سعاد الصباح ..من حرية المرأة إلى حرية القصيدة
-×-×-×-×-×
كتبت : د.وفاء مرزوق/ الجزائر
هي وردة البحر وشجرة الفل ونخلة الخليج الوارفة، شاعرة جادت بقلمها خارج سلطة القبيلة، وواجهت قدرها الشعري بقلب تمرد على الخوف والقمع والخنوع، عرفت كيف تشق طريقها في عالم الكلمات، فكانت تنساب بين ربوعه كجدول من المياه العذبة، وكقصيدة تكتب نفسها بحبر الأنوثة وعطر الياسمين ..هي شاعرة شديدة المراس، لينة الإحساس، عميقة الوجد، نبيلة اللغة والمشاعر..
في لغتها شاعرية، وفي شاعريتها أنوثة حاضرة تملأ حروفها عزة وكبرياء، هي الشاعرة الحرة المستقلة في الفكر والعاطفة والتعبير والاختيار، أيدت حرية المرأة واستقلالها الكامل عن أي سلطة أخرى غير سلطة العقل والضمير، فكتبت عن الحب بقلب امرأة عاشقة وواثقة، وعن الظلم الإنساني بعقل رافض ومناهض للسيطرة والاستبداد، وعن التمييز الجنسي بضمير لا يقبل الاستسلام والمفاضلة، خيالها الواسع تخطى بها حدود النفس إلى حدود الشمس، فهي امرأة بلا سواحل، وكويتية تتجمل بمكحل العروبة وسحر الشرق وأصالة الخليج.
في شعر سعاد الصباح نقرأ الكثير من الحب والكثير من العنفوان، فهي شاعرة الأنوثة وقصيدتها التي لا تريد أن تنكسر، وهي العربية التي تزهو بعروبتها وانتمائها الضارب في أعماق التاريخ، والمرأة التي تتباهى بجنسها وتفرض وجودها وكينونتها ضد كل فكر رجعي ووصائي، صنعت ثورتها ضد أولئك المتربصين بالضمير الأنثوي ويريدون تحويله إلى ضمير مستتر وضمير للغائب والمبني للمجهول، فجاء أسلوبها مستنكرا لكل تلك العمليات القسرية التي ترمي إلى إجهاض صوت الأنوثة والعبث بأقدارها، كتبت للحب وللحبيب وللمرأة وللشعر وللوطن، كما كتبت لرموز جلية في قصائدها، كالأنوثة والبطولة والرجولة والطفولة والعزة والإباء والوفاء والانتماء والعروبة والأصالة والثورة والسلام..
ديمقراطية الشعر
عند سعاد الصباح
سعاد الصباح شاعرة ثائرة ليس على الرجل، وإنما على الذكورة المتسلطة والمتعالية، وعلى الأعراف والتقاليد البالية، ومؤسسة لنهج حضاري مبني على الحب والحرية والمشاركة، يتعامل مع المرأة كشريكة في الرأي والقرار والمصير..
تقول عن نفسها:
أنا النخلة العربية الأصول
والمرأة الرافضة لأنصاف الحلول
فبارك ثورتي..
هكذا تعبر سعاد الصباح عن انتمائها وعن ثورتها وعن مبادئها الديمقراطية الراسخة التي تنتزع للمرأة حقوقها وحريتها كاملة من دون مساومة أو مشاطرة، بل وتعتبر أن من أهم ركائز النظام الديمقراطي، ليس المجاهرة بالرأي السياسي فحسب وإنما امتلاك الخيار في الحياة أيضا ومنه الخيار العاطفي الذي ينبغي أن يكون للمرأة حق في الإفصاح عنه كما للرجل تماما دون خوف أو تجريم أو تهديد.
ليست الديمقراطية
أن يقول الرجل رأيه في السياسة
دون أن يعترضه أحد
الديمقراطية أن تقول المرأة
رأيها في الحب..
دون أن يقتلها أحد
اتخذت من كلماتها سلاحا للدفاع عن الأنوثة وقضايا المرأة، فآمنت بقوة الشعر، وقوة التغيير من خلال الكتابة، فكانت غايتها الأولى كسر كل تلك الأسوار الزائفة التي تحيط بالأنثى وتكاد تخنقها في سجنها الوهمي، هكذا تقول، إنها تكتب لأن الكتابة هي الوسيلة التي تتقنها وتستخدمها للدفاع عن كل شبر من الأنوثة المحتلة ظلما وقهرا.
أريد أن أكتب..
لأدافع عن كل شبر في أنوثتي..
فالكتابة هي وسيلتي
لكسر ما لا أستطيع كسره
من قلاع القرون الوسطى
وأسوار المدن المحرمة
الشاعرة الكويتية سعاد الصباح
تحضر الأنوثة كطيف ملازم لها في كتاباتها عن الشعر وللشعر أيضا، إذ تقول في إحدى قصائدها:
أنا شاعرةٌ ذات خيال
ينشد الحسن, ويستوحي الجمال
ربما ألفيته في وردةٍ
في كتابٍ… في دعاء… في ابتهال
تتساءل أيضا لماذا يصبح صوت المرأة عورة أو رذيلة وربما ينظر لها بنظرة دونية سيئة وكـأنها كسرت جدار الفضيلة ولماذا لا يكون حضورها طاغيا كحضور الرجل، في وقت وصل فيه إنسان هذا العصر إلى سطح القمر.
يقولون:
إني كسرت بشعري جدار الفضيلة
وإن الرجال هم الشعراء
فكيف ستولد شاعرة في القبيلة
وأضحك من كل هذا الهراء
وأسخر ممن يريدون في عصر حرب الكواكب..
وأد النساء..
وأسأل نفسي:
لماذا يكون غناء الذكور حلالا
ويصبح صوت النساء رذيلة
كما تردف متسائلة عن جدوى التمييز ما بين المرأة والرجل، وإقامة الحواجز والجدران الوهمية بينهما، مادامت الطبيعة نفسها في انسجام مع مكوناتها، ولا تصنع كل هذه الفوارق:
لماذا؟
يقيمون هذا الجدار الخرافي
بين الحقول وبين الشــــجر
وبين الغيوم وبين المطر
وما بين أنثى الغزال، وبين الذكر؟
ومن قال؛ للشعر جنس؟
وللنثر جنس؟
وللفكر جنس؟
ومن قال ان الطبيعة
ترفض صوت الطيـــور الجميلة؟
سعاد الصباح
والضمير الأنثوي
تكتب سعاد الصباح من منظور الشاعرة التي تمرست في الحياة وخبرت أسرارها وخباياها، فهي تدرك مكنونات المرأة وعوالمها الخاصة، وتحاول أن تعيش معها حواديتها الصغيرة والكبيرة، نبضا بنبض، وحركة بحركة، ولذا جاء معظم نتاجها الشعري تعبيرا عن هموم النساء ككل، وليس فقط عن الذات، وحتى في تلك القصائد التي تحمل أنا مباشرة، فهي في الواقع تعبير عن أنا المرأة بعامة، لأنها حقيقة لم تميز نفسها عن بنات جنسها، عدا أن تكون لكل قصيدة أبعادها وتفاصيلها.
يا صديقي:
انا ألفُ امرأةٍ في امرأةٍ
وأنا الأمطارُ
والبرقُ
وموسيقى الينابيعِ
ونعناعُ البراري.
وأنا النخلةُ في وحدتها
وأنا دمعُ الرباباتِ،
وأحزانُ الصحاري.
تقول أيضا في قصيدة أخرى تتحدث فيها باسم النساء عامة:
سأعلن باسم سُعادٍ،
وهندٍ،
ولبنى،
وباسمِ بتولْ
***
سأثأرُ..
للحائراتِ ،وللصَّابراتِ..
وللقاصراتِ اللواتي اشتريتَ صِبَاهُنَّ..
مثل البذارِ..ومثل الحقولْ
سأصرُخُ :
باسم العذارى اللّواتي
تزوَّجتهنَّ..
وطلَّقتهُنَّ..
كما تشترى، وتباعُ الخْيُولْ
هي في حالة حب دائمة لا شفاء منها لأنها كباقي النساء تحاول أن تصنع قوتها، فهي تريد الحب لكنها لا تريد الاستسلام أو التنازل شبرا عن كرامتها.
أنا في حالة حب.. ليس لي منها شفاء
وأنا مقهورة في جسدي
كملايين النساء
وأنا مشدودة الأعصاب..
لو تنفخ في داخل أذني لتطايرت دخانا في الهواء
وفي قصيدة أخرى تقول مشفقة على وضع النساء، مشيرة إلى جمال حضور المرأة ومكانتها وضرورة مشاركتها في الحياة العامة، لأن السعادة لا تكتمل إلا بإشراك النساء في بناء الدولة والمجتمع بكافة مكوناته.
هذي بلادٌ أكلت نساءها
واضطجعت سعيدةً
تحت سياط الشمس والهجير
هذي بلادٌ تكرهُ الوردة إن تفتّحتْ
وتكره العبير..
خطاب مزدوج
ونداء للمساواة
تخاطب سعاد الصباح الرجل من منظورين، منظور المرأة الحبيبة العاشقة التي ترنو إلى السلام العاطفي، وترى في شريكها طيب النفس وجميل الخصال، ومنظور المرأة الثائرة والمستقلة التي ترفض عقلية الرجل المتحجرة والمتسلطة التي تزدري المرأة ولا تعترف بانتصاراتها، وتعتبر الأنوثة تهمة أو وصمة عار، وليس في ذلك تناقض فهي تريد للرجل أن يكون صديق المرأة قبل كل شيء، يحاورها ويخاطب عقلها ويعاملها بوعي وتحضر، لا بعنتريات وغراميات لا لزوم لها، وذلك ما عبرت عنه في معظم قصائدها، وكان واضحا جدا ومباشرا في قصيدتها “كن صديقي”:
كم جميل لو بقينا أصدقاء
إن كل امرأة تحتاج الى كف صديق
فلماذا أيها الشرقي تهتم بشكلي؟
ولماذا تبصر الكحل بعيني
ولا تبصر عقلي؟
إني أحتاج كالأرض إلى ماء الحوار
فلماذا لا ترى في معصمي إلا السوار؟
غير أنها تلوم بعض الرجال على تلك العقلية الأنانية التي ما زالت تترصد بالمرأة وتتنكر لها، على الرغم من الانتصارات التي أحرزتها في شتى الميادين، وعلى الرغم من حضورها الطيب في المجتمع، كعطر الورد والياسمين في الحقول والبساتين، فهل يعقل أن يكون هناك من يكره الروائح الزكية.
يا سيدي:
إن كنت تعتبر الأنوثة وصمة فوق الجبين
فما الذي أبقيت للمتحجرين
يا أيها الرجل الذي احتكر الذكاء
يا أيها القمر الأناني
الذي اغتصب السيادة في السماء
يا من تعقدك انتصاراتي
وتكره أن ترى حولى ألوف المعجبين
يا من تخاف تفوقي..
وتألقي..
وتخاف عطر الياسمين
هل ممكن أن يكره الإنسان عطر الياسمين
جميل أن تعترف المرأة بعواطفها وتصدح بها، جميل أن يكون الحبيب ملجأها الآمن والحنون، لدرجة أنه يعيد ترتيب أيامها وتشكيل أنوثتها التي لطالما دافعت عنها بقوة، فهي تريد الرجل الذي يفهمها، لا ذلك الذي يمتهنها ويلقي بها في الجحيم..
يا سيدي يا الذي دوما يعيد ترتيب أيامي
وتشكيل أنوثتي..
أريد أن أتكئ على حنان كلماتك
حتى لا أبقى في العراء
وأريد أن أدخل في شرايين يديك
حتى لا أظل في المنفى..
تعترف سعاد الصباح على لسان المرأة بأن انتماءها الوحيد هو الحب، والحب هو كل ما نحب، وما لحواء سوى آدم وآدم لحواء، فتعود بذلك إلى وطن المرأة الأول وهو الرجل، فهو رفيقها في رحلة الحياة، فمنه ينبت العالم، ومنه ينبت الحب، ومنه تنبت النساء، وكل ما بقي، كما تقول، هراء بهراء..
انتمائي هو للحب..
ومالي لسوى الحب انتماء
وطني..
مجموعة من شجر الليمون في صدرك..
والباقي هراء بهراء..
الكاتبة الجزائرية د. وفاء مرزوق