زاوية ” شهرياد الكلام تستضيف اليوم الدكتور قصي حسين في مقالة إجتماعية له , قال فيها ;
غيارى
الغيارى اليوم على لبنان كثيرون. نسمعهم يوميا، وهم ينوحون على لبنان. يتحسرون على جباله التي نهشتها الكسارات. ويتحسرون على أوديته الملأى بالردميات. يتحسرون على شواطئه الغرقى بالمياه السوداء . يتحسرون على هوائه الملوث وعلى مياهه الملوثة وعلى الثروة السمكية النافقة، في البحر والنهر والسد.
تراهم يبكون عهدا مضى، كانت فيه الطبيعة بكرا خلابة. كانت فيه قمم الجبال، مرعى النسور ، وكانت هضابه، مرعى أسراب الحجل. وكانت الأرض للخيرات، ولبركة السماء.
يبكون الغيارى ويتحسرون وينوحون، على أيام التواصل بين القرى، وبين الأقضية وبين المحافظات. يبكون ويتحسرون، على أيام التواصل بين العائلات.
يقولون أن الحدود، ما كانت بعد، مكتشفة على يد اللعينين: “سايكس- بيكو”. وأن الناس، كانت تذهب إلى حمص وطرطوس وأرواد ودمشق. وتذهب إلى القدس ورام الله والناصرة وعمان وبيت لحم.
يقولون لنا، أن قطار الحجاز، كان يأتي ليقل الناس، إلى العواصم. يصل بين بيروت وإسطنبول وأوروبا، ويصل بين بيروت ومكة والمدينة وبغداد. ويصل بين بيروت والقدس وعمان. ويصل بين بيروت ودمشق وحمص وحماه وحلب.
يتحسرون على لبنان. كان درة الشرق. وكان مطبعة الشرق. وأنه كان فندق الشرق. وأنه كان مستشفى الشرق. وأن بيروت كانت كتاب العواصم وصحيفة المدن ومجلة البلدان.
ترى “غيارى” على لبنان، يتألمون من شدة الأحزان. ذهبت المرافئ، وذهبت المراكب وذهبت التجارات وذهبت الرحلات.
لم يعد تراب لبنان ذهبا ولا ماؤه لجينا ولا هواؤه، مطلب المصطافين والزوار والسياح. ولا قبلة الرحالة، ولا قبلة البلدان.
غيارى لبنان، يجهلون ويتجاهلون من كان على رأسه: من بكوات ومن أغوات ومن مشايخ ومن أعيان. من كان على رأسه، من أفندية ومن خواجات. من كان على رأسه، من عمائم ومن قلل ومن قلانس ومن كوفيات. ومن لحى، ومن شوارب، ومن شنبات.
غيارى لبنان، لا يعرفون من كان على لبنان من قبضايات ومن جنرالات، ومن زعماء، ومن عصب ومن عصابات.
غيارى لبنان، أكلوا خيره، حين كان طبقه دسما، ثم بصقوا ، بكل بغي ونزالة، وقحة، في الطبق.
غيارى لبنان يتشدقون اليوم بحبه، ويجهشون بالبكاء لمصائبه. ويلعنون النحوس التي حلت بهم.
يمضون في غيهم، ولا يسألون، ولا يتساءلون، كيف أوقعوا ببلدهم، حتى صار بين أيادي غيرهم.
إنجروا إلى الدسيسة، وإشتغلوا بالخسيسة. ومزقوا الناس ومزقوا البلدات. وتراهم اليوم يقفون ويندبون.
نسل خسيس من نسل خسيس. هم هؤلاء الغيارى أنفسهم. زمر من السماسرة والجواسيس. زعيمهم جاسوس أو سمسار، أو بائع هوى. يقف أمام الوطن المغدور بأهله، فيقول له الوطن، كما في المثل: “يداك أوكتا، وفوك نفخ”.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية