امتداد الوطن أوطانًا تضيق علينا بما رحُبت..
على رحلة(عليٍّ) السوريِّ الفارِّ من وطنه مخلِّفًا جراحه وآهاته ليشقَّ طريقًا جديدًا في إيطاليا..
علَّه يخلقُ له وطنًا آمنًا جديدًا هناك..
هناك حيث أخذَنَا المبدعُ (ناصر قواسمي) إلى فضاءٍ روائيٍّ مضنٍ إضناءً يُرهقُ المتلقي منذ ولوجه إلى عتبة النصِّ الروائي حتَّى بلوغ منتهاه..
لا بطلَ لروايةِ (سماء صالحة للرقص) حين تماهتْ الذاتُ العربيَّةُ الجمعيَّةُ في ذات “علي” الذي جسَّدها في الرواية..
البطلُ هو نحن.. هو العربيُّ المهاجر قسرًا من الشرق نحو الغرب باحثًا عن بديلٍ لوطنه الذي لفظه رغمًا عنه وإن تباينتْ أسبابُ لفظه..
هو نحن بكلِّ هزائمنا وانهزاماتنا.. بكلِّ سذاجتنا وطيبتنا، وبياض سريرتنا، ونخوتنا التي نحملها على أكتافنا أينما رستْ سفننا ونُكِّست أشرعتنا..
وهو اللاهثُ وراء البحث عن الاستقرار وإيجاد لقمة عيش، حين ضاق عليه الفضاء المكانيُّ في وطنه..
ليُخلَق له فضاءٌ مكانيٌّ ابتدأه الراوي في قطارٍ جمعَ بين عليّ السوريِّ المهاجر وإيلينيا الإيطالية في رحلة ولَّدت بينهما علاقة حبٍّ غيَّرت مجرى أحداث حياة عليّ منذ بدء اللقاء حين ساعدته إيلينيا في إيجاد عملٍ حين كان في حاجة لذلك إلى نهاية أحداث الرواية التي أجهزت على نهاية حياة “إلينيا” إجهازًا اختارته هي نفسها في سويسرا.. حين وضعت نهايةً لحياتها عن طريق الموت الرحيم بعد أن تعرَّضت لحادثٍ هتَكَ عمودها الفقري وأقعدها عن الحِراك..
وبينما يكون الراوي مسموعًا جليًّا في مسيرة الرواية نجده تارات قدْ تحوَّل إلى جلَّاد.. إلى صوت الضمير المنادي من أعماقنا حين تتأزَّم المشكلات الحياتيَّة وتتشابك وتتقاطع لنواجه بعد ذلك صعوبات غير متوقعة..
ذاك الصوت البادي كأنَّه راوٍ آخر يُربك المتلقي في الوقوع بين أصوات رواة عدة سُمعت في الرواية.. كما منحتها سطوةً فعَّالةً ومثقِلةً كاهلَ المتلقي؛ لتأتي خطاه مكبَّلةً بقيدٍ ثقيلٍ يدفعه نحو جرجرة أقدامه جرًّا أثناء التلقي..
كما جاء في قوله :
“ها هي “إيلينيا” في الفراش الأبيض الطويل مصابة بتهتك في العامود الفقري قد يبقيها في السرير لأسابيع أو أشهر وربما إذا ما تقدَّر لها النهوض أن تنهض لتكون لزيمة كرسي متحرك مخصص للمعاقين، وستحتاج لمن يلازمها طوال الوقت للوقوف على احتياجاتها النفسية قبل الجسدية
فأ ِرني ما أنت فاعل …
هل ستهرب كأيِّ جبان وتتخلى عن حبٍّ كان يرافقك في وحدتك ويسعى لطمأنتك كل حين ومنحك جناحين عظيمين للطيران؟
لا تخف …” ص(١٠٨)
Riman Ashour
٣-بين اللغة وزمن الرواية:
لسنا نقع في لَبْسٍ لحظةً أمام تلك المفارقة التي أحدثها السَّارد في روايته بين حدِّيِّ اللغة المُساقة وعنصر الزمن داخل الرواية..
فهما ما انفكَّا يمثِّلان صراعًا حقيقيًّا متهالكًا منذ بدء الرواية حتى بلوغ السَّطر الأخير فيها..
وذلك حين سجنَنا السَّاردُ وراء قضبان الضمير المخاطب “أنت” وراح يزحِّفنا زحفًا بطيئًا فوق تلك السُّطور التي عرضت ثلاث سنوات عجاف من هجرة سوريٍّ إلى إيطاليا ،تحديدًا جنوة.. محاولًا التملُّص من إحدى عُقد الوجوديَّة ورسْم وجهٍ آخر للحياة..
وجاءت الآلية الأسلوبيَّة الثانية التي حقق قواسمي من خلالها التأثير على المتلقي، هي استخدام صيغة ما يُستقبل من الزمان.. وهو أسلوب إلى جانب الأول: (الضمير أنت) استطاعا أن يمارسا نظرية الإيحاء التي مكَّنته من سلب المتلقي إرادته وجزء من تفكيره ليستعدَّ تمامًا إلى تبنِّي الرسائل والتواصل اللغويِّ التساؤليِّ من المرسل(السارد) إلى المرسل إليه(المتلقي)..
ليس هذا وحسب إنما ليجعله شبيهًا بمن نُوِّم تنويمًا مغناطيسيًّا؛ ذلك ليخضعه إلى قول السارد خضوعًا تامًا..
ثمَّ الانصياع إلى تنفيذ رغبته في تصديق ما يقوله متسلِّحًا بلغته الحاضرة في الرواية التي مثَّلت (الأداء اللغوي) كما يعرِّفه تشومسكي : وهو المستوى اللغويُّ الذي ينهله الفرد من (الكفاية اللغويَّة) لديه حين يسعى إلى توليد خطاب بإمكانه التأثير على المتلقي سلبًا كان أو ايجابًا.. صدقًا أو كذبًا..
كما جاء في الرواية على سبيل المثال لا الحصر:
“ستعتاد غياب “إيلينيا” فلا تخف …
ستعتاد غيابها كما اعتدت غياب كل شيء قبلها، رائحة الخبز في كفّي أ ّمك وحرير قبلاتها على خدّك، عناق أبيك، هرولة قبلة من فمك على جبين أختك الصغرى التي تعشق، رائحةالياسمين الدمشقي التي لامثل لهافي البيت الجميل العابق بالدفء والطيب والماء القافز من النافورة، الصاعد للأعلى القريب ثم الهابط بشكل رأسي لمعانقة القاع المائي مصدرًا صوتًا لا يغادر الذاكرة كأنه الصوت الأ َّول، واللثغة
الأولى” ص(٩٣)
وفي الوقت الذي تأتي فيه لفظة “الركض” مقلِّبًا إياها بين اسم وفعل أمر ومصدر إتيانًا كثيرًا لافتًا .. نجدُ الزمن داخل الرواية يمرُّ بطيئًا ثقيلًا ثِقْلَ الواقع الوجيع والغياب الساكن بين ضلوع بطل الرواية..
ثمَّ الشوق الملِّح إلى الوطن..
“ّلعلَّ التعلق بالخيط أهون كثيرًا …
لا تنزلق الآن وتدّعي أن قواك خارت ولم تعد قادرًا على التشبث ، لا تدّعي الوهن والضعف لتسقط في َشرك الخوف، لا شيء هناك سوى ما فررت منه ، سوى فزع بلا آخر ، ونداء المجهول في المجهول أركض أركض
أركض دون انتظار أو نظر،لاتفكِّر، لا تقرِّر، لا تتأمَّل أو تتخيَّل ، ولا تحفل بشيء سوى الركض ، إن الركض رسول النجاة اليوم ، وعرَّاب الروح الأخير
يا لكَ من فاشل . . .” ص(٥٤)
تعمَّد ذاك حتى يبلغ المتلقي مبلغ التمزُّق والتشظِّي حين انعكاس الواقع الحقيقيِّ عليه بأحداثه وتغيُّراته وتقلباته انعكاسًا جليًّا واضحًا يعيشه في تفاصيله كلِّها مرتين..
الأولى: حقيقةً أمامه يراها ويتلمَّس نتائجها على نفسه ومحيطه ..
والثانية: في الفضاء التخيُّلي الذي صنعه (ناصر قواسمي) حين يُشدَهُ المتلقي بفتنة لغة السارد التي لم تخلُ من ملامح الشعريَّة، فيُبتلَعُ بين دفتي الرواية وعوالمها.. ليعانيَ معاناة حقيقيَّة تطالُ عمق ذاته وكنهها..
لم يلعب عنصر الزمن في هذه الرواية دورًا أساسيًّا في استكمال عناصرها وحسب، بل كان ممثلًّا سلطةً ذات سطوة تحقَّقت في جريان زمن الرواية على نحوٍ معين جريانًا أتى فضفاضًا تارةً ليشكِّل رئةً ثالثةً نتنفَّس من خلالها، ثمَّ ضاق على إحدى رئتينا تارةً أخرى محوِّلًا الفضاء الزمانيَّ إلى زنزانة تشدُّ وثاقها على المتلقي حتى توشكَ خنق ما تبقى من أنفاسه..
حدث ذلك مثلًا حين اختُزِلَ الوقت وكُبِّلَ وراء جدران حدث بعينه: ” تتوالى الأيام وأنت ما زلت كما أنت تجلس حينًا بقرب السرير تبتكر الحكايات التي من شأنها أن تمنح القوة والأمل في روح إيلينيا المحبطة من حالٍ آلت إليه، وحينًا تراقب الشجر الغريب في الباحة من شرفة المستشفى المطلَّةِ وتستجلب الأمل الذي ما عاد يأتي كعادته محمَّلًا بالورود والهدايا كلما استدعيته.
الوقت حالة من المزاج، نبتكرها ونؤمن بها لأن لا شيء آخر لدينا، ولأننا نحتاج إليها كي تنشلنا من حزننا قلي ًلا وتبعث فينا جملة من الاعتقادات اللئيمة بأن ثمة ما زال في هذا الكون ما يحتمل أن نبقى، أن نتف ّكر فيه ونقلّبه كالخبز النيء على موقد الأمل لعلَّ ينضج ويصير صالحًا للدهن بالزبدة أو الجبن”
ولعلَّه جديرٌ بنا الوقوف عند هيكلية الرواية قبل الخوض في تفاصيلها ومواجهة الخطابات المتعددة واللافتة كما جاء بها السَّارد مضيئةً متوهجةً كما عين الشمس..
ثمَّ الأدوات التي توسَّلها ليؤثِّر على المتلقي ويزجَّه وراء تجربة جديدة أخذت الكتابة نحو حدِّها الإبداعي الأقصى.
حين شرعتُ بتصفُّح الرواية أستطلعها قبل الهويِّ بين براثنها فوجئتُ بأربعة وعشرين عنوانًا داخليًّا في الرواية هي على التوالي:
( نافذة صغيرة – الهروب – عزلة طفيفة – شمس ليلية – سماء صالحة للرقص – حزن صغير – كطير في مدى – فكرة مغلقة – كي تكون أكثر – تفاصيل ناضجة – فراش خفيف – هي عزلة أخرى – على شرفة وحيدة – حين ترتبك المدن – لا تملك ثمن الحلم – شرطان و حزن – وعي بلا وعاء – لا سبب للصعود – حظ الغريب دخان – نرد بلا أرقام – كذلك تمنو الفكرة – لا تعتذر عن شيء – وحيداً في الفراغ – تعود بلا معناك ) .
Riman Ashour
وقفتُ متشكِّكةً بادىء الأمر في كون النص الذي بين يديَّ يمكن أن يكون قصصًا قصيرة.. وحين عدتُ إلى صاحب الرواية؛ لأتبيَّن كُنهَ الأمر قبل شروعي في القراءة، أخبرني بأنَّه قد خرج عن المألوف في تقسيم الرواية إلى فصول وأبواب كما جرت عليه العادة .. وبأنَّه قد آثر أن تأتي الرواية على أبوابٍ عديدة..
إلا أنِّي حقيقةً ألفيتُ أمرًا مختلفًا -من وجهة نظري-
ألفيتُ بين دفَّتي الرواية (قَنْطَرةً) تدفعنا نحو تعريف ما جاء به تعريفًا بعيدًا عن كون تلك العنوانات يمكن أن نعدُّها أبوابًا..
فالباب عادة يكشف عن مجهول وراءه.. أو يندفعُ من ورائه حيِّزٌ مكانيٌّ جديد، ربما لم نكن نتوقعه أو ننتظره..
إلا أنَّ الأمر كان هنا مختلفًا..
حيثُ هويتُ تحت (قناطر) انتصبت لترتكز عليها الرواية من أولها حتى نهايتها.. وكلُّ قنطرة كانت تَعبْرُ بنا فوق نهر الأحداث الجارية على متن قارب مثقلٍ بالجمع العربيِّ المهاجر من أوطانه نحو الغرب..
وقد أثقلت ظهره مشاعرُ التيه والضياع والتأهُّب لمواجهة المجهول القادم والمنتظر بخوف وجزع..
ولعلَّ تلك (القناطر) كما ارتأيتُ تسميتها ،جعلت الفضاءَ المكانيَّ داخل الرواية فضاءً ممتدًّا مفتوحًا امتدادَ المدى أمام البصر.. انفتاحًا لا متناهيًا حيالَ الخيارات والأسئلة الوجوديَّة التي تولَّدت في النصِّ تولُّدًا غير متناهٍ، يُفضي سابقها إلى لاحقها .. وهكذا..
كما أنَّ الأمر عينه هو الذي جعل الفضاءَ المكانيَّ المتخيَّل في الرواية يُشكِّل مُعادلًا مكانيًا يقابله واقعٌ مكانيٌّ آخر في السَّماء فيما لو تحرَّرنا من القيود جميعها التي سجنتنا وراء قضبانها..
ولعلَّ إبصار الأمر من هذه الزاوية يفسِّر لنا بوضوح لماذا جاء عنوان الرواية: سماء صالحة للرقص..
الذي اعتُبِر _ بعيني_ هو (القنطرة العتبة ) التي فتحت أمامنا طريق العبور تحت كلِّ القناطر اللاحقة في الرواية دون أن نفقد درب رحلتنا في نهر المسائل الوجوديَّة التي طرحها ناصر قواسمي في صفحات الرواية المئة والأربع والأربعين..
في متعة حقيقيَّة تُحقِّق إشباع فضول القراءة في استكناه الخطابات التي سعى المبدع إلى إيصالها من جهة ..
ومن جهة أخرى يحدث ذلك في الوقت الذي تأتي اللغة الشاعريَّة لتحقِّق لنا متعة أخرى في تذوق الانزياحات اللغويَّة التي رسم فيها الراوي فضاءات جديدة متخيَّلة، تجعلك تقف على أرضين في آن واحد: أرض روائيَّة، وأرض شعريَّة تلمس فيها عُشب القصيد..
كثيرًا ما جاء أمام المتلقي حقيقة كشفت عن روح الشاعر التي طغت على لغة الرواية.. مكَّثفةً حينًا وملوِّحة من بعيد حينًا آخر..
إلا أنَّها كانت واضحةً جليَّةً في تلك (القنطرة) المعنونة ب “على شرفة وحيدة” ..
في هذه (القنطرة) طفت اللغة الشاعريَّة بائنةً على السطح؛ ويكأنَّكَ ترقص فوق السحاب، فتحوَّلت خطى التتبُّع إلى خطى نقلتنا من الأرض إلى سماءٍ خلقها الشاعر الروائيُّ؛ ليراوح بها بين أرض الواقع الحقيقيِّ، وواقع الرواية المتخيَّل الذي فجَّر فجأةً شعاعًا ساطعًا في تلك (القنطرة):
“تجلس لا لك ولا عليك تتحسَّس الوقت بيدين من خوفٍ وذعر، وروحك قمح شاع في الحقول بلا صاحب أو معيل، لا وقت لك في الوقت وأنت سانح لكلِّ هباء، منثور كأنكَ فرط ورق أصفر تساقط عن الشجر في خريفٍ وراح يعدو في الجهات لا يدري من أين إلى أين، تلك أرض سانحة للطيران فوقها دون أن تبحث عن مهبط لائق للنزول، وتلك جدران لا تحفل باصطدامك فيها، حتى أنها لا تشعر باصطدامك على الإطلاق، من أنت لتظنَّ بأنها ستنتبه لك؟
من أنت لتشعر بمرورك عن كاحلها الإسمنتي الصلب؟ ولست سوى ورق خفيٍّ لا وزن له في ساحة الأوزان إذا ما تقابلتما صدفة في مكيال أو وحدة قياس وزن أو حيِّز فضول ومساحةٍ.” ص(٧٤)
إنَّ تلك اللغة الشاعريَّة التخييلية التي طغت على هذه (القنطرة) بكثافة عالية احتضنتْ المتلقي وضمَّته إلى كنفها؛ لتفتح آفاق التخيُّل في حيزه الشعوري وتفتِّق الرؤى في مخيلته وتمدِّدها..
ببراعة حسِّ الشاعر الذي اتكأ عليه (قواسمي) لينقلنا من عالمٍ واقعيٍّ داخل واقعيَّة الرواية إلى مستوىً ذهنيٍّ أعلى سموًّا كان كفيلًا برسم ملامح التيه والألم والعزلة والوحدة ببراعة فائقة أدَّت إلى مواجهة الذات الفرديَّة، ثمَّ الذات الجمعيَّة العربيَّة؛ لتتحسَّس مواطن التشظِّي بعد مواجهة واقع الحروب والهروب والهجرات..
في مواجهةٍ تبدَّت في قوله:” من أنتَ لتشعرَ بمروركَ عن كاحلها الاسمنتي الصعب؟ ولستَ سوى ورق خفيف لا وزنَ له في ساحةِ الأوزان إذا ما تقابلتما صدفةً في مكيال أو وحدةِ قياس أو حيِّز فضول ومساحة” ص(٧٤)
لقد وقف قواسمي طويلًا في هذه الرواية عند تعرية العربيِّ وصفعه مرارًا وتكرارًا بصورة ذاته بعد أحداث الأوطان العربية النافثة سمَّها في المحيط؛ ليجد نفسه بعدها معلَّقًا بين سماء وأرض لا جدار يستند إليه.. كما أنَّ نظرته إلى ذاته أمستْ مشوهةً تشوبها البعثرة والضياع والتيه..
وممَّا يجدر الإشارة إليه هو تلك الجدلية الزمنيَّة القابعة في الرواية كما قدَّمها قواسمي في خطابه تاليًا لزمن الرواية نفسها..
فقد جاء إفصاحه عن الزمن إفصاحًا مباغتًا يزجُّنا خارج حيِّز مفهوم الزمن الحقيقيِّ الذي نحيا في داخله ونمرُّ عبره.. نستوقفه تارةً ونستدرجه تارةً أخرى نحو الماضي لنعيشه من جديد.. أو نسافر معه نحو المستقبل لنحلمَ بيومٍ أفضل..
الزمن حضر في خطاب الرواية مختلفًا عكسته اللغة ببراعة فأخرجته عن مفهومه الأصليِّ الكامن في أذهاننا الجمعيَّة ثمَّ الفرديَّة.
وذلكَ في غير موطن كان أهمها :
“تأخذ مكانًا قصيًّا لكنه قريب من مكان توقف القطار وساحة نزول الركاب، تراقب ساعتك التي صارت أبطأ من المعتاد وكأنها نملة عرجاء تجرُّ حبَّة قمح ثقيلة إلى مكا ٍن ما، تقلبها مرَّة لليمين ومرَّة لليسار ومرَّات تنقلب رغمًا عنها تحتها لكنها لا تيأس وتواصل المحاولة لكن ببط ٍء شديد.
السادسة تمامًا …” ص (٨٢)
أمَّا تلك (القناطر) فقد جاءت كلُّ (قنطرة) معنونة بعنوان متعلِّق مباشرة بما سيستجرُّه من خطابات في النصِّ لاحقًا ..
لنجدَ أمامنا بُنىً نصيّةً تنهال متلاحقةً، لا يكتمل أحدها إلا بالإتيان بالقطعة اللاحقة ..
كما المرايا المهشَّمة التي إن تكبَّدتْ مشقَّة تجميع أجزائها ولملمتها فُزتَ بعدها بجداريَّةً بديعة ساحرة تشعُّ جزئياتها لتروي جداول الحكاية..
إلى أن تبلغ ذروة الحدث.. ثم تنحدر رويدًا رويدًا نحو شطآن النهايات..
وللذاهبِ نحو قراءة هذه الرواية قراءةً نقديَّة طويلة مستفيضة فيما بعد، له أن يجد خير مادة في تتبع سيميائيَّة العنوانات الداخلية تتبعًا يخدمه في دراسته السيميائيَّة إن ما ارتأى ذلك..
كما أنه سيقف طويلًا أمام خطابات عديدة ومتنوعة بين الخطاب الثقافيِّ، والخطاب الدينيِّ،والخطاب الوجوديِّ الأعمِّ الذي انطلقت منه هذه الرواية حتى بلوغ محرابها ومستقرِّها..
وبعد..
فإنه يبقى أن نقول: إنَّ رواية (سماء صالحة للرقص) هي نتاج جدليَّة الشعر والفلسفة، ثمَّ الذات في رحلتها الوجوديَّة وسؤالاتها اللا منتهية..
كما هي سامقة في استجلاء همِّ الذات العربيَّة خاصة مقابل الذات الإنسانيَّة عامَّة في رحلة الحياة المقابلة لما بعدها..
كما يليق لنهاية الرواية حضور الفاصلة(،) لا النقطة(.) بعد الفروغ من مواجهتها فروغًا يحملنا على إعادة رؤية الكون من حولنا وصياغته وفقًا لما حمله النصُّ الروائيُّ من أسئلة فلسفيَّة ووجوديَّة تستدعي تتمة الحديث ومحاولة تشريع النوافذ أمام سيل جارف من الأجوبة التي يمكنها مداهمة أذهاننا أثناء رحلة القراءة..
ويبقى السؤال الحاضر ها هنا: كيف لنا أنْ ندسَّ الجمال ونحنِّطه تحنيطًا يستبقيه فينا زمنًا أطول رغم استعذابه تحريض الأنَّات فينا!!
وأنىَّ لنا أن نرفع منسوب الماء المنهدر في نهرٍ مررنا به تحت قناطر (سماء صالحة للرقص) كلَّما ضربته شمسٌ صيفيَّة وبخَّرتْ بعضًا منه!
ثمَّ أنَّى لي أن ارتدي بعضًا من لغتها الراقصة بين سماء وأرض لم تجد لها وطنًا!
شكرًا ناصر قواسمي لهذا الإبداع المتميِّز..
( د. ريمان عاشور / اسطنبول )
سيدتي الجميلة ، الأديبة المبدعة ، الدكتورة ريمان عاشور …
برشاقة حرفك سيدتي أخذتنا إلى سموات الصديق الأديب ناصر قواسمي . عشنا معه كل ما مرّ به من حب، معاناة، غربة، شوق، وشغف …
رقصنا معه في سماواته ، حلّقنا فيها بشاعريَّة حققت لنا متعة ولا أجمل ولا أشهى تلمسنا فيها عُشب القصيد..
سيدتي ، لقد شَرّعتي النوافذ أمام سيل جارف من الأجوبة التي يمكنها مداهمة أذهاننا أثناء رحلة القراءة …
أشكرك من القلب لجهدك الرائع الذي تجلّى بأجمل تنظيم لا يترك للقارىء مجال للملل أو التعب …
أنا أنت صديقي ناصر قواسمي ، أقول لك أن قصتك وكما تفضلت به الدكتورة ريمان عاشور تستدعي تتمّةً ، ربما بتُحفةٍ أُخرى من جمالات فكرك …
دمتما وسلمتما الأجمل …