العيد عن بعد
مثل زمن كورونا، يتسع لي فضاء المقهى في مونتريال- Montréal اليوم. كان واسعا جدا في زمن كوفيد -بيروت. كنت أرى المقهى مهلهلا مثل ثوب فضفاض، لا يسكنه أحد. كنت أراه مشرعا للشمس والمطر و الريح، تضربه من جميع الجهات. ولا يأبه. ما همه الزوار. أماتت الوحشة روحه، فما كان يشعر أنه يعيش وحده. أن الرصيف إليه أنبت العشب بين صفوف بلاطاته الصارخة. فلا أحد يدوس أرضه. ولا أحد يمر به. ولا أحد يسلم عليه.
مثل مقهى معزولا في زمن كوفيد، يحل عيد الأضحى-2025 علي اليوم. وافدا من بعد يرمقني وأرمقه، نعانق معا العزلة الواحدة. كان كوفيد أرحم بعزلة المقهى. ظل يمتص شهقاتها عاما بأكمله، حتى عادت إليه روحه. حتى عاد الناس إليه وإمتلأت أحشاؤه فرحا وبهجة وسعادة. أما العيد معزولا بي، في مقهى مونتريال- Montréal، فله حساب آخر. له مرارة العلقم، بلا زيادة أو نقصان…
حقا أصابني العيد لأول مرة عن بعد. كنت في المقهى أذوق العزلة وحدي. والناس قيام حولي بلا مساجد. كنت أشعر نفسي بنفسي، أنني عيد معزول في مقهى فضفاض علي. أتذوق طعم العزلة. تماما مثلما يذوق العيد بي مرارة عزلته. مرارتان تصنعان حلاوة عيد عن بعد. تمر بي الثواني البهيجة، تلوح لي من خلف قضبان الهواء. ومن بين خيطان الشمس. وأنا منشغل عنها. أصنع منها عنكوبة زمن جديد. أحيكها بعيني. أصغي إلى الصنارتين تحيكان لي ياقة العيد. تنسجان عرى زمنه الجديد. وتتخذان منه بردتي، أو حلتي، أو ردائي الجديد. ما إرتديت مثله طيلة زمني، بعقوده الثمانين.
آه ما أصعب العيد عن بعد! كل نسمة كانت تهفو إلى مسمعي، تحمل معها الكلمات والبسمات وتهاني العيد. صغار يحتفلون حولي. يحتفوني. أراهم في وحشة العزلة ولا يروني. أخاطبهم لأول مرة عن بعد. من خلف زجاج الهواء. كان هواء الصباح شفيفا في مونتريال-Montréal، وأنا في عزلة المقهى. أصغي جيدا إلى لعثمات الأحفاد. أصنعها بعيني، حتى لا تضيع مني تلك البرهة التي حطت فجأة فوق طاولتي. نزلت في كأسي. وذابت في. جمدت زمني. ما أجمل أن يحسو المرأ عزلته. ما أمر أن يمر عليه العيد عن بعد. ها هنا في معزلي، على رصيف المقهى، ما عدت أشعر بيدي. ولا بعيني. ما عدت أحس، بمن يجيء فجأة. ولا بمن يمضي على عجل. ولا بمن يغمرني، إلا عن بعد.
سكون، كل ما حولي. سكون كل من حولي. كأنني أمام شاشة لألعاب الفتيات والفتية.كأن كل شيء حولي مجسمات. كأنني صرت جاثيا على “ماكيت”. غدا يفردها زمني، عمارة جميلة من حجر وروح. بستانا فيه من كل طعم ولون.
العيد عن بعد، له طعم الذاكرة: أذكر أنني عادني. ثم عادني مرات ومرات. أذكر أن أطفالا عانقتهم وعانقوني. أذكر أن أخواتي وأخوتي عانقتهم وعانقوني. أذكر أنني نهضت لأقبل يد أمي. يد أبي. يد عرسي. يد أعمامي وأخوالي. يد عمي الشيخ. وأنا الآن عن بعد، أشدهم إلي بخيط الدهشة: غادرتهم وغادروني. تركوا في عنقي ريحهم. ما أجمل ريح العيد عن بعد.
لماذا هواء هذا الصباح بارد. لماذا النسيمات تلامس خدي بمناديل الجفاف. لماذا ينشف الدم في عروقي فجأة، حين يمر في ناظري العيد عن بعد.
سألتكم. سلوني، فما أعرف سببي. ولا عرفت أسبابي. أعرف شيئا واحدا: أنني اليوم مثل مقهى كورنا بلا ناس. وأن ناس العيد ليسوا حولي. وأن في فمي ماء: مرارة العيد عن بعد.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين