كتب د. جوزاف ياغي الجميّل :
العشق في “سباق…” بين التوتر الوجودي والحضور العشق
أولاً: من البنية إلى التجاوز
تبدأ قصيدة سباق للشاعرة عبير عربيد من بنية لغوية مشحونة بتوتر داخلي، حيث تتحول الكلمات الظرفية (“متى”، “ثمّ”، “أين”، “بين بين”) إلى وحدات بنائية دلالية تستبطن حركية الوعي. لكنها لا تبقى ساكنة داخل البنية، بل تتجاوزها، بفعل التجربة الشعرية، إلى عالم تمثّلي رمزي يستبطن الحضور الصوفي.
”نتسابق وعقارب ال ‘متى'”
هذا السطر لا يُبنى فحسب على استعارة الزمن كخصم، بل يؤسّس لمعادلة شعريّة يتجاوز فيها الزمن مفهومه الفيزيائي ليصبح كثافة وجدانية، تتفاعل فيها الذات مع غياب الحبيب/المطلق.
ثانيًا: التجربة التكوينية – الشاعر والوجود
من منظور التكوينية، ينطلق النص من ذات شاعرة محمّلة بقلق معرفي وشوق وجودي، يتجلى في تكرار الأسئلة الزمنية والمكانية بصيغ رمزية. الزمن لا يعود ترتيبًا، بل عائقًا للوصال، والمكان لا يعود تحديدًا، بل حالة تيه.
”رياحٌ تعبث ب ال ‘ثمّ’ / يخفيها الغبار”
هنا تتشكل التجربة الشعرية من تصادم بين الواقع المحسوس والتوق العشقي. “الرياح” و”الغبار” ليستا عناصر طبيعية، بل كثافات رمزية تمثل فوضى العالم الخارجي، مقابل يقين الذات الحُبّيّ.
الشاعرة عبير عربيد
ثالثًا: اللغة كمرآة للعشق
القصيدة تُبنى على لغة “بينيّة”، تتأرجح بين الغموض والوضوح، وتُمارس انزياحًا دلاليًا يجعل كل ظرف زمان أو مكان علامة على اللايقين، وهذا يحيلنا إلى التجربة الصوفية في تجريد اللغة من محدوديتها.
”فتتوه ال ‘أين’ في ال ‘بين بين'”
هذا السطر يبلور التيه البنيوي، حيث تنهار الحدود الفاصلة بين الجهات، وتتحول اللغة إلى فضاء تأويليّ مفتوح، تمامًا كما يفعل الصوفي حين يُخلخل المعنى ليبلغ “اللامعنى” كأعلى درجات الإدراك.
رابعًا: التحوّل من البنية إلى الكشف
القصيدة لا تبقى أسيرة بنية مغلقة، بل تنفتح في نهايتها على الكشف الحُبّيّ، وهو أرقى درجات التكوين الشعري الصوفي:
”لنغفو / بأنامل متشابكة / وندرك / حيثيّة ال ‘حيث’ / في حلم من يقين…”
هنا يحدث الانفراج البنيوي: من التوتر إلى الانسجام، من السؤال إلى التسليم، من الانفصال إلى التوحّد. وهذا الانفراج ليس بنيًا فقط، بل هو تحوّل أنطولوجي – من “أنا” إلى “نحن”، ومن حضور لغوي إلى حضور نورانيّ.
خامسًا: البنية والدلالة الكبرى
بتطبيق المنهج البنيوي التكويني، يتضح أن القصيدة لا تُفهم بمعزل عن بنية الداخل (التوتر العشقي) وبنية الخارج (السياق الثقافي-الصوفي). فالنص يستند إلى تراث عشق متعالٍ، يستلهم مفاهيم الحلاج وابن عربي والرومي، ليعيد إنتاجها في شكل شعري حديث، مكثف ومشحون بالتوتر المعرفي والجمالي.
خاتمة تكوينية
إن قصيدة “سباق…” ليست نصًا منفصلاً عن السياق، بل هي تجلٍ لغويّ لتجربة عشقية معيشة، تُمسرِح الذات داخل الزمن، وتُغيّب المكان لصالح الحضور. وبهذا، تكتمل عناصر القراءة البنيوية التكوينية:
بنية لغوية مشحونة
تجربة تكوينية ذاتية وجودية
تأويل صوفي يعيد ترتيب المعنى
وختامًا، فإن العشق هنا ليس موضوعًا، بل بنية تأسيسية للقصيدة، ينبني عليها الشكل والدلالة، ويتجاوز بها النص ذاته، ليصير مرآةً للحقّ، كما في قول الرومي:
”العشق نَفَسُ الله في التراب.”
د. جوزاف ياغي الجميل