فضاء المقهى
في العادة، يبحث المرء عن فضاء له. لا يستطيع أن يعيش بلا فضاء يستظله. فهو سقف الحركة وسقف الهدوء والسكون والراحة الناعمة.
كان القدماء يسكنون إلى فضاء الدارات والديارات وسقوف الأماكن العامة. كانت السقيفة مهجعهم. هناك كانوا يرتاحون ويتبيؤون. وكانت دور الندوة تلبي إجتماع الناس إلى بعضهم البعض. كذلك كانت دكك الأسواق، مثاوي ومتكآت الراحة لمن يريد أن يأخذ قسطا منها. جعلها تجار السوق وحدة أليفة للناس في السوق. وزودوها بالسبل والبرك وصنابير الماء. وكانت عادة ما تتوسط ملتقى الأسواق، حتى يتسنى للزائرين والرواد الإجتماع إلى بعضهم. وتداول الشؤون العامة من خلال الإحتكاك ببعضهم والتعارف إلى نسيجهم وعاداتهم. بالإضافة إلى تبادل الألسن واللغات واللهجات. وهذا ما كان يمهد إلى التقارب والإنسجام وتبادل الخبرات. وربما كانت تلك الفضاوات تنسج أولى الخيوط الثقافية بين الأقوام، ولدى الشعوب. فتصير الثقافات إلى الوحدة، مع الحفاظ على التنوع الذي يغنيها، ويجعل منها أسلوب حياة وعلم. وكذلك أسلوب مجتمع.

تأخرت المقاهي عن الظهور، إلى ما بعد الأندية والمنازيل. وبرزت في الأسواق كمتاجر للشراب والمآكل والراحة والتبيوء. وعرفت المجتمعات هذا النوع من المتاجر منذ قديم الزمان. ثم أخذ الناس في تطويرها وإغنائها وجعلها فضاء الراحة لهم. وصار الناس يقصدون هذة الفضاوات، طلبا للراحة، مقابل بعض المشتريات، من مأكول ومشروب، وما زاد عن ذلك من حاجات وأدوات. ويوما بعد يوما، كانت هذة المتاجر والمحال والدكاكين المستجدة، تلبي حاجات الناس للراحة والإستجمام. فيقصدها الزوار من الغرباء للإحتكاك بأهل المحال والنواحي، بغية التقارب والتعارف والتنادي.
مدينة مونتريال- Montréal، هي من أوائل المدن في القارة الجديدة التي ذاعت شهرتها لكثرة المقاهي والأندية فيها. إلى جانب المطاعم ودور اللهو والشراب. تمتلئ شوارعها وساحاتها بهذا النوع من الأسواق. بحيث يشعر الزائر حين ينزل إليها، أنها في مهرجان دائم.
عرفت هذة المدينة الحديثة العهد كيف تجعل من مقاهيها فضاوات واسعة لجميع الأجناس والأعراق. عرفت كيف تمازج وتخالط بين أهل الغرب وأهل الشرق. وكذلك بين أهل القارات الخمس. فصار فضاء مقاهييها للناس جميعا. ولو أننا نجد في بعضها غلبة اللون والعرق.
تتأخر مقاهي مونتريال- Montréal في فتح أبوابها قليلا. فعمالها لهم نظام خاص في العمل، يناسبها. و يتأخر بعضها في المساء، حتى بلوغ الفجر. فترى الناس فيها شبابا وكهولا وصبايا وشابات، وقد إجتمعوا. وربما إنفردوا. يأخذ الزائر لها حيزه من فضائها، ويرتاح فيه. يسلو عن كل شيء. ذلك أن فضاء المقهى في مونتريال- Montéral، أشبه بفضاء عام للسلو وللراحة، حتى ساعات الفجر الأولى.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين